بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث عن هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل لما أمرهم موسى بذبح البقرة، وما أجابوه به، وما حصل منهم من التباطؤ والتكلف في السؤال إلى أن ذبحوا هذه البقرة، فأحيا الله القتيل ودلهم على قاتله.
قال الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على هذه الواقعة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] واذكروا وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا يعني حين قتلتم نفسًا، فأضاف هذا القتل إلى المجموع باعتبار أنه صدر من بعضهم، فهو ليس بخارج عنهم، فصاروا يتدافعون ذلك.
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا كل فئة تدرأ ذلك عنها، وتدفعه إلى غيرها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وتخفون بشأن هذا القتيل.
فهذه الآية التي جاء التعقيب بها جاءت متأخرة بعد القصة، وفي البداية حصل القتل وحصل التدافع فأمرهم موسى بأن يذبحوا البقرة، لكن ذلك جاء مؤخرًا في الذكر وإلا فالواقع أن ذلك من حيث الحصول أنه متقدم على أمرهم بذبح البقرة.
وبعض أهل العلم يقولون في توجيه هذا التأخير: أنه في مقام، هذا المقام مقام ذكر مساوئ بني إسرائيل، ومثالب بني إسرائيل، ومعايب بني إسرائيل على سبيل التفصيل، فلو أنه ذكر هذا في البداية لكان السياق واحدًا، يعني أنهم قتلوا قتيلاً فتدارؤوا فيه فموسى أمرهم لحل هذا الإشكال أن يذبحوا بقرة، لكن لما قدم الأمر بذبحهم بقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هذا يعتبر بمفرده، يعني هذه الآيات التي أجابوا موسى وأجابهم في هذه السؤالات، وما قالوا قبل ذلك: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] أن هذا يدل على عنتهم وتمردهم.
ثم بعد ذلك أيضًا قتل هذا القتيل، وكل طائفة تتهم به الأخرى، وتدفع التهمة عنها، فهذه كأنها منفصلة، فمقام بيان العيوب والمثالب يقتضي التفصيل، فهذا ليس بمقام إجمال -والله تعالى أعلم.
ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] أن إظهار الحقائق للناس والبيان الذي يبينه الله -تبارك وتعالى- لهم فيما يحتاجون إليه أن هذه من نعمه الجزيلة على عباده التي يمتن عليهم بها، الله -تبارك وتعالى- أيضًا يخرج ما يكتمه أهل الباطل، ويبين الحق ويظهره، فيحذر الإنسان من أن يكتم شيئًا من الباطل والشر وما إلى ذلك، فإنه لا يخفى على الله والله -تبارك وتعالى- يفضحه بذلك متى شاء.
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] اضربوا هذا القتيل بجزء منها، ففي البداية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هنا مباشرة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أوحى إلى موسى ذلك، فهو مبلغ عن الله، وجاء هنا الأمر مباشرة من الله -تبارك وتعالى- فيحيا هذا القتيل الذي فارق الحياة ويخبركم بقاتله، ففعلوا فأحياه الله وأخبرهم، فهذا الإحياء الذي شاهدوه قال: كَذَلِكَ يعني: كذلك الإحياء: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى هذا الإنسان الذي خرجت روحه من جسده، وصار جثة هامدة تمامًا كهذا الجماد يعيد الله إليه الحياة من جديد فيتحرك ويتكلم ويعقل وهذا من أعظم آياته الدالة على قدرته وأنه يحيي الموتى.
وقلنا: إن هذا أحد الشواهد الخمسة في سورة البقرة التي تندرج تحت نوع من أدلة قدرته على البعث وهو أن أقوامًا قد ماتوا فأحياهم الله -تبارك وتعالى- من جديد، كل ذلك يريهم ربهم -تبارك وتعالى- الآيات الدالة، يعني العلامات الدالة على قدرته وكمال علمه وأنه -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يحيي الموتى قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73].
ومن أهل العلم من يفسر "لعل" في جميع القرآن بأنها للتعليل، كل "لعل" في القرآن يقولون: فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، والمصانع فسرت في الآية بمعانٍ من أشهرها أن المصانع هي القصور، يعني ما كأن الإنسان سيوضع في لحد، كأنه يخلد حينما يبني هذه القصور الفارهة، وما علم أنه سينتقل منها إلى حفرة جوانبها غبر، ليس فيها فراش ولا وساد، وليس هناك غطاء غير التراب، وليس معه زاد إلا العمل الصالح.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] من أجل أن تعقلوا بأن الله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يبعث من في القبور، وأنه -تبارك وتعالى- يجازي العباد على أعمالهم، ويحاسبهم، وأنه -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، وأنه يظهر ما خفي على الناس، أو أخفوه متى شاء، كيف شاء ولو بطريقة لا يتوقعونها، يعني من الذي يتوقع أن هذا القتيل سيحييه الله من جديد وينطق ويخبر عمن قتله، فهذا يحمل العبد دائمًا على مراقبة الله والاتعاظ والاعتبار.
يؤخذ من هذه الآية: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] هذا البعض مبهم غير محدد، فمثل هذا المبهم يتحقق المراد بأي فرد أو بأي جزء أو بأي بعض منه، يعني لو ضربوه بيدها أو برجلها أو برأسها أو ضربوه بكبدها فإن الله -تبارك وتعالى- يحييه فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] فهذا الإبهام يدل على أن ذلك يصدُق على أي جزء كان.
ثم أيضًا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا يعني الأخذ بمثل هذا والبعد عن التكلفات والسؤالات الخارجة عنه اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا بأي شيء كان، لكنهم بدأوا يسألون سؤالات لم يكلفوا بها، فالخروج عن المقصود لا شك أنه يؤدي إلى مفاسد كثيرة، تارة يؤدي إلى المشقة في التكليف، وكما ذكرنا سابقًا فيما يُذم من السؤال، وكذلك أيضًا يدخل فيه أو يحصل بسبب ذلك ضياع موطن العظة والعبرة وهذا كثير في حياة الناس، فإن مثل هذا يصرف الإنسان عما هو حري بالعناية ليحصل المقصود بالاتعاظ والاعتبار، سواء كان مما يتعلق بالقرآن أو بغيره، بالقرآن انظروا إلى كثرة التكلفات فيما يسمى بالمبهمات من القرآن، حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- خبر أصحاب الكهف، أين يقع هذا الكهف؟! وتجارب ودراسات، والشمس ودخول الشمس والزوايا وما إلى ذلك، وما الذي يفيد؟!
يوسف ألقي في بئر فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [سورة يوسف:10] أين هذا البئر؟! وما الفائدة، موسى تجلى ربه -تبارك وتعالى- للجبل فجعله دكا، أين هذا الجبل؟! تحديد هذا الجبل، لو كان في هذا فائدة لذكره الله ولكنه اشتغال بما لا طائل تحته، سفينة نوح من أي أنواع الخشب؟!، وكم عدد الطوابق؟! ومن أول من ركب في السفينة؟! ومن آخر من ركب في السفينة؟! وما الذي يعنينا من هذا ما الفائدة؟!
يقولون: آخر من ركب الحمار، وتعلق إبليس بذيل الحمار، فخرجت الفأرة في السفينة تفسد، وخاف الناس من الأسد، فألقى الله عليه الحمى فعطس فخرجت الهرة من عطسته، فخافت الفأرة فاستخفت، هذا كله أخبار لا قيمة لها، أخبار بني إسرائيل، ما الفائدة من هذا وذاك؟! فتضيع مواطن العبر ويشتغل بمثل هذا، ما لون كلب أصحاب الكهف؟! وما اسمه؟! يذكرون أسماء لهذا الكلب، ما الفائدة؟!
العبرة هنا في ذكر القصة ليست في لون الكلب أو في عدد هؤلاء الفتية أو في موقع الكهف، وهكذا ما يذكر من عرش بلقيس، ما مقدار هذا العرش، ما طوله وما عرضه وما ارتفاعه؟ يذكرون تفاصيل، وكلها مبناها على أخبار إسرائيلية لا تصح، ولا يُبنى عليها علم، ولا غلبة ظن.
وهكذا ألف بعض أهل العلم مؤلفات خاصة بهذا الموضوع "المبهمات في القرآن" سواء كان ذلك من الأشخاص أو المواضع الأماكن، أو كان ذلك من الأوقات، أو غير هذا من أنواع المبهمات.
هذا بالنظر إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- وفيما يجري في العبر والعظات في الحياة تسوق الخبر فيه عظة وعبرة، فيترك الناس موطن العبرة وينشغلون بالأشياء الأخرى، ما نوع السيارة التي وقع لها هذا؟! كم عدد الأشخاص؟! منهم؟! من الذي كان يقود السيارة، وهل فلان هو أبوه فلان أو جده فلان؟! ثم تتحول القضية أحيانًا إلى جدل في قضايا لا علاقة لها بالموضوع، جدل.
فلان الذي يسكن في المكان الفلاني، يأتي الثاني ويقول: لا ما يسكن بالمكان الفلاني هو يسكن في المكان الآخر، هو في الحي الفلاني، وجدل، ثم تتحول القضية إلى نوع من الخصومة، أنت تكذبني، والثاني يقول: لا، أنا ما كذبتك، تحولنا الآن من قصة سيقت للعظة والعبرة أن هذا الإنسان أسرع، أن هذا الإنسان خاطر فوقع له مكروه، اعتبروا بهذا القدر فقط، تحولت القضية الآن هو فلان أو فلان، سيارته كذا، الثاني يقول: لا سيارة ما هي كذا، ثم تعال هذا الجدل الطويل، ثم الآخر يبدأ يتكلم: أنت معناها تكذبني، لا، أنت الذي تكذبني، أنا ما كذبتك أنا، ما شأننا بهذا؟! فتضيع..
بعض الناس هكذا يفكر وهكذا يناقش، هكذا يأخذ الأمور وهذا غلط، سواء كان هذا فلان أو ابن فلان أو الركاب خمسة أو أربعة أو لون السيارة أبيض أو لون السيارة أصفر أو لون السيارة أبقع، وماذا يعنيني أنا من هذا، أيًا كان، يسكن أين؟ أين تريده يسكن في أي حي، الحي الفلاني؟ هو في الحي الفلاني، كفاية؟ وأنت ماذا تقول؟ يسكن في الحي الفلاني الآخر؟ هو يسكن في حيين مع بعض، انتهى، أعطونا موطن العبرة بس، تحولت القضية إلى شيء آخر جدل، فهذا غلط، لا تؤخذ الأمور بهذه الطريقة، دعك من هذه التفاصيل، وهذه اللواحق والتوابع والذيول، فالعاقل ينظر إلى مواطن العبر، ويقف عندها.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- مبينًا الحال التي آلت إليها أمور هؤلاء القوم، كان المتوقع أن هؤلاء بعدما رأوا هذه الآيات رأوا هذا القتيل أحياه الله رأوا هذا القتيل أحياه الله -تبارك وتعالى- أن قلوبهم تلين، وتخضع.
فهذه آية عظيمة، إنسان مات فأحياه الله فيكون هؤلاء في غاية الخشوع والخضوع والتذلل لله والاستكانة واليقين التام، الذي حصل هو عكس هذا تمامًا: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:74].
يقول: لم تنتفعوا بهذا ولا بشيء منه بعد هذه الآيات وخوارق العادات التي تسمى بالمعجزات ما زادكم ذلك إلا قسوة، لم تلن هذه القلوب أمام هذه الآيات الباهرات التي رأيتموها بأعينكم حتى صارت القلوب بهذه المثابة: كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً لأن من الحجارة ما يتفطر، يشّقّق، يتفجر منه الأنهار، ومنها كذلك ما يحصل به التشقق فيخرج منه الماء، الحجر القاسي الغليظ في غاية الصلابة يتشقق، ويتفطر، ونوع منها يسقط ويخر من الأعلى من قمم الجبال، وأعاليها من خشية الله -تبارك وتعالى- وهذه القلوب في غاية الصلابة.
فهذا يدل على لؤم هؤلاء القوم وسوء حالهم وقسوة قلوبهم، فمهما رأوا من الآيات فإن ذلك لا يؤثر فيها بل يزيدها غلظة وقسوة.
ثم قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ فهذا حصل منهم بعد رؤية هذا الأمر الذي يستبعد معه القسوة، فكيف تقع وتتحقق وبهذه الدرجة، أعلى درجات القسوة كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أشد قسوة؛ لأن الحجارة يحصل فيها تشقق وتفطر فيخرج الماء ويتفجر، أو تسقط من خشية الله، هذه القلوب لا يخرج منها ماء ولا تلين ولا تستكين ولا يحصل منها ولا من أصحابها خرور من خشية الله -تبارك وتعالى.
قد يقول قائل: لماذا لم تشبه بالحديد؟ فيما يبدو لأول وهلة أن الحديد أشد قسوة من الحجارة، هذا أجاب عنه جمع من أهل العلم بأن ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الحديد يلين في النار، والله -تبارك وتعالى- قال عن داود : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سورة سبأ:10] فهو يلين، بل النحاس الذي هو أشد قوة وصلابة من الحديد: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سورة سبأ:12] النحاس، لكن الحجارة، ولذلك أخبر الله عن النار أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة التحريم:6] لو كان فيها حديد لسال، ولكن الحجارة قيل: حجارة الكبريت؛ لأنها أشد توقدًا، وقيل: الأصنام التي كانوا يعبدونها نكاية بهم تسعر بها النار فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74].
ولاحظ ترقى وصفها شبهها بالحجارة ثم قال: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بالاعتبار السابق، فشبه هذا الأمر المعنوي قسوة القلوب بأمر محسوس، والتعبير هنا بقوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ما قال: فهي كالحجارة أو أقسى ثُمَّ قَسَتْ فهي أقسى، وإنما قال: أَشَدُّ جاء بأفعل التفضيل من غير مادة الفعل "قست" ما قال: ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أقسى من الحجارة، لا، قال: أَشَدُّ قَسْوَةً فعبر هنا بالمصدر الصريح قسوة، وجاء بأفعل التفضيل، وما جاء به من مادة الفعل "أقسى من الحجارة" فهذا أكثر دقة وقوة في التعبير عن شدة القسوة أَشَدُّ جاء بأفعل التفضيل أَشَدُّ وجاء بالمصدر قَسْوَةً قسى يقسو قسوة فهو قاسٍ، فهذا يدل على فرط هذه القسوة، ووصفها بالشدة، فالقسوة تتفاوت ولكن هذه بلغت الغاية في القسوة.
الذي لا تدمع عينه ولا يخشع قلبه حينما يسمع كلام الله يتلى من أوله إلى آخره ولا تدمع له عين ولا يخشع له قلب لا شك أن هذا يدل على قسوة في قلبه، والله يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [سورة الحديد:16] شهر كامل نحن نكاد أن نفارقه وأن يتصرَّم والقرآن يتلى مع الصيام، وتصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، ثم بعد ذلك إذا بقيت هذه القلوب قاسية فهذا يحتاج إلى مزيد من المعالجات، هذا يدل على أن الأعلاق التي عليها والران أنه يمثل طبقة كثيفة غليظة لم يداوها ما سمعه العبد من الآيات، وما يحصل بسبب الصيام والقيام، فهذا للأسف لا ينبئ بخير، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لما ذكر الملينات للقلب ذكر بعد ذلك النار[1] كير النار.
ثم تأمل هذه الآية: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ عبر بالقسوة، وما قال: قويت قلوبكم، ففرق بين قسوة القلب وقوة القلب وثبات القلب، قسوة القلب مذموم: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [سورة المائدة:13] وهذه القسوة تكون بسبب كثرة الذنوب والغفلة عن ذكر الله ، وكثرة الفضول، فضول الخلطة، وفضول النظر، وفضول الكلام، وفضول النوم، وفضول الأكل والشرب، كل هذه تسبب قسوة في القلب.
أما قوة القلب فهذا مطلب شرعي، قوة القلب تعني ثباته، تعني رباطة الجأش، تعني الشجاعة في مقامات الشجاعة والإقدام، تعني الثبات والصبر أمام المصائب، فلا يتزعزع ولا يتضعضع ولا ينهار، وإنما يبقى متماسكًا، فهذه قوة القلب.
قوة القلب أمام الشهوات، قوة القلب أمام الشبهات، فلا يكون القلب كالإسفنجة، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- لتلميذه ابن القيم، أوصاه نصحه فيما يتعلق بالشبهات قال: "اجعل قلبك مثل الزجاجة، ولا تجعله كالإسفنجة يتشرب الشبهة"[2].
يقول ابن القيم: "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك"[3].
والأصل أن الإنسان لا ينظر في الشبهات، ولا يقرأ ولا يسمع ولا يتيح لأحد أن يُلقي في قلبه شبهة ثم بعد ذلك لا يستطيع الخروج منها.
وهكذا أيضًا شيخ الإسلام -رحمه الله- يُفرق هذا التفريق الذي ذكرت بين قوة القلب وقسوة القلب، فالقسوة مذمومة والقوة محمودة، القلب القوي الثابت هو الذي لا يتضعضع أمام الشبهات، ولا ينهزم أمام الشهوات، ولا يسقط أمام المصائب والمكاره والشدائد، ونحو ذلك، فيكون قلبه قويًّا من غير عنف، ولينًا من غير ضعف[4] كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن الجمادات تعرف ربها وخالقها : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة:74] حجر، ولهذا جاء عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله نزل بذلك القرآن"[5]. قاله مجاهد بن جبر وهو من أجل تلامذة ابن عباس -رضي الله عنهما.
فهذا له دلائل كثيرة، الله -تبارك وتعالى- قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سورة سبأ:10] وكذلك قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44] فكل ما في هذا الكون مسبح لربه وخالقه .
وهكذا أيضًا يقول النبي ﷺ: إني لأعرف حجرًا كان يُسلم علي بمكة قبل أن أبعث[6].
وكان ﷺ يخطب إلى جذع، ثم بعد ذلك صنع له منبرًا، فلما وقف على المنبر ﷺ حن الجذع كحنين العشار، يعني كحنين الناقة العشراء، حتى نزل النبي ﷺ وجعل يسكنه، وأخبر أنه: لو لم يفعل لحن إلى يوم القيامة[7] هذا جماد حن، إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل التي تدل على أن هذه الجمادات قد يجعل الله لها من الإدراك ما تعرف به ربها وخالقها -جل جلاله وتقدست أسماؤه.
فهذه بعض الفوائد وهدايات تستخرج من هذه الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 97).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 140).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 140).
- انظر: مجموع الفتاوى (7/ 30)، و(10/ 677).
- انظر: تفسير الطبري (2/ 136)، وتفسير ابن كثير (1/ 304)، وتفسير مجاهد (ص:207).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
- أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في بدء شأن المنبر، برقم (1415)، وأحمد في المسند، برقم (2236)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5300).