بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر عداوته لمن عادى ملائكته ورسله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:97، 98] قال بعده: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] قد أنزلنا إليك أيها الرسول آيات بينات واضحات، لا تترك في الحق لبسًا، تدل على صدق ما جئت به، وفيها من البراهين والدلائل ما يكفي لكل ذي إنصاف أن يؤمن بها، بل هذه الآيات المتلوة التي أنزلها الله على رسوله ﷺ جاءت بقوالب لفظية في غاية البلاغة والفصاحة، فهي معجزة في فصاحتها وبلاغتها وبيانها، فلا يكفر بها بعد ذلك إلا الفاسقون، الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- والخارجون عن الإيمان به، فهؤلاء لو جاءتهم كل آية فإنهم لا ينتفعون بذلك.
وتأمّل بقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ بعد قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فجاء بأسلوب الغائب مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّه ولم يقل: فإني، وإنما قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ثم تحول الخطاب إلى المخاطب، فقال: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ولم يقل: ولقد أنزل الله إليك، وإنما جاء بأسلوب المتكلم بعد أن كان بأسلوب الغائب فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ فلم يقل: فإني، إلى أن قال بعده: وَلَقَد أَنْزَلْنَا فجاء بضمير المتكلم، فهذا التفات من الغَيبة إلى ضمير المتكلم، وكذلك أيضًا وجه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فهذا يشعر بالقرب، وفيه تسلية للنبي ﷺ بعد تكذيب هؤلاء اليهود، فكأنه يقول: لا تكترث ولا تلتفت إليهم، فهذا ديدنهم، وهذه عادتهم، ومن ثم فإن الله -تبارك وتعالى- هو وليك، وهو الذي يؤيدك، وهو الذي أوحى بذلك إليك وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفيه إثبات علو الله على خلقه؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.
وفيه أيضًا إثبات إنزال القرآن، فإن عقيدة السنة والجماعة أن القرآن منزل من الله، سمعه جبريل من الله مباشرة بلا واسطة، ويدل على هذا حديث تكلم الله بالوحي، فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافًا لبعض أهل البدع الذين يقولون: بأن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، أو من يقولون: بأن جبريل أخذه من بيت العزة في سماء الدنيا، هذا كله غير صحيح؛ لأن هؤلاء لا يثبتون أن الله يتكلم كما شاء متى شاء على ما يليق بجلاله وعظمته، فهذا مبني على اعتقادهم الفاسد.
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ والتنكير في قوله: آيَاتٍ يدل على التعظيم، فهي كلام الله -تبارك وتعالى- وهي مشتملة على الهدى الكامل من كل وجه، فهي دلائل وبراهين، فإن الآية تدل على معنى العلامة إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [سورة البقرة:248] يعني علامة ملكه، فهذه الآيات تدل على صدق من جاء بها، وأنه جاء بها من الله وليس ذلك بمختلقات من قبل نفسه.
ثم تأمّل وصف هذه الآيات بالبينات، فالقرآن في غاية الوضوح، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [سورة القمر:17] يعني للتذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17] فهذا التيسير يشمل تيسير الألفاظ، فهو ميسر في حفظه، وكذلك ميسر في تلاوته، ويشمل أيضًا تيسير المعاني، فالله خاطب العرب بما يفقهون وما يفهمون، فلا يوجد فيه أحاجي وطلسمات، وأمور غامضة لا تفهم، ولا يعرف أحد معناها، كما يقول بعضهم: بأن القرآن فيه ما لا يعرف أحد معناه إلا الله، يعني لا الرسول ﷺ ولا غير الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهذا غلط، فإن الله لا يمكن أن يخاطب الأمة إلا بما تفهم، وهذا هو الغرض من إنزاله، كما قال الله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29].
فهذا التدبر لا يمكن أن يتحقق إذا خوطبوا بشيء لا يفقهونه، ولا يدخل تحت مداركهم، فهذه الآيات وصفها الله بالبينات، فهي بينة في نفسها، وهي أيضًا مبينة للحق، فإن أصل هذه المادة (بان) و(أبان) تأتي متعدية، وتأتي لازمة، أبان الحق أي أوضحه، وتأتي بمعنى بان أي ظهر واتضح، قد تكلمنا في الأسبوع الماضي في الكلام على أسماء الله الحسنى عن اسم الله المبين، وذكرنا هذين المعنيين هناك، فما بقي بعد هذا الإيضاح والبيان إلا العناد لمن لم يدخل في الإيمان.
لكن الحروف المقطعة على الأرجح ليس لها معنى في نفسها، فهي ليست بكلام مركب، وإنما هي حروف تهجي، وحروف التهجي عند العرب لا معنى لها في نفسها، وإنما تشير إلى الإعجاز، كما يقوله الفراء[1] وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2] وجمع من أهل العلم: أنها تشير إلى معنى الإعجاز؛ ولذلك لا تكاد تذكر إلا ويذكر بعدها القرآن، أو ما يقتضي ذلك، في ثلاث سور خاصة، باقي المواضع يذكر بعدها القرآن الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:1، 2] الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة آل عمران:1- 3] وهكذا في جميع المواضع إلا في ثلاث سور ذكر ما يقتضي ذلك ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [سورة مريم:2] والقرآن رحمة، وهكذا.
وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] فهذا يدل على أن الذين بلغهم القرآن، وفهموا عن الله -تبارك وتعالى- خطابه فيه، ثم بعد ذلك هم يكفرون أن هؤلاء إنما حملهم على ذلك العناد، والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فصاروا مختارين للكفر على الإيمان، مشترين الضلالة، مستعيضين بها بدلاً من الهدى والحق.
فهذه الآيات وهذا القرآن هو في نفسه حجة، وهو في نفسه معجز، فإذا عرض على الناس، وقرئ عليهم، ثم بعد ذلك وجدت المكابرة والعناد، ولم يقع منهم الإيمان، فإن ذلك إنما هو بسبب عتوهم وعنادهم، لا يكفر بها من كان خاضعًا مؤمنًا مستجيبًا طالبًا للحق، وإنما من كان معاندًا فإنه يكفر بها.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود بعد أن بيّن وأشار في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها أنهم فاسقون: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] إذن فهؤلاء حينما لم يؤمنوا بهذه الآيات دلّ ذلك على أنهم فاسقون.
ثم قال الله -تبارك وتعالى: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100] فهم مع كفرهم، واتصافهم بالفسق، فإن آثار ذلك ظاهرة عليهم، بادية في تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم ومزاولاتهم، فهم أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100] يقول: ما أقبح حال هؤلاء في نقضهم للعهود، فكلما عاهدوا عهدًا طرح ذلك العهد فريق منهم، ونقضوه، فتراهم يبرمون العهود اليوم، وينقضونها غدًا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما جاء به النبي ﷺ.
أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا فالهمزة للإنكار، و(كلما) تدل على التكرار، يعني أن هذا ديدنهم وعادتهم المستمرة، ولا يكون ذلك عارضًا وإنما هو شيء دائم مستمر كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نبذه أي طرحه، وعبّر هنا بالنبذ الذي يدل على طرح بغير مبالاة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذا إضراب يدل على أن ما صدر منهم من هذا النبذ للعهود، ونقض ونكث العهود والمواثيق كان بسبب عدم إيمانهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والإيمان له آثاره التي تظهر على صاحبه، فالإيمان كما قال النبي ﷺ : الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[3] فالوفاء بالعهود إيمان، والأمانة إيمان، والشهادة بالحق إيمان، فهؤلاء حينما انتفى الإيمان عنهم ظهرت آثار ذلك عليهم بنقض العهود.
فالإيمان الصحيح له آثاره السلوكية على أصحابه والمنتسبين إليه ولا بد، فإن هذا الإيمان يحملهم على مقتضياته وفروعه وشرائعه وأعماله التي منها الوفاء بالعهود، وأداء الأمانات، هؤلاء لما انتفى عنهم الإيمان ظهر منهم أضداد ذلك من نقض العهود، وهذا يُؤخذ منه على كل حال ما يتصل بالإيمان، وآثاره السلوكية.
لعلي أتوقف عند هذا؛ لأن الآية التي بعدها تحتاج إلى وقت أطول.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- معاني القرآن للفراء (1/ 368).
- مجموع الفتاوى (17/ 423).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم: (9) ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم: (35).