الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[66] قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 1140
مرات الإستماع: 1715

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً بهذه الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل من هذه السورة الكريمة، سورة البقرة، يقول الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا لهم: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:92] هؤلاء حينما ادعوا أنهم إنما يؤمنون بما أنزل عليهم، ولا يؤمنون بغيره، فأكذبهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91] فهم قتلوا أنبياءهم، وهذا القتل هو زيادة في التكذيب؛ فإنهم إنما قتلوهم بعد أن كذبوهم.

ثم في هذه الآية أيضًا يكذبهم الله -تبارك وتعالى- في تلك الدعوى، فيقول: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ولقد جاءكم موسى بالآيات الواضحات، والبراهين الساطعات الدالة على صدقه، ومن هذه الآيات الواضحات التي شاهدوها وشاهدها عدوهم فرعون: العصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واليد، كل هذا مما آتاه الله موسى وهكذا انفلاق البحر، إضافة إلى ضرب الحجر بعصاه فتتفجر منه العيون بعدد قبائل بني إسرائيل، تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا، فيشربون غير متزاحمين، ولا متضايقين، ولا متنافسين على الماء، فهذه كلها من آيات الله -تبارك وتعالى- التي أجراها على يد نبي الله موسى .

ومع ذلك حينما خرجوا من البحر، وقد انفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63] كأنه جبل، وصارت لهم هذه الطرائق في البحر يسيرون فيه يبسًا لا يخافون إدراك فرعون، ولا يخشون الغرق، فحينما خرجوا ونجاهم الله  وانطبق البحر على فرعون، فغرق وهم يشاهدون، قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ حينما أتوا على أولئك الذين يعكفون على أصنام لهم، ثم حينما ذهب موسى إلى ميقات ربه، عبدوا العجل، وهموا بهارون وكادوا أن يقتلوه، فهؤلاء حدثاء عهد بهذه الآيات الكبار، وبهذه النعم العظام، ومع ذلك يقع منهم هذا التمرد على الله، وعلى كبار أنبيائهم موسى وهارون -عليهما السلام- فاتخذوا العجل معبودًا، وهم بذلك متجاوزون لحدود الله  معتدون، ظالمون خارجون عن الإيمان بفعلهم هذا.

يؤخذ من هذه الآية: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ اللام تدل على قسم مقدر، والله لقد جاءكم موسى بالبينات، والتوكيد بالقسم يدل على الاهتمام بهذا الخبر، وأيضًا يدل على أن هؤلاء مكذبون، مشككون فيما يوجه إليهم، ومعلوم أن القسم في الأصل يراد به توكيد الكلام، لاسيما إذا كان المخاطب مشككًا، أو مكذبًا، أو مترددًا، أو مكابرًا، فالله -تبارك وتعالى- جاء بهذا القسم هنا لكون هؤلاء بمنزلة المنكرين، ولأهمية هذا الأمر الذي أخبر به اللاحقين، الذين أدركوا النبي ﷺ أخبرهم عن فعل أسلافهم.

وكما ذكرنا من قبل: بأن الخطاب وجه إلى هؤلاء مع أن الذين اتخذوا العجل كانوا من أجدادهم، وذلك أنهم على طريقتهم، وكما قلنا: بأن المذمة التي تلحق الآباء، تلحق الذرية إذا كانوا على منوالهم ومنهاجهم، وعلى طريقتهم؛ ولهذا خاطبهم بهذا الخطاب وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ الآيات الواضحات، ليس لكم عذر، لم تدع في الحق لبسًا، ومع ذلك اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ولاحظ التعبير هنا: اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الاتخاذ يدل على كمال الاعتناء بهذا المتخذ، تقول: اتخذت فلانًا جليسًا، اتخذت الكتاب سميرًا، فهذا الاتخاذ، يعني: أنهم اعتنوا غاية العناية بهذا الأمر، يعني: جعلوا هذا العجل معبودًا لا يفارقونه، فبقوا عاكفين عليه، وهذا قد أثبته القرآن، وسجله عليهم.

والتعبير فيما يتصل بعبادة العجل في جميع المواضع في القرآن، حينما يضيف إليهم عبادة العجل، فإنه يُحذف المتعلق اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ما قال: إلهًا، المعنى اتخذتم العجل إلهًا، فيحذف في جميع المواضع في القرآن، وقد ذكر بعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- بأن العلة في ذلك -والله تعالى أعلم- أن هذا لا يتصور أن يكون العجل، وهو ولد البقر أن يكون إلهًا، يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى- ومن الذي يعبده؟ قوم تتابع عليهم الأنبياء، وبين أظهرهم كبار أنبيائهم، ويعبدون العجل[1].

وقد قال بعض أهل العلم: بأن أمرهم بأن يذبحوا بقرة حينما تدارءوا في ذلك القتيل وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] قال لهم موسى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] قال بعض أهل العلم: إنهم أمروا بذبح البقرة باعتبار أن هؤلاء قد أُشربوا في قلوبهم العجل، وهو ولد البقر، فإذا قاموا بأنفسهم بذبح بقرة، فذلك لعله يحرر نفوسهم من التعلق بالعجل.

ثم إن هذا العجل ليس بعجل حقيقي فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [سورة طه:88] فهو لا روح فيه، وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما: بأن الريح كانت تدخل في جوفه، من فمه وتخرج من دبره، فيورث ذلك صوتًا[2].

يعني: أن السامري عمله بطريقة يصدر عنه مثل هذا الصوت الذي يشبه صوت العجل، فتعلقوا به، هذا يحتمل، هذا منقول عن ابن عباس، مع أن الكثير من المفسرين يقول: ابتلوا بهذا وامتحنوا، فصار له خوار من غير حياة فيه، وأما الخداع والتدليس، فهذا معروف فيمن يعرفون خصائص الأشياء، ولديهم من الحيل اللطيفة.

وقد ذُكر في بعض أخبار بني إسرائيل أن رجلاً من أصحاب هذه الحيل أتى على بلدة لبني إسرائيل يكثُر فيها شجر الزيتون، وقد مات لهم رجل صالح، فبنى عليه بناءً، ووضع قبة مفتوحة، ثم بعد ذلك وضع عند هذه الفوهة في هذا القبة التي تصكها الرياح في بعض الأوقات التي تهب الرياح من هذه الناحية، فتصدر صوتًا يشبه فراخ طائر هناك يكثُر في تلك الناحية، فإذا صوَّت ذلك الطائر الصغير، تهافتت الطيور الكبار من هذا النوع تأخذ حب الزيتون وتلقيها عليه، فلما رأى هذا وضع هذا الذي يصدر مثل هذا الصوت على فوهة القبة، فصار إذا هبت الرياح في ذلك الوقت أصدر صوتًا كصوت صغير هذه الطيور، فصارت تأخذ حب الزيتون، وتلقيه من هذه الفوهة فيقع على القبر، ففتن هؤلاء الناس بهذا المقبور، وعدوا ذلك من كراماته، ومن مآثره، وهي من الخدع التي خدعهم فيها.

فعلى كل حال، يحتمل أن السامري فعل بهم مثل هذا، مع أن المشهور أن هذا العجل يصدر هذا الصوت الخوار الذي هو صوت البقر، ومهما يكن من أمر، فإن العجل لا يصلح أن يكون إلهًا، سواء كان فيه حياة، أو كان مصنوعًا من الذهب أو غير الذهب على هيئة عجل.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:92] يقولون: بأن نساء بني إسرائيل كُن يستعرن الحلي الذهب من الفرعونيات في مناسباتهن، وأنهن قد استعرن فآذنهم موسى بالرحيل، فارتحلوا ولم يتمكنوا من إعادة هذا الحلي المستعار من الفرعونيات، فخرجوا به معهم فتحيروا كيف يصنعون، فجمعه السامري وأوقد عليه نارًا حينما غاب عنهم موسى وصنع منه هذا العجل، هذا أصل هذا الذهب مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [سورة الأعراف:148].

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:92] يعني باتخاذكم العجل، وهذا الوصف هي صفة كاشفة؛ لأن كل من اتخذ معبودًا من دون الله فهو ظالم، لا يمكن أن يتخذ معبودًا من دون الله  ويكون غير ظالم بهذا الاتخاذ، ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هذه صفة كاشفة، يعني: تبين حقيقة الأمر، هل يوجد أحد يتخذ مع الله إلهًا آخر وله فيه برهان؟ الجواب: لا، إذن هذه الصفة لا تقيد ما قبلها، ولكنها تكشف حقيقة، تكشف الأمر على حقيقته، على ما هو به.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ولاحظ هنا عُبر بالجملة الاسمية، ما قال: ثم اتخذتم العجل من بعده وظلمتم بذلك، فالجملة الاسمية تدل على الثبوت، أن الظلم صفة لازمة لهم وأنتم ظالمون فهم مستمرون على ذلك ثابتون عليه.

  1.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 82). 
  2.  تفسير الطبري (2/ 64). 

مواد ذات صلة