الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[72] قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..} إلى قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 1230
مرات الإستماع: 1915

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث -أيها الأحبة- فيما يستخرج من الهدايات من هذه الآيات، التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة).

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] الآية.

هناك قال الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:89] يعني يستنصرون أنه سيبعث نبي، ثم بعد ذلك يتبعونه، فيقتلون هؤلاء الذين كانوا يتوعدونهم به من الأوس والخزرج وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ۝ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة البقرة:89، 90] حسدًا للنبي ﷺ وللعرب أن تكون النبوة والوحي فيهم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].

وهنا وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو محمد ﷺ جاءهم بالحق والقرآن الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى- وهو معجز في ألفاظه، وقد تضمن البراهين الساطعة على أنه من عند الله -تبارك وتعالى- ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثله، وهو مصدق لما معهم من كتبهم، مما جاء في التوراة والإنجيل أنها من عند الله وأن هؤلاء الأنبياء الذين بعثوا فيهم أنهم أنبياء الله الكرام.

وكذلك أيضًا هو مصدق لما معهم مما قصّ الله -تبارك وتعالى- عليهم من القصص فيما لم يُحرف من كتبهم، مما شهد لصحته القرآن، وهو مصدق لما معهم أيضًا في كونه على وفق ما جاء الخبر به في كتبهم من صفته -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك لما جاءهم هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت النتيجة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ نبذوه وطرحوه، وهو كتاب الله -تبارك وتعالى- وجعلوه وراء ظهورهم في غاية الإعراض كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ شأنهم شأن من لا علم له ولا بصر، فلم ينفعهم ذلك العلم، وما أنزل عليهم من الكتب، مع كثرة ما جاءهم من الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولما جاءهم رسول نُكر الرسول هنا وهذا التنكير يفيد التعظيم، فهو رسول عظيم من عند الله -تبارك وتعالى- فذلك التنكير يفيد تفخيم شأن هذا الرسول الذي كان ينبغي أن يعظم ويصدق، وأن يؤمنوا به، ولكن للأسف فعلوا خلاف ذلك.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فهذه اللام يسمونها لام التقوية، دخلت على مفعول (مصدق)؛ لتقوية دلالة ذلك التصديق، يعني تصديق ثابت محقق مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ومع ذلك قابلوه بالتكذيب، ونبذوه وراء ظهورهم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى- في ذكر موقفهم من هذا الرسول، ومما جاء به: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] فذكر هذا الوصف لهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فيه تشنيع عليهم، هم أهل كتاب فنبذهم لا يكون كنبذ غيرهم ممن لا بصر له ولا علم، ولا عهد له بكتاب.

فهؤلاء أهل كتاب، ثم يتعاملون مع الكتاب المنزل والوحي بهذه الطريقة؛ ولهذا يقال: على قدر المقام يكون الملام، فاللوم الذي يلحق هؤلاء أعظم مما يلحق غيرهم من الجهال، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] يعني كيف يقولون هذا وهم يتلون الكتاب؟ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم المشركون مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فهؤلاء أصبحوا في حال من الاستواء مع المشركين الذين لا عهد لهم بالعلم، ولا بصر لهم بالكتاب، فقالوا كمقالتهم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ولم يقل: نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب: الكتاب الذي جاءهم، وإنما قال: كِتَابَ اللَّهِ فهذا فيه زيادة في تفخيم شأن هذا الكتاب، وزيادة في التشنيع على هؤلاء اليهود، فالذي نبذوه إنما هو كتاب الله -تبارك وتعالى- ونبذ كتاب الله كفر محقق، وعمل في غاية القبح والشناعة كِتَابَ اللَّهِ فأبرزه بهذه العبارة، وكان يمكن أن يقال: ولما جاءهم كتاب من عند الله، عُرف أنه من عند الله، نبذوه وراء ظهورهم، لم يقل ذلك، وإنما قال: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هؤلاء كما يقال: الشر عليهم أكبر، هم أهل كتاب وهكذا يتعاملون مع الكتاب المنزل، ثم أيضًا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وهذا الكتاب كما قال في أول الآية: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حينما يقال: من عند الله، فهذا يعني أنه حق ثابت، وأنه يجب عليهم الإيمان به، وأن يعظموا هذا الكتاب، فهو ليس من عند أحد من البشر، لا من الرسول ﷺ ولا من غيره.

ثم أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ نبذوه، ولم يقل: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وإنما عبر بالنبذ، وكذلك أيضًا ذكر معه ما يُورث اليأس من هدايتهم وقبولهم واستجابتهم، فلم ينبذوه عن يمينهم أو شمالهم، وإنما نبذوه وراء ظهورهم، ومن نبذ الكتاب وراء ظهره، فإنه لا يرجَّى منه هداية ولا رجوع، ولا ارعواء، فهو في غاية الشرود، فهذا يصور شدة الإعراض الذي كانوا عليه، فمن أعرض عن شيء تجاوزه، فخلفه وراء ظهره.

وذكر هذا الجملة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يدل على تأكيد بعد هذا المتروك عنهم، تقول: فلان جعلنا وراء ظهره، فلان جعل أصحابه وراء ظهره، فلان جعل وصيتي وراء ظهره؛ لما تقول: ترك وصيتي، قد يكون نسي أو غفل، وقد يرجع إليها، لكن لما تقول: جعل وصيتي وراء ظهره، وجعل نصيحتي وراء ظهره، معناه: أنه في غاية الإعراض، فهذا لا يلقاه أبدًا، ذاك الذي جعله خلف ظهره، فجعل الظهر وراء، فقال: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فهذا كله يفيد المبالغة في تصوير هذا الطرح والنبذ مع الإعراض الكامل.

فهذه الإضافة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كالبيانية؛ لأن الوراء لا يكون إلا في الخلف، كما يقال: في القفا وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] القفو الاتباع، والذي يتبع غيره يكون في قفاه، ويمشي في قفاه؛ ولهذا فسر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] بالغيبة والنميمة؛ لأنها تقال في قفا الإنسان، والواقع أن ذلك يشمل هذا ويشمل غيره وَلا تَقْفُ يعني تتبع، فلما كان المتبع لغيره يسير خلفه، يعني في قفاه، صار كل من يتبع ما لا علم له به من شائعة، وأخبار، ودعوات مضللة، ومذاهب منحرفة، كل هذا يكون بهذه المثابة، قد قفا ما ليس له به علم.

وقال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101] هم يعلمون، ولكن بفعلهم هذا صاروا بمنزلة من لا يعلم، وتأمل هذا الصنيع منهم، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- بعده: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] فإن هؤلاء تركوا ما هم بصدده من الحق الذي جاءهم، وما كان يجب عليهم من اتباعه، والاهتداء به، والانتفاع بهذا النور المبين، والهدى الكامل، فتركوه، ونبذوه وراء ظهورهم، فماذا كانت النتيجة؟ هل صار هؤلاء في حال من الاهتداء، أو البقاء على هداية، أو التمسك بكتابهم؟

الجواب: لا، وإنما وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102] فيُؤخذ من هذا أن من ترك ما هو بصدده من الاشتغال بما ينفعه ابتلي بالاشتغال بما يضره، هؤلاء تركوا كتاب الله، والنتيجة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ العكس تمامًا، يعني أن كتاب الله -تبارك وتعالى- واتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا هو الهدى الكامل، الذي يقابله الظلام والسواد الحالك هو اتباع السحرة.

يعني الرسول في طرف، والساحر في الطرف الآخر تمامًا، الساحر حينما يوغل بالسحر، فإن ذلك يعني أنه قد أوغل في الكفر والضلال واتباع الشياطين، لا يكون الساحر حاذقًا متمهرًا بالسحر إلا إذا كان عظيم الكفر بالله ، فالشياطين تطلب منه أشياء من عبادتها، وتقديم القرابين، والتدنس بأنواع الفواحش وبأقبحها، وكذلك التلوث بالنجاسات، وتلويث المصاحف -أعز الله كتابه وأعز من يسمع- بدم الحيض، والأنتان، فكلما أوغل في هذا كان في السحر أبرع، فإذا وجد السحر فثمة الظلمة والشر والنجاسات الحسية والمعنوية والشياطين، وإذا وجد النبوة والرسالة والكتاب، وأنوار الوحي هناك تشرق الهدايات.

ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله: بأنه متى أشرقت أنوار النبوة تلاشت الظلمات: ظلمات السحر والشعوذة والضلال والبدع والأهواء، ومتى ضعفت أنوار النبوة كثر السحر وذاع وشاع، فهذا أمر مشاهد معلوم، فالبلاد التي تضعف فيها أنوار النبوة يكثر فيها السحرة والمردة والطوائف المنحرفة، وأهل البدع والضلالات، والبلاد التي تشرق فيها أنوار النبوة يتلاشى ذلك جميعًا، فهؤلاء تركوا النور والهدى والحق الذي أمروا باتباعه، فابتلوا بالاشتغال بأسوأ الأشياء؛ ولذلك يُؤخذ منه، وهذا المعنى ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره، وذكره في كتابه القواعد الحسان، وعقد له ترجمة خاصة، بأن من ترك ما هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده[1].

ولذلك فإن الإنسان إذا لم يشتغل بقراءة القرآن وسماعه، وذكر الله -تبارك وتعالى- اشتغل بالألحان، وسماع الأغاني والمعازف، فإذا كان الإنسان لا يشتغل بكتاب الله وتلاوته وتدبره، ويجد قلبه عند ذلك، بدأ يبحث عن أشياء أخرى، من القصائد الملحنة، ونحو ذلك، فإذا كان لا يُرقق قلبه بالقرآن كما هو مشاهد، فبعضهم يبحث عن ترقيق القلب بسماع القصائد الحزينة التي تحكي مآسي، أو تحكي وفاة أو فاجعة، أو نحو ذلك، فهذا يرثي أمه بقصيدة حزينة، وهذا يرثي ولده الذي وقع له كذا وكذا من الأمور التي تجلب الحزن، مع أن هذا الحزن غير مطلوب؛ لماذا يجتر الإنسان أحزان غيره، وقد سمعتُ بعضهم يصرح بهذا، ويقول: بأن لديه الرغبة في البكاء، لكن هذا الرغبة في البكاء للأسف ليست من رقة القلب، أو الخوف من الله وإنما هي رقة عبثية.

وقل مثل ذلك أيضًا فيمن لم ينفق ماله في سبيل الله ومرضاته وطاعته، ابتلي بإنفاق الأموال فيما يضره، فإذا جاء الحج قال: الحملات غالية، وإذا جاءت الأضاحي قال: الأضاحي غالية، وهكذا يترك الحج والعمرة والنفقة في سبيل الله والصدقات، وتجد مثل هذا يذهب ويسافر، وحينما يجد فرصة، وينفق أضعاف هذا على أسفار لا تبرأ بها ذمته، ويذهب إلى بلاد تظهر فيها أنواع المنكرات، ولا يستطيع أن يغيرها، يذهب إليها برجله، ويقطع آلاف الأميال لربما بحجة أنها سياحة، وترى عجبًا من هؤلاء الناس، وسؤالات ترسل غريبة وعجيبة.

وهناك من يسأل ويجادل في أن أصل ذلك البلد كان للمسلمين، ثم أخذه الكفار، فهل نبقى على الأصل فنذهب إليه؟ لأن زوجي يقول: لا نذهب إلا إلى بلاد مسلمين؟ وصلنا إلى هذا الحد، فهؤلاء الذين ينفقون هذه الأموال الطائلة الواقع أنهم سلطوا نفقتهم على ما يضرهم، وتركوا ما ينفعهم، فإذا اشترى الإنسان الأضحية، أو حج، أو نحو ذلك، قيل: هذه مصاريف كثيرة، وهذه نفقات كبيرة، ولكن حينما يذهب ويتحدث ويرسل الصور من هناك في الأماكن التي يذهب إليها يعجب الناس بهذا، ويقولون: ما شاء الله، أين هذا؟ يا ليتنا كنا معكم، ولا تجد من يعاتب، ويقول: كيف تنفق الأموال في هذا؟ ولماذا تذهب إلى هذا المكان؟ ولا يحل لك هذا السفر، بل الإعجاب، ولربما كان الأفضل من هؤلاء هو الذي يدعو له بالبركة؛ لئلا يصاب بالعين؛ لأنه يغبطونه، فترك الإنفاق في سبيل الله، وترك الحج، وهذه الأيام تدخل العشر التي هي أفضل عشر في العام، والبعض يتهيأ للسفر إلى أين؟ إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، إلى حيث أنواع الشرور والمنكرات، ولربما يبتز ويسرق، ويتعرض للأخطار، ومع ذلك تجد هذا الإصرار على هذا السفر.

وقل مثل ذلك أيضًا من ترك قراءة الكتب النافعة من كتب العلم النافع، ابتلي بقراءة الكتب الضارة التي تحرك الغرائز، من هذه التي يسمونها بالروايات، أو الكتب التي تثير الشبهات في النفوس، وتجد عند بعض الدور المشبوهة في المعارض الدولية خلقًا من ضعفاء العقول، قد تجمهروا عند تلك الدار، فإذا أتيت ونظرت وإذا بهؤلاء قد تجمعوا على كتب ضارة مشبوهة تورث الشبهات والشكوك في الدين، أو تحرك الغرائز، وينفقون فيها الأموال، وما إلى ذلك.

وهكذا يجني الإنسان الضرر على نفسه، ويشتري الضلال بماله، ولربما يتحدث كثيرون عن قراءة الغربيين لكثرة القراءة عندهم مثلاً، وأنهم يقرأون في كل مكان، في محطة القطار، وفي الطائرة، وفي المطار، وفي السيارة، وفي المسبح، وفي كل حين، والواقع ليس المعيار هو القراءة، فهم يقرأون ماذا؟ يقرأون أشياء ضارة، فقراءتهم هذه تركها أولى بهم وأنفع لهم، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: من الناس من يكون حال السكر أفضل له من حال الإفاقة؛ ولما مر بقوم من التتر يشربون الخمر، وأراد أصحابه أن ينكروا عليهم نهاهم، قال: هؤلاء إذا سكروا لم يقتلوا، ولم ينتهكوا الأعراض، ونحو ذلك[2].

يعني اشتغلوا بسكرهم، لكن إذا أفاقوا انتهكوا الأعراض، وقتلوا النفوس، فمن الناس من يكون السكر أفضل له من الصحو، ومن الناس من يكون النوم أفضل له من اليقظة، كما يقال: نوم الظالم عبادة، وهي عبارة قد لا تكون صحيحة، لكن لا شك أن نوم المفسد أفضل من يقظته.

وهكذا -أيها الأحبة- حينما نترك القراءة فيما ينفعنا، ثم بعد ذلك نجد هذا الاعتكاف الطويل على وسائل التواصل، يقرأ الإنسان ما هب ودب ودرج، ولربما يشاهد أشياء لا تحل، ويسمع أشياء لا تحل، ويقرأ أشياء تضره ولا تنفعه، لو كنا نقرأ وكانت المصاحف بأيدينا كما نحمل هذه الأجهزة لصرنا من أعبد الناس، وأتقى الناس، لو اشتغلنا بكتاب الله كما نشتغل بهذه الأجهزة، والنظر فيها والقراءة، تجد الرجل في المسجد وهو خارج من المسجد ينظر، كل إنسان قد أخرج جواله يقرأ الرسائل التي جاءت في وقت الصلاة، لو كنا هكذا مع القرآن لتغيرت أحوالنا.

وقل مثل ذلك أيضًا حينما يقبل الإنسان على أمر يضره، ويترك ما ينفعه، وهذا باب واسع، والله المستعان، فإذا نظر الإنسان في حاله، وحال من حوله، رأى من ذلك أشياء كثيرة.

فعلى العبد أن يبادر ويستجيب لأمر الله ويقبل على ما ينفعه، وقد فسّر بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] حملوه على معنىً غير المشهور، ومن هؤلاء بعض المحققين في التفسير، حيث قالوا: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كما يقول ابن جرير: أنه باشتغاله بهذه الصلاة قد اشتغل عن الفحشاء والمنكر[3] لا أن الصلاة تكون وازعًا له، وإنما هذا الاشتغال بالصلاة هو في الوقت نفسه تشاغل عن الفحشاء والمنكر، والنفس إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية.

إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده[4].

فهذا المعنى ذكره ابن جرير واختاره، وإن كان الأقرب -والله أعلم- المعنى الآخر، وهو أنها تنهى، مع أنها إشغال فيدخل هذا المعنى فيه، فالنفس تحتاج إلى إشغال بالطاعة، وبالمعروف وبالخير، وهذا اللسان إذا لم يشغل بذكر الله اشتغل بالغيبة والنميمة، وإذا لم يجالس الإنسان الأخيار، وتركهم بأي حجة أنهم ليس لهم اهتمام بالعلم كانت النتيجة ما هي؟ أن تتفرغ له الشياطين، ويجلس مع البطالين، وربما يشاهد القنوات بحجة أنه يتابع الأخبار، ثم ما يلبث أن تتحول حاله -نسأل الله العافية- إلى شيء من المسخ، حتى قد يصل الأمر به إلى الاشتراك في قنوات إباحية مشفرة، ويدفع المال، وكانت القضية في البداية، هي مشاهدة أخبار، ومتابعة الأحداث، وترك الأخيار وصحبة الأخيار بحجة: ليس عندهم اهتمامات علمية، والآن ظهرت الاهتمامات العلمية: بترك الصلوات، والنظر إلى الحرام، وتضييع حدود الله هذا يوجد.

وقل مثل ذلك في الذي يترك حضور الدروس العلمية، ومجالس العلم، والدورات الشرعية، وتجده يتهافت ربما بأموال طائلة على حضور دورات في البرمجة العصبية، ودورات في الطاقة، وأشياء يُؤخَذ بها ماله، ويتبع فيها الأوهام، ويدخل عليه من المفاسد في الاعتقاد والتصور ما لا يدركه، ولا يفهمه، والله المستعان.

هذا بعض ما يتعلق بهذه الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 96). 
  2.  المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 207). 
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (20/ 42). 
  4.  البيت في تاج العروس (8/ 497) ولسان العرب (3/ 335) بدون نسبة. 

مواد ذات صلة