الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[69] قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ..}
تاريخ النشر: ٢٤ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 1071
مرات الإستماع: 1607

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث فيما يستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة).

فحينما طالبهم الله -تبارك وتعالى- أن يتمنوا الموت حين زعموا الدار الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، فقال: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:94] ثم أخبر عن أمر مستقبل قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:95] وهذا القدر قد مضى الكلام عليه في الليلة الماضية.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ خطاب للنبي ﷺ وهو متوجه إلى الأمة؛ لأن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها - عليه الصلاة والسلام - أو أنه خطاب لكل من يصلح أن يوجه إليه هذا الخطاب.

وَلَتَجِدَنَّهُمْ هؤلاء اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ يعني أشد الناس حرصًا على طول البقاء، بصرف النظر عن هذه الحياة وطبيعتها وما يكون له من لذاتها أو الكمالات التي قد يحصلها فيها، المهم أنه يبقى على حياة ولو كانت ذليلة ومهينة، بل إن هذه الرغبة تزيد على رغبة المشركين وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على قول مشهور في تفسير الآية وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني هم أحرص الناس مطلقًا، فيدخل في هذا أهل الإشراك، ويدخل في ذلك أهل الإيمان، ويدخل في ذلك سائر الطوائف أَحْرَصَ النَّاسِ ولكنه هنا ذكر خصوص المشركين بعدها، قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: أحرص الناس على حياة وهم أحرص على البقاء من المشركين، ولماذا ذكر المشركين؟

لأن المشركين لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بالبعث أصلاً، فكانوا يستبعدون وقوع الآخرة، وهذا مشهور عنهم، أما اليهود فكانوا يؤمنون بالآخرة، وقد تتابع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- على بني إسرائيل، وكثر ذلك فيهم أي بعث الأنبياء، ثم بعد ذلك يكون حرص هؤلاء اليهود على البقاء أعظم من حرص المشركين على البقاء، المشركون يرون أن هذه الحياة هي الغاية، لكن اليهود يعلمون أن دارًا أخرى يصير الناس إليها فما كانوا ينكرون البعث والنشور واليوم الآخرة.

ثم ذكر الله شدة حرصهم على البقاء وبينه ووضحه وجلاه فقال: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ نكرة في سياق الإثبات، يعني: كل واحد منهم عنده هذا التمني لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ يعني: هو لا يغني عنه شيئًا هذا التعمير، فإنه مهما بقي فإنه يصير إلى عذاب الله -تبارك وتعالى- وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:96] مطلع على أحوالهم، وغاية ما هنالك أنهم يجمِّعون الأوزار في طول البقاء، لكن هذا يدل على أن هؤلاء يعلمون أنه لا نصيب لهم عند الله -تبارك وتعالى- ولذلك تشبثوا بهذه الحياة.

هذا ما يتعلق بمعنى هذه الآية، يؤخذ منها من الهدايات وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الحرص على الحياة بمجرده ليس كمالاً وليس بمطلب يحمد عليه صاحبه، بل إن البقاء بمجرده لا يكون من المحامد، يعني: لا يحمد الإنسان على أنه عُمِّر هكذا فقط، لكن ماذا كان حاله في هذا الحياة؟

فقد يعيش الإنسان سنوات قليلة، قد يموت قبل العشرين، ولكن عنده من اليقين والإيمان والعمل الصالح والخوف من الله ومراقبته فيحصِّل من الأعمال ويرجِّح الموازين بما لا يكون عند من عاش مائة سنة فضيعها أو قضاها فيما لا طائل تحته من ألوان التفريط والغفلة، فليست العبرة في طول المدة، وإنما فيما تقضى فيه هذه المدة.

ولذلك انظروا إلى يوم نقضيه تغيب شمسه لم يقض الإنسان فيه شيئًا يُذكر من الأعمال النافعة المقربة، يعني لربما لو أن الإنسان نظر بنظر فاحص إلى يومه الذي انصرم غابت شمسه، هذا اليوم الذي مضى، فحينما غابت الشمس انقضى هذا اليوم منذ الليلة الماضية، فماذا حصَّل فيه الإنسان؟ لربما كان حاصل ما نتج عن أعماله ومزاولاته وما إلى ذلك هو مدة ساعة واحدة، فأين ذهبت ثلاث وعشرون ساعة؟ هذا يستطيع الإنسان أن يقيسه حينما يترهل مع الزمن.

تستطيع أن تقرأ جزءًا من القرآن في عشر دقائق قراءة حدر، وتستطيع أن تقرأه قراءة بتأنٍ في عشرين دقيقة، ولكن قد يتطاول الزمان على الإنسان من غير تدبر في قراءة جزء فتمضي الساعات وما قضاه، لماذا؟ لأنه مشتت، يقرأ وينشغل، ويفتح الجهاز، ويقرأ في الرسائل ثم يعيدها، ثم يرجع يبحث أين وقف؟ فيتطاول عليه هذا الجزء في زمان طويل.

انظر الآن هذا في قراءة جزء من القرآن، وانظر إلى ما تقضيه مثلاً في أيام الإجازة من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كثير من الناس يقضيها في نوم، لكن إذا كان أيام العمل أيام الدراسة ونحو ذلك فيذهب إلى الجامعة، ينجز أشياء من الدراسة أو العمل.

أيام الاختبارات يستطيع أن يقرأ مئات الصفحات، ولكنه لربما لا يقرأ عشر صفحات في شهر واحد، وكذلك في الأعمال.

فلذلك أقول: البقاء بمجرده لا يُحمد ولا يُطلب، وقد ذكرت لكم من قبل أن الإمام أحمد -رحمه الله- كره أن يُدعى للإنسان بطول البقاء، أن يقال: أطال الله عمرك؛ فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير، قال: من طال عمره، وحسن عمله قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله[1].

إذن لا بد من تقييد فيقال: أطال الله بقاءك على طاعته على مرضاته، ونحو ذلك، فهنا تكون حياته لها قيمة، لها معنى.

وعلى كل حال، هذا رأس مال عند كل أحد يتجر فيه مع الله أعني الأنفاس والدقائق والثواني، العمر هو رأس مال، فالناس فيه بين مضيع مفرط وبين مجد مجتهد يستغل كل لحظة فيه.

ثم أيضًا هذا ذم لليهود بتهالكهم على هذه الحياة أيًا كانت، تشبث بالبقاء بأي طريقة كان، وقد مضى الكلام على هذا عرضًا في مناسبة سابقة، فإن ذلك قد يُقدَّر وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ أن التنكير هنا للتقليل، حياة يعني أقل ما يصدق عليه أنه حياة، المهم يعيش ولو كانت حياة تعيسة، لا قيمة لها، ولا معنى.

ويحتمل أن يكون ذلك وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ يعني: حياة مخصوصة حياة متطاولة، الحياة الطويلة عَلَى حَيَاةٍ أي: طويلة، لكن الأصل عدم التقدير، أو على حذف، يعني: هنا على حذف مضاف، أو على حذف صفة، يعني هنا عَلَى حَيَاةٍ ولتجدنهم أحرص الناس على الحياة المتطاولة، هذا الأول، وقريب منه يعني أن يقول: ولتجدنهم أحرص الناس على طول حياة، الطول، أو ولتجدنهم أحرص الناس على حياة طويلة، على حياة متطاولة، المعنى المتقارب لكنه يختلف فقط الإعراب.

فهم على كل حال الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يدل على حرصهم على مطلق الحياة مهما كانت هذه الحياة بائسة، وهذا لا يمكن أن يكون لأحد من الناس إلا إذا كان لا يُرجّي شيئًا عند الله في الآخرة؛ لأنه مهما كانت حياته بائسة فإنما عند الله أشد وأعظم لمن لا نصيب لهم عند الله ولذلك جاء في الحديث بأنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة فيقال: يا فلان هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت نعيمًا قط... ويحلف ويؤتى بأبأس إنسان في الدنيا لك أن تتصور أبأس إنسان، ماذا يعاني من الأمراض والفقر والمشكلات والمصائب، أبأس منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أبأس إنسان يغمس في الجنة غمسة واحدة، يا فلان هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط[2] ويحلف، أنساه غمسة واحدة في الجنة أنسته البؤس الذي عاشه، لربما عاش مائة سنة في بؤس.

لكن هذا الذي يعيش في بؤس وهو من أهل النار، البؤس يعتبر بالنسبة إليه جنة بالنسبة لعذاب النار، بالنسبة لعذاب الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- لذلك قيل: بأن الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن، هذه العبارة صحيحة، هذه العبارة لا إشكال فيها، والمعنى أن الكافر مهما كان بائسًا في هذه الحياة الدنيا فهي بالنسبة إلى ما سيلقاه من عذاب الله جنة، سجن المؤمن ليس معنى ذلك أن المؤمن يعيش في بؤس في الدنيا، لا، وإنما المقصود سجن المؤمن أنه مقيد بحدود الله هذا ممنوع، هذا لا يجوز، هذه حدود الله، هذه محارمه، لكن في الجنة لا يوجد شيء اسمه حرام، لا يوجد شيء اسمه ممنوع، فأهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه نفوسهم، بل أكثر من هذا كما قال الله: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [سورة يس:57].

وقد ذكرنا في درس التفسير في التعليق على المصباح المنير وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [سورة يس:57] قيل: ما يدعون، كل شيء يدعي أنه له هو له، كل شيء يقول: هذا لي، هو له.

والقول الثاني: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [سورة يس:57] يعني: يتمنون، كل ما يتمنى حاصل، ما يحتاج تعب، ولا يحتاج إرهاق، لا يحتاج معاناة، ولا يحتاج إلى كبد كما في هذه الحياة الدنيا، كلها كبد، لكن الجنة ليس فيها شيء من هذا.

فهي حرية بأن يشمر أهل الإيمان للعمل لها، وهو صبر قليل، الحياة كلها هي صبر ساعة، ثم يفضي هناك إلى روح وسعادة ولذات، ما فيها تنغيص، ولا صداع، ولا ألم، ولا مشكلات، ولا هموم، ولا غموم، ولا تعاسة، ولا مرض، ولا خوف من مرض، لا يوجد أمراض في الجنة إطلاقًا، ولا يوجد أعمال وعبادات يعملونها وتكاليف، إنما يلهمون التسبيح ويلتذون به كما نُلهم النفس، هل تجد مشقة في النفس.

هناك مكان الراحة الكاملة، ولا يذهب الشباب، ولا يتغير، ولا يحصل للإنسان المشيب، وإنما يكونون دائمًا في حال من الكمال المتجدد، واللذات متجددة لا يسأمها الإنسان تتجدد، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها.

وعلى كل حال، الأقرب عدم التقدير والمقصود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ما يصدق عليه أنه حياة، ولو كان تافهًا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ الله يخبرنا عما في نفوسهم، عن مكنونات صدورهم يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [سورة البقرة:96] لماذا يحب أن يعمر ألف سنة؟ هو لأنه يعلم أنه ما له في الآخرة نصيب، وكما قال مجاهد: حببت لهم الخطيئة طول العمر[3].

ما هم عليه من الكفر والتكذيب للنبي ﷺ حبب إليهم طول البقاء، لكن هذا الطول في البقاء لا يغني عنهم شيئًا وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [سورة البقرة:96].

وثقوا بأنه مهما عمر الإنسان هذا العمر المديد يمضي كأنه ساعة، ولذلك انظروا في جميع الأمثلة، الله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن أصحاب الكهف أنهم بقوا ثلاثمائة وتسع سنوات في كهفهم، وضرب على أسماعهم، فلما أفاقوا تساءلوا كَمْ لَبِثْتُمْ ماذا كان الجواب؟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة الكهف:19] ثلاثمائة وتسع سنوات يوم أو بعض يوم.

الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: كم لبثت؟ مائة سنة، قال: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة البقرة:259] يعني صاحب الثلاثمائة وتسع سنوات وصاحب مائة سنة يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة البقرة:259].

وكذلك أيضًا في البعث والنشور وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55] إذًا هذه الحياة مهما تطاولت، وإذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى ما مضى من الأيام، تذكر أيام الصبى والشباب والنشأة كأنها البارحة، وحينما كنت في المرحلة الابتدائية تذكر التفاصيل بأول يوم ذهبت وما بعد ذلك، وتذكر باقي المراحل كأنها البارحة.

ونحن نخطئ في الحساب، أحيانًا نخطئ هل كان الحج الماضي أو الذي قبله أو الذي قبله، كم مضى على هذا ثلاث سنوات أو أربع سنوات حينما حججت مع فلان، أليس كذلك؟ يلتبس الأمر، حينما اشتريت الأضحية الفلانية هل كان قبل سنتين أو ثلاث أو أربع ويفاجئك من يقول أحيانًا: هذه كانت قبل سبع سنوات، كأنها أمس.

العمر هكذا يمضي، فهؤلاء الذين قد شابوا وشاخوا واحدودب ظهره وانحنى هذا كان في قمة القوة والشباب، ولكن كل ذلك يمضي، فالعبرة بالعمل، وأما طول العمر فليس بمغنٍ عنه شيئًا.

فأسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال، وأن يتقبل منا ومنكم إنه سميع مجيب.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ رقم: (2330).   
  2.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، رقم: (2807). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 334). 

مواد ذات صلة