الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[59] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ..} إلى قوله تعالى: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
تاريخ النشر: ١٥ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 1120
مرات الإستماع: 1561

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما قصه من خبر بني إسرائيل، وما كان منهم من العتو على الله -تبارك وتعالى- وعلى أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يذكرهم ويخاطب من وجد منهم في عهد النبي ﷺ في وقت التنزيل بما كان من أسلافهم، وكما ذكرنا أن المعرة اللاحقة للآباء تلحق الأبناء، إذا كانوا على طريقتهم.

فيقول لهم مخاطبًا: واذكروا يا بني إسرائيل وَإِذْ أَخَذْنَا وقلنا: إن مثل هذا يكون فيه مقدر محذوف: واذكروا إذ أخذنا، يعني أخذنا عليكم الميثاق، والميثاق: هو العهد المؤكد في التوراة بتحريم سفك دماء بعضهم لبعض، لا يحل لليهودي أن يقتل اليهودي، ولا أن يخرجه من دياره، وقد أقروا بذلك، واعترفوا، وهم يشهدون على صحته، لكن هؤلاء المردة لم يفوا بهذا العهد، ولم يحققوا ذلك، كما سيأتي.

فيُؤخذ من هذه الآية في مثل هذا التعبير: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ المعنى: لا يسفك بعضكم دم بعض، وكذلك في قوله: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ يعني: ولا يُخرج بعضكم بعضًا، فالأمة المتحدة المجتمعة على ملة ودين أفرادها كالنفس الواحدة، وهذا له نظائر، وذكرنا شيئًا من ذلك في مناسبات سابقة، كقوله -تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] فإن أحد المعاني المقولة فيه يعني: لا يقتل بعضكم بعضًا، وهو يصح أن يستشهد به على منع قتل الإنسان لنفسه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة النساء:29] يعني: لا يأكل مال أخيه فنُزلت النفوس المجتمعة على ملة ودين منزلة النفس الواحدة، فهذا يُؤخذ منه أن نفوس أهل الإيمان كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه؛ ولذلك فإن النبي ﷺ مثّل حال الأمة في ترابطها وتعاطفها وتراحمها بمنزلة الجسد الواحد: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[1] لو أنه جرح أصبعه، فإن ذلك يتسبب عن ألم في جميع جسده، لو آلمه ضرسه فإن ذلك يؤدي إلى صداع الرأس، وما إلى ذلك من أتعاب وآلام.

قال الله تعالى مبينًا حالهم بعد أخذ هذا الميثاق والعهد المؤكد: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:85] يخاطبهم كالخطاب السابق ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ يعني: يقتل بعضكم بعضًا، والقول فيه كما أسلفنا.

وقال: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ يعني: ويخرج بعضكم بعضًا من ديارهم، ويتقوى كل فريق منكم على إخوانه بالأعداء بغيًا وعدوانًا، اليهود الذين كانوا في المدينة: يهود قريظة، ويهود النضير، يهود النضير كانوا أحلافًا للخزرج، ويهود قريظة كانوا أحلافًا للأوس، وهم الذين حكم فيهم سيد الأوس سعد بن معاذ لأنهم رضوا أن ينزلوا على حكمه، باعتبار أنه كان حليفًا لهم في الجاهلية.

فكانت الحروب تقع بين الأوس والخزرج، وتستمر عقودًا متطاولة، فكان الحلفاء من اليهود حلفاء هؤلاء وحلفاء هؤلاء يخوضون هذه الحروب معهم، وهذه الحروب يحصل فيها قتل، ويحصل فيها أسرى، فهؤلاء اليهود الذي مع كل طائفة من طوائف العرب من الأوس والخزرج كان يحصل على أيديهم القتل لإخوانهم اليهود من الفريق الآخر، ويحصل أيضًا الأسر، فيأسرونه في جملة ما يأسرون، فكانوا يتناقضون، فيعمدون إلى قتلهم.

وكذلك أيضًا يأسرونهم ويخرجونهم من ديارهم، ويتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان في هذه الحروب الجاهلية، وإذا جاءوا في حال الأسر دفعوا الفداء في فكاكهم، فكانوا بذلك يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، فإذا جاءوهم أسارى فادوهم، ودفعوا الفداء في سبيل فكاكهم، فكان هذا من دينهم، ولكنهم في الجانب الآخر يقتلونهم، ويخرجونهم من ديارهم، وهذا محرم عليهم، فالله -تبارك وتعالى- نعى عليهم ذلك الفعل القبيح، وهذا التناقض المشين، حيث آمنوا ببعض أحكام التوراة، وكفروا ببعضها، فليس لمن فعل ذلك منهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، وهو الذل والفضيحة والعار والشنار، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، في النار، وما الله بغافل عما يعملونه من هذه الأفعال المتناقضة السيئة.

ويُؤخذ من هذه الآية أن الإيمان يحرم على أهله أن يدخلوا في أحلاف تناقض مقتضى هذا الإيمان، وتناقض ما أُخذ عليهم في شرعهم وكتابهم، والمواثيق التي أخذها الله -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان، تحت أي ذريعة كان ذلك، أو مصلحة متوهمة، فإن عهد الله -تبارك وتعالى- أحق أن يُوفى به، وشرعه -تبارك وتعالى- أحق أن يُتبع تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بسبب هذه الأحلاف التي كانت مع هؤلاء الفرقاء من الأوس والخزرج.

كذلك أيضًا فك الأسارى لا شك أنه من دين الله -تبارك وتعالى- كما أمر النبي ﷺ وبذلك جرى عمل المسلمين، وانعقد عليه الإجماع، وهو من أجل الأعمال وأشرفها: أن يفك الأسارى من المسلمين، ولو دفع آخر دينار أو درهم في بيت مال المسلمين، فهذا من الواجبات المفروضة على هذه الأمة، وهي من فروض الكفايات، إذا قام بها البعض سقط ذلك عن الباقين.

ثم أيضًا هذا الخطاب الذي خاطب الله به بني إسرائيل حينما ذكر الميثاق الذي أخذ عليهم، ثم بعد ذلك ما حصل منهم من النقض ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ قال بعد ذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فإن الإيمان يقتضي الأخذ بشرائع الدين كاملة دون تذوق وانتقاء، فيأخذ ما يحلو له وما يوافق هواه، ويترك ما عدا ذلك، هذا خلاف مقتضى الإيمان، ولا يجوز بحال من الأحوال، والله قال في مثل هؤلاء: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فالهمزة هنا للإنكار، أي: استفهام إنكاري، وانظر الوعيد الذي ذكره بعده فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ هذا الخزي معجل لهم في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك العقوبة في الآخرة بالرد إلى أشد العذاب، فدل ذلك على أن هذا من أعظم الجرائم والمنكرات أن يأخذ الإنسان من الدين ما يحلو له ويوافق هواه، ويترك الباقي، فهذا من أعظم الجنايات، والله توعد أصحاب هذا بخزي في الدنيا، وعذاب في الآخرة.

فلا يمكن أن يتحقق للإنسان مطلوبه من اللذات، أو العز الذي يرجوه، أو التمكين، أو نحو ذلك، وهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فمن أراد الفلاح والنجح والعزة في الدنيا والآخرة، فعليه أن يأخذ بشرع الله كما جاء من غير تفريق؛ ولذلك تجدون في آخر هذه السورة الكريمة لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285] وقبله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [سورة البقرة:285] إلى آخر ما قال، من غير تفريق بين الرسل، وكذلك أيضًا بما جاء به الرسول ﷺ.

ثم تأمّل التعبير في هذا الآية فيما يتعلق بالقتل والإخراج، فقال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا فعبّر بالفعل المضارع، وبالصيغة الخبرية التي نُزّل فيها الغائب منزلة الحاضر؛ وذلك أشد في التشنيع، وكما ذكرنا في مناسبة سابقة أن الفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، يعني كأنك ترى ذلك منهم عيانًا، يقتلون إخوانهم، ويخرجونهم من ديارهم، ويتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهذا أمر قد مضى، وكان في الزمن الغابر، فما قال: ثم أنتم هؤلاء قد قتلتم إخوانكم وأخرجتم فريقًا منهم من ديارهم، وإنما قال: تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فكأن ذلك يحدث ويتجدد أمام ناظرك.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فجاء بالخزي هنا منكرًا، وذلك يدل على التهويل والتعظيم، ثم قال: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فقدّم المسند إليه بغافل؛ وذلك لإفادة التخصيص، وتأكيد الوعيد.

ويُؤخذ من هذا الموضع أيضًا في الآية وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ فصفات الرب -تبارك وتعالى- منها ثبوتية، وهذا هو الغالب، فهذه الثبوتية مثل: العزة والحكمة والرحمة، والعلو والاستواء، كل هذا من الصفات الثبوتية، النوع الثاني: وهي الصفات السلبية، ومن هذه الصفات السلبية ما كان بصيغة النفي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] وَلا يَئُودُهُ يعني: ولا يعجزه حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255] وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وما أشبه ذلك، فهذا كله يقتضي ثبوت كمال ضده، بمعنى أن مثل هذا النفي الوارد في ما يتصل بصفات الله نفي النقائص في أوصافه تعالى، وفي أوصاف النبي ﷺ وفي أوصاف الملائكة، وفي أوصاف القرآن، كل هذا يقتضي ثبوت كمال ضده، إذا قال عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فالنفي بمجرده لا يكون كمالاً ولا مدحًا، تقول مثلاً: هذه السارية لا تجهل، ليس فيه إثبات العلم لها، والشاعر يقول عن قبيلته على سبيل الهجاء:

قُبيِّلةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل[2].

فليس هذا مدح لهم، بل هو يهجوهم بهذا لضعفهم: أنهم لا يغدرون بذمة، والعرب في الجاهلية كانوا يتمدحون بالبطش والعدوان، ونكث العهد، وما أشبه ذلك، ويعتقدون أن:

من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم[3].

هكذا كانت شريعة الغاب في أذهانهم، فهنا حينما ينفي الله -تبارك وتعالى- عن نفسه هذه النقائص لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] يدل على كمال حياته وقيوميته؛ لأن السنة وهي مقدمة النوم وخثورته هذه ضعف ونقص في الحياة، وكذلك النوم فهو نقص في الحياة، فهذا يدل على كمال حياته، وحينما ينفي عن نفسه الظلم، فإن ذلك لكمال عدله، وحينما يقول -تبارك وتعالى: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255] أي: لا يعجزه، أو لا يثقله، وهذا يدل على كمال قدرته وقوته، ونحو ذلك، فهذا أيضًا في هذا الموضع وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا لكمال إحاطته وعلمه، فبصره نافذ في خلقه، ولا يفوته شيء من أحوالهم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:86] هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، إنما كان ذلك منهم لكونهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، آثروا الحياة الدنيا على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وهذا يدل على أنهم مخلدون في النار، وليس لهم ناصر ينصرهم من عذاب الله، ويخلصهم منه، فالذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب، والإيمان ببعض، هو هذه الحياة الدنيا، التي آثروها، وآثروا زينتها ومطامعها على ما عند الله -تبارك وتعالى- فصاروا يأخذون ما يوافق أهواءهم، ويتركون ما عدا ذلك، والله المستعان.

فإذا كان هذا الوعيد قد توجه على بني إسرائيل في هذا الفعل المشين، فإن ذلك أيضًا يتوجه على هذه الأمة، فإنه لا يجوز للأمة، أو لأحد من أفرادها أن يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض؛ لأن الحكم جاء عامًا فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة البقرة:85] فهذا قد رُبط بعلته، فالذي يفعل ذلك متوعد بهذه العقوبة الخزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب.

ولذلك فإن مقتضى أخذ الكتاب بقوة أن يأخذه بكماله وشُموله، بجد واجتهاد، أما أن يبحث عما يوافق هواه، سواء كان ذلك ابتداءً، أو كان ذلك استفتاءً، يعني حينما يسأل أو يذهب أو يتخير في المفتين، أو في الفتاوى، يبحث عما يوافق الهوى، فإن ذلك لا يُخلصه من التبعة، فلا يكون سالمًا بهذه الحال، فالواجب على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إلى معرفته من الأحكام الشرعية، يسأل من يثق بدينه وعلمه، فإذا أفتاه فلا يجوز له أن يبحث بعد ذلك عن فتيا أخرى ترخص له بهذا الفعل الذي يهواه.

وكما قال الشاطبي -رحمه الله: بأنه إذا استوى عنده قولان أو بلغه قولان عن عالمين، فينظر إلى الأرجح عنده من جهة العلم والدين والورع، فيأخذ بقوله، فإن استويا فإنه ينظر إلى الهوى أين الهوى؟ فيخالف هواه؛ لأن هذه الشريعة قد رُكبت تركيبًا على خلاف داعية الهوى، وإنما وضعت هذه الشريعة لإخراج المكلف من داعية الهوى ليكون عبدًا لله [4] ولذلك من الخطأ الكبير أن يتحول المفتي إلى مرخص للناس، يبحث عما يوافق أهواءهم، وعما يحبون، وتكون الفتاوى على هذا النهج، فهذا خطأ لا تسلم به ذمته، ولا تبرأ، وهؤلاء أيضًا لا تسلم ذمتهم ولا يبرؤون، حينما يبحثون عما يعتقدون أنه يُسهل وييسر، وأنه مرن في اعتقادهم، فإنهم حينما يأخذون بأقواله أو يسألونه فإن ذمتهم لا تبرأ بهذا السؤال، وإنما الواجب عليهم أن يتحروا.

أما الاحتجاج بالخلاف فهذا ليس بشيء، وقد نقل الإجماع على ذلك جمع من أهل العلم، كحافظ المغرب ابن عبد البر -رحمه الله[5] فلا يجوز للإنسان أن يفعل ما يحلو له في المسائل المختلف فيها بحجة أن ذلك قد اختلف فيه الفقهاء، فالمرأة قد تكشف وجهها بحجة أن هذه مسألة خلافية، وربما تلبس لباسًا قصيرًا، وتخرج أمام النساء بألبسة تُبدي بعض مفاتن الجسد، وتحتج بأن ذلك فيه خلاف، وأن من الفقهاء من قال: بأن عورة المرأة من السرة إلى الركبة، وما أشبه ذلك، وبعض من تحسن الدخول إلى الشبكة تبحث عن أقوال تجيب بها عمن أنكر عليها، وتبعث لهم هذه الأقوال، وهذه الفتاوى، فالواقع أن الذمة مع هذا لا تبرأ، وهذا الفعل الذي يفعلونه ليس بشيء، وهؤلاء عوام، وإنما مذهبهم مذهب من أفتاهم، وإذا كان هؤلاء لا يميزون ينظرون في الأرجح من جهة الورع والدين والعلم، فيأخذون بقوله.

أما أن يبحث الإنسان هنا وهناك، فإنه سيجد في فتاوى العلماء أشياء وأشياء، فيجتمع فيه الشر كله، سيجد من يفتي بنكاح المتعة من السلف، ومن يفتي بجواز أنواع من الربا، ومن يفتي بأنواع من المعازف، ومن يفتي بأن المرأة المخطوبة يجوز للخاطب أن ينظر منها إلى كل شيء سوى القُبل والدُبر، وكذلك سيجدون في كل مسألة يَهْوُونَهَا فتاوى، وأهل الكوفة كما هو معروف منذ القدم، منذ زمن التابعين كانوا يقولون بجواز شرب النبيذ، وما أشبه ذلك، فهذا إذا جمع هذه القضايا فإنه سينخلع من ربقة الدين، يأخذ بقول هذا، وبقول هذا، وبقول هذا، وهذه الأقوال المجتمعة ما قال بها عالم واحد، وإنما أخذ رقعة من هذا، وأخرى من ذاك، وأخرى من ذاك، فخرج بثوب لا يصلح أن يخرج به أمام الناس.

ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قال: بأنه يجوز للمرأة أن تلبس لباسًا ما بين السرة إلى الركبة، وتحضر محافل النساء وتخرج أمام النساء بهذا، لا يُعلم أحد، إنما يتكلمون عن أشياء أخرى، فيما لو كانت المرأة بحاجة أخرجت ساقها أو نحو ذلك، تتوضأ، أو في مهنتها في بيتها، أو نحو ذلك، فخرج ساقها إلى نحو الركبة، أما أن تفصل ثوبًا إلى الركبة، أو إلى ما فوق الركبة!

ثم هؤلاء يتبعون أهواءهم، بدليل: أنهم يلبسون إلى ما فوق الركبة، وهم يقولون: من الفقهاء من قال: إن عورة المرأة من السرة إلى الركبة أمام النساء، وهذا ليس بصحيح، ولا يجوز الاعتماد على مثل هذا، وعلى الإنسان أن يتقي الله -تبارك وتعالى- والنبي ﷺ قال قولاً عامًا: المرأة عورة[6] ولم يفصل بأن ذلك أمام النساء، أو أمام الرجال، فدلّ على أن المرأة أمام النساء عورة، وأمام الرجال عورة، وإنما تُبدي ما دل الدليل على إبدائه، أو على جواز إبدائه، وما الذي كانت تبديه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة -رضي الله عنهن- أمام النساء؟! هل كُن يخرجن بهذه الثياب، وبهذه الألبسة التي تُبدي أجزاء كبيرة من الجسد؟ كلا وحاشا، والله المستعان.

هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم: (6011) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم: (2586). 
  2.  البيت في الدر الفريد وبيت القصيد (2/ 315) منسوب للشاعر النجاشي. 
  3.  البيت لزهير بن أبي سلمى في شرح ديوانه (ص: 35). 
  4.  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 165). 
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الرضاع برقم: (1173) وصححه الألباني. 
  6.  أخرجه البغوي في شرح السنة برقم: (4112) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (2085). 

مواد ذات صلة