الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[62] قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 1135
مرات الإستماع: 1530

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته

نواصل الحديث -أيها الأحبة- عن هذه الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة).

يقول الله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] والمعنى: أن هؤلاء اليهود قالوا للنبي ﷺ أو لأهل الإيمان: قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني: مغطاة، عليها أغلفة، لا ينفُذ إليها شيء، ولا يصل إليها قولك ودعوتك.

وبعضهم يقول وهو بعيد: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني أنها أوعية للعلم، يعني لسنا بحاجة إلى ما جئتنا به، والأول أقرب، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين، وليس المقصود هنا هو الكلام على التفسير، وإنما ما يُستخرج من الهدايات، ولكن لما كان السبيل إلى ذلك هو الكشف عن المعنى كان ذلك مما نبتدئ به هذا المجلس.

فالله -تبارك وتعالى- يرد عليهم دعواهم، هذه ليس الأمر كما زعموا، بل حلت بهم لعنة الله -تبارك وتعالى- فقلوبهم قد طبع عليها فلا تستجيب، فهم مبعدون من رحمة الله -تبارك وتعالى- بسبب كفرهم وإعراضهم واستكبارهم على الحق، وتكذيبهم به فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة النساء:46] إلا إيمانًا قليلاً لا ينفعهم، وبعض أهل العلم يقولون: إنّ ذكر القليل في مثل هذه المواضع بمنزلة العدم، وهو جارٍ في التعبير القرآني بكثرة وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الأحزاب:18] ونحو: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة النساء:83].

فيُؤخذ من هذه الآية أن من جملة العقوبات التي يعاقب الله -تبارك وتعالى- بها بعض خلقه: سلب الهدى والعلم النافع، فيُطبع على القلوب، فيبقى العبد بمنأى، كما قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فلا يتمكن من الاهتداء والاستجابة والتوبة.

والنبي ﷺ أخبر أن الذنوب تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه[1] كالكوز مجخيًا إذا نُكس لا يستقر في داخله المائع أسود مربادًا: سواد يشوبه حمرة، وهو أقبح الألوان، الألوان الجميلة: البياض المشرب بحمرة، أما السواد المشرب بحمرة فهذا من الألوان القبيحة السيئة.

فالشاهد هنا: أن العبد يتوقى ويحذر، فيدرك تمامًا أن هذه الفتنة التي عرضت عليه من مشهد محرم يراه، أو مال محرم يأخذه، أو غير ذلك من أنواع تعاطي الحرام، فهي نكتة سوداء، فإذا كرر فتلك نكتة سوداء، فإذا كرر فتلك نكتة سوداء، وأين؟ في القلب الذي هو محل الاهتداء، فإذا أظلم القلب، واسود، فإنه بعد ذلك لا يصل إليه الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14] من المعاصي والذنوب والآثام والآفات والجرائم، فتجتمع على القلب فيعلوه غلاف، فلا يصل إليه موعظة، ولا يتأثر بالقرآن، ولا من يوجه إليه من الخطاب، ولا يصل إلى قلبه، فيطرق سمعه ولكنه لا يحرك ساكنًا ولا يتأثر، فذلك لا ينفُذ إلى قلبه.

فالطبع والختم والران والأغلفة والأقفال على القلوب كل هذه بمعنىً واحد، وإنما منشأها ومبدأها هو ما جاء في هذا الحديث تعرض الفتن على القلوب[2] والمقصود بالفتنة كل ما خالف شرع الله -تبارك وتعالى- وأمره، فيدرك العبد تمامًا أن هذا الذي قد اعترض له ربما يستهويه أنها فتنة جديدة، وقد تعلق بقلبه، فيكون ذلك سوادًا، فإذا كثر عليه فبعد ذلك لا يلومن إلا نفسه، فيحذر الإنسان منذ البداية، ويدفع ويجدد التوبة؛ ليصقل القلب، ويكثر من الاستغفار دائمًا، ويتوب إليه في مجلسه عشرات المرات، ليبقى هذا القلب حيًّا، والنبي ﷺ كان يستغفر في اليوم والليلة، بل في المجلس الواحد سبعين مرة، ومائة مرة، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فغيره من باب أولى.

وهذا المعنى الذي ذكرته آنفًا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو واضح في النصوص، من أن الذنوب، وما يكتسبه العباد من الجرائر والجرائم، يكون سببًا للحيلولة دون الاهتداء، فلا يوفق الإنسان.

وهنا قولهم: قُلُوبُنَا غُلْفٌ على المعنى المشهور: أن هذه القلوب عليها أغشية وأغطية خلقةً تمنع من نفوذ ما يخاطبهم به النبي ﷺ فهو تقنيط لرسول الله ﷺ من دعوتهم، كما قال من قبلهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [سورة الشعراء:136] فيستوي الحال فلا تتعب نفسك، فهؤلاء قالوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كل ما تقوله يتبخر ويتلاشى قبل أن يصل إلى قلوبنا، فهو كلام لا يجاوز الأسماع، وإذا كان الأمر والحال كذلك فلا جدوى من مخاطبتهم، فهم في عداد الأموات إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [سورة النمل:80] والله يقول: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [سورة النمل:81] فهذا يدل على شدة إعراض هؤلاء اليهود واستكبارهم، فإن المنصف يستمع وينظر في هذا المسموع إذا كان يريد الحق.

وكذلك أيضًا هؤلاء اليهود أهل علم، ويعرفون صفة النبي ﷺ ومبعثه ومخرجه ومهاجره، ويعرفون أوان رسالته وبعثته -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك يقولون هذا القول، فالقلوب بفطرتها ليست كما قال هؤلاء اليهود، وليست غلفًا، والله يقول: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فهذا الإضراب للإبطال، أي: ليست القلوب كما يقولون مجبولة ومفطورة على رد الحق.

ولكن هناك أمر آخر يمنع من وصول الحق وقبوله، وهو لعنة الله على العبد، نسأل الله العافية، وإلا فالله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهو يشمل صورته الباطنة، وصورته الظاهرة، فخَلَقَه على الفطرة وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[3] كل مولود يولد على الفطرة[4] فيكون قابلاً للحق، منجذبًا له، يميل إليه بفطرته، فداعي الفطرة مركوز في نفس الإنسان؛ ولذلك فإن دين الإسلام هو الأدعى إلى الانتشار؛ لأنه الموافق للفطر، وليس بدين يخالف ويناقض الفطر.

فينبغي على أهل الإسلام أن يذيعوه وينشروه ويحملوه إلى العالمين، فسيجدون من الاستجابة ما لا يخطر لهم على بال، وإذا كان بهذه الجهود الضعيفة التي تقوم هنا وهناك مبعثرة ومفرقة، يأتي التصريح من أعلى جهة في الديانة النصرانية وهو (البابا) ويقول: إن الإسلام هو الأكثر انتشارًا في العالم، وأن عدد المسلمين قد فاق عدد النصارى الذين كانوا الأكثر في العالم على مدى قرون طويلة، مع كثرة ما ينفقون من الأموال والجهود والبشر الأعداد الهائلة، ممن يدعون إلى باطلهم، ومع ذلك الإسلام هو الأكثر انتشارًا؛ لأنه دين الفطرة، فإذا أحسن المسلمون عرضه وتقديمه للناس، فلا تسأل عن القبول والانتشار، والدخول في الإسلام، وهذا الذي حصل في مدة وجيزة وصل الإسلام إلى حدود الصين، وإلى النصف الجنوبي من فرنسا، في مدة وجيزة يدخلون في الإسلام، ويتحول أهلها إلى مسلمين، ولم يكن ذلك من قبيل الهيمنة العسكرية والاحتلال، وإنما يتحول هؤلاء إلى جند لله -تبارك وتعالى- يجاهدون في سبيل الله، ويدعون إلى دينه.

فالباء هنا بِكُفْرِهِمْ [سورة البقرة:88] تدل على السببية، وهذا يدل على أن الكفر سبب للعن، والله -تبارك وتعالى- صرح بذلك في مواضع بأن لعنته قد حلت على الكافرين.

ثم هنا جاء هذا الإضراب بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فـ(بل) هذه تفيد الإضراب، يعني ليس الأمر كما قالوا من وجود أغلفة حقيقية على هذه القلوب، وهم لا يقصدون أن عليها أغلفة بسبب الذنوب أو الكفر، وإنما طردهم الله -تبارك وتعالى- من رحمته، فحرموا أعظم الأشياء، وهو الهداية المفضية إلى السعادة الدنيوية والأخروية، والجزاء من جنس العمل، وهؤلاء أعرضوا عما به رشدهم وفلاحهم وصلاحهم وسعادتهم، فهانوا على الله -تبارك وتعالى- فطردهم من رحمته، فتركهم في طغيانهم يعمهون، وإذا هان العبد على ربه -تبارك وتعالى- خلّاه وتركه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] فهذا هو الجزاء، والجزاء من جنس العمل، فمن أعرض عن ذكر الله -تبارك وتعالى- والإيمان به، فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبه بمثل فعله، فينسيه نفسه، وإذا أنساه نفسه صار شغله فيما يضره، وإقباله على ما فيه هلاكه وضياعه وشقاؤه في الدنيا والآخرة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] حذفت صفة (قليلاً) لدلالة الفعل عليها، والتقدير: فإيمانًا قليلاً، و(ما) هذه صلة، أُتي بها للتأكيد والمبالغة في التقرير، وهذا الإيمان لا يُذكر، ولا أثر له.

أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين برقم: (144). 
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم: (2865). 
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم: (1385) ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين برقم: (2658). 

مواد ذات صلة