الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[73] قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ..} (1)
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 1261
مرات الإستماع: 1918

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء اليهود لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، فكان مقابلتهم لذلك أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، فلما ترك هؤلاء ما ينفعهم ابتلوا بالاشتغال بما يضرهم، فقال الله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].

فهؤلاء اليهود اتبعوا ما تتلوا أي ما تتحدث به الشياطين على عهد سليمان إبان ملكه وَاتَّبَعُوا يعني: اليهود مَا تَتْلُوا ما تحدث به الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: إبان ملكه وفي عهده وسليمان كان بريئًا من هذا السحر وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ أي: أنه لم يشتغل بالسحر، ولم يكن له اتصال به، ولم يكن ذلك التسخير الذي حصل لسليمان للريح وتسخير الشياطين، وما إلى ذلك، لم يكن ذلك بسبب تعاطي السحر، كما كذبوا على سليمان فهؤلاء الشياطين كفروا.

وهذا من المواضع المشكلة التي كثر الكلام فيها في التفسير، فقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ على عهده، وزمان ملكه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ما كفرهم؟ قال: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فقوله: وَمَا أُنزِلَ (ما) هذه تحتمل أنها نافية، يعني أن السحر لم ينزل على الملكين ببابل، ويحتمل أنها موصولة بمعنى الذي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والذي أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فهذا الموضع ينضاف إليه قوله: الْمَلَكَيْنِ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ هل هم ملائكة؟

بعض العلماء يقولون: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ملَك لغة في الملِك، فهم من ملوك الدنيا، من البشر وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وأنها لغة يقال: ملَكٌ وملِكٌ للملك من الناس، وعلى هذا ينتفي الإشكال فيما يتعلق بالملائكة؛ لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهذا موضع إشكال على القول بأن هذا السحر أنزل على ملكين من الملائكة، والذين قالوا: إنهما ملكان من الملائكة بعضهم قال: إن (ما) نافية وَمَا أُنزِلَ لم ينزل عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وبعضهم قال: بل موصولة، والذي أنزل على الملكين ببابل، وهؤلاء حينما يوجه إليهم هذا السؤال: كيف يقع ذلك من ملائكة؟ قالوا: ابتلاءً وفتنة للناس، والله -تبارك وتعالى- جعلهما موضع ابتلاء للناس واختبار؛ ولهذا قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.

وأما ما يُذكر من الإسرائيليات في هذا، وهي كثيرة فهذا لا يليق بمكان الملائكة -عليهم السلام- ولا يصح أن يُحدث به، ولا أن يُذكر في كتب التفسير، وليس بداخل في قوله ﷺ في الرخصة: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[1] فإن الحديث عن بني إسرائيل فيما لم يرد في كتابنا وفي شرعنا ما يصدقه، أو يكذبه، أو فيما ورد في كتابنا مما يشهد له، أما ما نعلم أنه كذب، فهذا لا يصح أن يُحدث به.

وبعض أهل العلم وهو الذي ذهب إليه القرطبي -رحمه الله- وليس هذا موضع تفسير، لكن لأن هذا الموضع مشكل، حتى نفهم الفوائد التي سأذكرها منه؛ لأن الفوائد والتدبر يبنى على فهم المعنى، فإذا لم نتصور المعنى لم تكن هذه المعاني المستخرجة مسددة، فالقرطبي يقول: الآية فيها تقديم وتأخير وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت، وهي أسماء شياطين، التي ذكرت فيما بعد، قالوا: هذا من المؤخر الذي موضعه التقديم وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت[2] كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ثم نفى عن الملكين وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ.

وأما هاروت وماروت التي بعدها قالوا: هي متعلقة بقوله قبل: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ أي: هاروت وماروت، وهذا إنما حمله عليه هو أن هؤلاء إن قيل: بأنهم ملائكة، فكيف يقال: إنهم يعلمون الناس السحر؟ ويُشكل على هذا المعنى القاعدة المعروفة: أن الأصل في الكلام الترتيب، وأنه لا يلجأ إلى دعوى التقديم والتأخير، فمهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح، وعلى وجهه من الترتيب، كما في الآية فهو مقدم على دعوى التقديم والتأخير؛ لأنه خلاف الظاهر، فالإشكال يدور حول هذه المسألة، وحول هذه القضية وهي: أن الملائكة كيف يقع منهم هذا؟

فالذين جوزوه قالوا: ابتلاءً واختبارًا، وما جاء في بعض المرويات الإسرائيلية لا يصح أن يذكر، ولا شأن لنا به، ولكن لو قال قائل: أن (ما) هنا نافية وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ولكن أيضًا هذا الجواب لا يخلو من إشكالات قوية ترد عليه، فالله أعلم.

وعلى كل حال فهؤلاء الذين يقولون: بأن ذلك كان على ملائكة، وأن ذلك من باب الابتلاء والاختبار، يقولون: إن أسماء هؤلاء الملائكة: الأول: هاروت، والثاني: ماروت، وهذا قول في هذه المسألة؛ ولذلك لا تجدون هذا من الأسماء المحفوظة المتفق عليها في أسماء الملائكة: هاروت وماروت، قالوا: هذا كله من باب الابتلاء للعباد، وأن هؤلاء الملائكة كانوا ينصحون من قصدهما، فيقولون: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ اختبار فَلا تَكْفُرْ يعني بتعلم السحر، أو تعاطيه.

ويقول الله : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا يعني: هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ السحر له حقيقة، وهو يؤثر بإذن الله فيقتل، ويُمرض، لكن بإذن الله، ولا يقع شيء في الكون إلا بإذن الله، لكن الله جعل في بعض الأشياء أسبابًا، وجعل فيها من الخواص التي يتسبب عنها الخير أو الشر ما هو معلوم مشاهد.

وأيضًا يحصل بسببه ما ذكر هنا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ يعني: ما يسمى عند الناس بالصرف، فيتزوج الرجل المرأة ليس بها بأس، ثم بعد ذلك يفاجأ بأن هذه المرأة لا يمكن أن يقربها، أو أن يمسها، إما أن يكون النفور منه، وإما أن يكون النفور منها، وإما أن يكون منهما، وقد يخيل إليه أشياء، وقد يخيل إليها أشياء، وقد تجد رائحة لا تطاق منه، وقد تراه في صور قبيحة من صور حشرات، أو حيوانات كريهة، أو نحو هذا، فلا تطيق قربه، وقد يحصل ما هو أبلغ من ذلك، فقد تصطك عظامها، فلا يستطيع أن يصل إليها، ولا أن يجامعها بحال من الأحوال، وقد تجرى لها العمليات، ثم بعد ذلك يرجع كل شيء إلى حاله التي كان عليها، فيمتنع عليه الاقتراب منها، فهذا يكون من قبيل السحر، وقد يصاب بالجنون بسبب السحر، وقد يصاب ببعض الأورام بسبب السحر، وغير ذلك من الأمور، نسأل الله العافية للجميع، وأن يكبت السحرة والأشرار إنه عزيز قدير.

فهذه الآية تدل على ثبوت أثر السحر، لكنه لا يُؤثر بنفسه، فكل شيء بمشيئة الله وقدرته وإرادته، كما قال الله : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فمن الناس من يعمل له السحر، ولكن ذلك لا يُؤثر فيه، إما لوجود مانع كالتحصن بالأذكار، فلها أثر عجيب في تحصين صاحبها من أعمال السحرة، وقد يكون ذلك بأمر آخر.

ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ يعني: هذا السحر يضر، فهو من العلوم الضارة، ومن ثم فإنه لا يجوز تعلمه بحال من الأحوال، فهو من العلوم المحرمة الفاسدة، فتعلمه حرام، وهذه الآية نص في هذا، وقد تكون بعض الأشياء فيها ضرر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] الجبان يصير شجاعًا، والبخيل يصير جوادًا إذا سكر، فيجود بالمال والإنفاق والبذل، ولا يقف في وجهه أحد، في أرض المعركة، فهذه منافع، لكنها قليلة في مقابل المضار إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فهذه مضار كبيرة.

فالعلماء كالشاطبي -رحمه الله- يقولون: بأنه لا يوجد في الدنيا مفسدة محضة خالصة، يعني من كل وجه، وإنما ذلك في الآخرة في النار، واللذات في الدنيا التي هي المصالح يقولون: لا تخلو من شائبة، يعني من المفاسد، ويقصدون بالمفاسد الآلام، يعني ما يشوبها من تعب وجهد، حتى الصلاة هي مصلحة عظمى، وصلة بين العبد وربه، لكن هي شاقة، وفيها مشقات، من النهوض لها، والقيام من النوم، ومن قصد الجمع والجماعات، ونحو ذلك؛ ولهذا قال الله : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] فلا يوجد راحة كاملة، وكما يقال: مصلحة خالصة من كل وجه إلا في الجنة، الجنة هي التي لا يوجد فيها أدنى تنغيص، وما فيها أي تعب، ولا أي ألم، ولا أي مشقة.

فهنا قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ [سورة البقرة:102] فقد يكون الشيء يضر، وفيه نفع، وقال: وَلا يَنفَعُهُمْ كما سنذكر في الفوائد المستنبطة.

وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني: أنهم تعاطوا هذا مع علم، وجاء بالتحقيق بـ(قد) أي: علموا يعني هؤلاء اليهود أن من تعاطى السحر لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني أخذه واختاره واستعاض به ونحو ذلك مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعني: ما له في الآخرة من نصيب، ومن ليس له في الآخرة خلاق نسأل الله العافية، فمعنى ذلك: أنه كافر، والله يقول في أعمال الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] ويقول: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [سورة إبراهيم:18] أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور:39] فهذا الساحر مشرك كافر؛ ولهذا في نفس الآية: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] فلا تكفر، يعني: بتعلم السحر وتعاطيه.

وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ يعني: ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر، عوضًا عن الإيمان، واتباع الكتاب المنزل، والرسول الذي أرسل إليهم -عليه الصلاة والسلام- لو كان لهم علم ينفع، ويثمر العمل، فنزّلهم منزلة من لا علم له أصلاً لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وقبلها قال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ لكن لما كان هذا العلم لم يورث عملاً نزّله منزلة المعدوم، فقال: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هم يعلمون، ولكن هم غير موفقين، حصل لهم علم الإرشاد، ولم يحصل لهم علم التوفيق والهداية.

فالفائدة الأولى -أيها الأحبة- هي التي أشرت إليها في الليلة الماضية، توطئة للكلام هنا، وأشرت إليها آنفًا في المناسبة بين الآية السابقة وهذه الآية: أن الإنسان إذا أعرض عن الوحي الذي تلاه الله على رسوله ﷺ ابتلي بأضداد ذلك من اتباع الشياطين بدلاً من اتباع المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- يترك أطهر الخلق، ويتبع أسوأ الخلق، فهذه سنة ماضية، والجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [سورة الزخرف:36] فالذي يعرض عن ذكر الله ويتعامى عنه، يُسلط عليه شيطان، يكون هو قرينه، ويصده عن سبيل الله وطاعته ومرضاته.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقد أشرت إلى كلامه إشارة في الليلة الماضية: لما كان من العوائد القدرية، والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره[3] فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله، وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل، وقد ذكرت في الليلة الماضية أمثلة كثرة لهذا.

فهكذا هؤلاء اليهود كما يقول الشيخ -رحمه الله: لما نبذوا كتاب الله، اتبعوا ما تتلوا الشياطين[4] وتختلق من السحر على ملك سليمان، حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان كان يستعمله، وبه حصل له الملك العظيم وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102].

وقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ لاحظ لفظة (الاتباع) التابع يكون خلف المتبوع، فهؤلاء رضوا لأنفسهم بعد أن اصطفاهم الله على العالمين وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [سورة المائدة:20]جعل فيكم أنبياء، ولكن في الملك قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا بعض المفسرين يقولون: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا جعل الملك فيهم، فأضافه إليهم جميعًا، وبعضهم يقول: من كان له خادم ومسكن وراحلة، ونحو ذلك، فهو ملك، بعد أن كان هؤلاء في حال من الذل والمهانة لفرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة، ويذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، يبقي البنات على قيد الحياة من أجل الابتذال والامتهان والخدمة للفراعنة.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ و(ما) تفيد العموم، وهذا يدل على أنهم انساقوا بالكلية، فانخلعوا من ربقة الدين، ثم بعد ذلك صاروا عبدة لهؤلاء الشياطين، متبعين لهم في كل شيء، وهكذا الساحر، فإنه لا يبرع بهذا السحر -كما أشرت في ليلة مضت- إلا إذا كان أتبع للشياطين، وهذا الاتباع يكون فيما تأمره به الشياطين، فيصدر عنه من الأقوال والأفعال والأحوال ما يصير معه عبدًا لهؤلاء الشياطين، نسأل الله العافية، وهذا مزلق خطير.

يعني من الناس من قد يدخل في هذا باستدراج، تستدرجه الشياطين، وقد يقع هذا الاستدراج بأن يلج إليه من بوابة الرقية أولاً، ثم ما تلبث به هذه الشياطين أن تتلاعب به، فتصور له أنه له من المهابة والمكانة والمنزلة، وأن الجن والشياطين يخافون منه غاية الخوف، ثم بعد ذلك قد يتظاهر بعض هؤلاء أنه قد أسلم وتعهد بالخروج، ثم يعرض عليه بعد ذلك الخدمة، أو المرافقة، أو الحماية، وبعض هؤلاء قد يغتر بهذا، ويصدقهم.

ومعلوم أن هؤلاء الشياطين كما قال شيخ الإسلام: أنهم أهل كذب وفجور[5] فيتلاعبون به، وهو لا يعلم حال هذا الذي يكلمه ما هو؟ فيقول له: بأنه أسلم، وقد يقول له: بأنه من ملوك الجن وكبرائهم، ثم بعد هذا يصدق هذا المسكين، ثم يتعامل مع هؤلاء باعتبار أنه يتعامل مع الجن المسلمين، وهؤلاء لا يقدمون له شيئًا إلا بمقابل، فيقدمون له بعض الخدمات في البداية استدراجًا، وقد يخبرونه بأخبار الله أعلم بها، وقد يعالجون، وقد يفتح بعضهم عيادات، وقد يجري عمليات غير مرئية بزعمه، وقد يخبرونه عما بهؤلاء المرضى، ويأتي هذا الخبر موافقًا لما قاله الأطباء إن كان الأطباء قد عرفوه، وقد يخبرونه بشيء لا يعرفه الأطباء فيقولون: هذا مسحور، وعمل له السحر في اليوم الفلاني، وفي المكان الفلاني، وعمله فلان، والسحر موجود في المكان الفلاني، قد يصدقون وقد يكذبون، ويوقعون بين الناس الشحناء والعداوة والبغضاء، ثم هكذا شيئًا فشيئًا، حتى يجد هذا الإنسان نفسه في النهاية لا يستطيع أن يتمنع من هؤلاء، أو أن يرد لهم طلبًا، أو أن يعصي لهم أمرًا، فيبدأ الابتزاز، وهكذا يُسلب الإيمان، ويتحول إلى ساحر، وكان في أول أمره من الرقاة، فهذا من المزالق الخطيرة.

  1. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم: (3461). 
  2.  تفسير القرطبي (2/ 50). 
  3.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:96). 
  4.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:97). 
  5. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 349). 

مواد ذات صلة