الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[75] قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ..} (3)
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٣٦
التحميل: 1314
مرات الإستماع: 2021

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ نفي النفع في السحر، كما قلنا من قبل: فليس فيه نفع مطلقًا، وقد نفى هذا النفع بعد قوله: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ففيه ضرر، بل هو ضرر، وليس فيه نفع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ تأكيد لضرر السحر؛ لئلا يتوهم أنه ضرر معه شيء من النفع، فيكون من قبيل عطف التأسيس، وليس بعطف التوكيد، يعني هو ليس بمجرد توكيد، هو يفيد التوكيد، ولكن يؤسس لمعنىً جديد، يعني لو كان السحر مثلاً في ضرر ونفع قد يُتوهم هذا، فالله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ.

فقد يقول قائل: وفيه نفع، سكت عنه، فهنا حينما قال: وَلا يَنفَعُهُمْ فمن الأشياء ما تكون ضارة، ولكن فيها نفع، فينظر بعض الناس إلى جانب النفع الذي فيها، ولو كان قليلاً، فيتعاطاها ويتبعها؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اتباع الأهوال والضلالات، ونحو ذلك: بأن الباطل قد يكون معه شائبة من الحق، فيكون ذلك داعيًا إلى اتباعه من قبل بعض الناس[1] ومعنى ذلك: أنه لو كان باطلاً من كل وجه لما تبعه أحد؛ ولما قبله أحد، لكن يكون فيه شائبة، فتعلق به بعض النفوس، فكما في الخمر والميسر، قال الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] فالعبرة بما غلب في هذه الشريعة.

وكما ذكرنا من قبل بأنه لا يوجد في الدنيا مصالح خالصة صرفة، ليس فيها شوب، لا يوجد هذا، وإنما العبرة بالغالب؛ ولذلك فإن الشريعة إنما تنظر إلى هذا الغالب، ولا تنظر إلى المفسدة المرجوحة القليلة في المصالح الغالبة، ولا تنظر إلى المصالح القليلة في المفاسد الراجحة؛ ولهذا يقول صاحب المراقي:

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب[2].

يعني ما قال أحد بتحريمه، العنب يعصر منه الخمر، فهذه مفسدة، فما دُفعت هذه المفسدة بتحريم العنب، وزراعته وبيعه، فهؤلاء الذين يتعاطون هذه الصنعة، ويعصرون العنب للخمر، هم قلة بالنسبة لمنافع العنب العامة، فلم يحرم بيع العنب، ولا زراعته مع وجود هذه المفسدة.

النبي ﷺ قال عن البقر: ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء[3] فالمقصود بذلك أن لحومها تتضمن داءً، لكن هذا لا يعني أن المنافع العامة منتفية، فهذا الداء، وإن كان موجودًا فيها، إلا أنه لم يصل إلى أن يكون غالبًا؛ ولهذا امتن الله بها على عباده وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:144] هذا بعد قوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فهذه من جملة الأنعام بالإجماع.

فوجود مفسدة في المصالح الغالبة لا يُؤثر فيها المنع والتحريم، فالشارع حكيم، فما غلبت مصلحته فهو حلال، وما غلبت مفسدته فهو حرام؛ ولهذا فإن العلماء يمثلون لهذا بأمثلة كثيرة في باب سد الذرائع، وفي نوع من طرق استخراج العلة في القياس، وهو ما يسمونه بالمرسل، فمثل هذا الشارع سكت عن هذه الأشياء، فهي على الإباحة مثلاً، أو أنه صرح بإباحتها، فيكون ذلك بدليل نصي نقلي، فكل ذلك باعتبار أن الغالب المصلحة، كما أنه يحرم ما غلبت مفسدته، ولو وجد فيه بعض المنافع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ هذا يفيد التأسيس، يعني لم يحرمه الله باعتبار أنه يضر مع وجود منافع، السحر ليس فيه منافع، فهو يضر، ولا ينفع.

وكذلك أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] وليس له نصيب، بمعنى أنه يكون كافرًا، كما سبق، فيُؤخذ من قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان علمه كالعدم، يعني كان بمنزلة الجاهل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] نزلهم منزلة من لا يعلم، بعد أن أثبت لهم العلم؛ لأن ذلك العلم لم ينفع، ولم يؤثر امتثالاً، فصار بمنزلة العدم، فنزلهم منزلة الجاهلين، فقال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

فالعبرة -أيها الأحبة- ليست بكثرة المعلومات والحفظ، وإلا فاليهود قد ذمهم الله وذم أحبارهم لما لم يورثهم ذلك امتثالاً وعملاً، وهكذا حينما يستوي طالب العلم مع العامة فيما يأتي ويذر، بل قد يكون إقباله على الطاعات أسوأ وأضعف من إقبال كثير من العامة عليها، وقد تجد بعض العامة يتسابقون على الصف الأول، أو الصلاة خلف الإمام، أو نحو ذلك، وقد تجد بعض طلبة العلم يأتي مسبوقًا، ونحو ذلك، فهذا علم لا ينفع، وقد تجد بعض العامة يحرص على العبادات المتنوعة في هذه العشر يجد ويجتهد ويتصدق ويصوم هذه العشر، ونحو ذلك، وتجد طالب العلم بطالاً، لا يرفع بذلك رأسًا، ولا يتغير من حاله، ولا من كسله، فالصلوات تفوته، ولا صيام، ولا زيادة صدقة، ولا تكبير، فما فائدة العلم إذا كان الإنسان بهذه المثابة؟

والنبي ﷺ قد استعاذ من علم لا ينفع، فيكون حجة عليه، بل قد يطلب لنفسه المخارج والحيل، فيتعلم أن هذه المسائل فيها خلاف، أو يتتبع الشواذ، كما نسمع في هذه الأيام، وتُرسل هذه الرسائل، وتطير في النار: صيام يوم عرفة لا يشرع! فهناك من يقول هذا، وصيام الست لا يشرع، وهلم جرًا، فقد يجد أن هذه الأشياء تلبي حاجة في نفسه، فيترك، حتى صيام عرفة، وصيام عاشوراء إذا وافق يوم السبت، وصيام الست، ويضرب النصوص بعضها ببعض، ويحتج بحجج لا تسعف، ويقول: هذا غير مشروع، وهذا الذي أنتم عليه ليس بشيء.

وقد يتورع العامي من الشرب قائمًا، وهذا يتعلم، ثم يطلع على كلام أهل العلم والخلاف في المسألة ويشرب وهو قائم، ولا يبالي، وإذا نُصح بادر بالقول: إن المسألة فيها خلاف، وأن النبي ﷺ قد شرب من زمزم وهو قائم، وهكذا يحتج بأشياء لا تسعفه في هذا المقام، لكن من يريد أن يتملص من ربقة الشريعة، ومن حدود الله فإن ذلك لن يعجز أمثاله، فالعلم يزيد في الإنسان خوفًا من الله وتقوى وإخباتًا وتواضعًا، ويزيده طاعة وقربة، ولا يكون العلم سببًا لخروجه من ربقة التكليف، أو الإغراب على الناس، أو التلبيس عليهم، أو زعزعة الثوابت عندهم في أمور مستقرة، تلقوها عن علمائهم الراسخين، ثم بعد ذلك يفجأ الناس بأن ذلك ليس بمشروع، فيتشككون في كل شيء، فكل شيء صار قابل للتشكيك، ويطير الناس بهذا، وينشغلون بهذا الكلام بين رادٍ وموافقٍ ومؤيدٍ، وما إلى ذلك.

كتب أحدهم كتابًا في أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ليس بواجب، وإنما سنة، فأرسله فلم أقرأه؛ لأن الكلام في هذه المسألة والشبهة التي فيها معروف، ثم بعد ذلك أرسل يسأل ويقول: ما أجبتني! فقلت: ما كل شيء يجاب عنه، دع عنك هذه المسائل، وانصرف عنها، واشتغل بما ينفع، ولا تظهر هذا في الناس، وأرى أن تُسجر به التنور، فقال: أنا قد طبعته ونشرته، ولكن أريد أن أعرف رأيك، فهذه مشكلة، والله المستعان.

فصار الناس يترقبون ما الجديد؟ ما الذي سيأتي أنه ليس بمشروع؟ هل هذه الصلوات التي نصليها فيها شيء أيضًا أو لا؟ وهذا الصوم الذي نصومه رمضان فيه شيء أو ما فيه شيء؟ ما الذي بقي عليهم.

فالمقصود أن الله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ هذا في السحر، لكن قد يتعلم الإنسان في غير السحر ما يضره ولا ينفعه، مثل لو أنه أخذ العلم الشرعي من غير مأخذه الصحيح، فهو كما يقول الشاطبي -رحمه الله- عن أصحاب الهوى: يطلب في الأدلة ما يوافق هواه[4] يعني: يبحث ما يوافق هواه، فهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه، وأما طالب الحق فهو يعرض عمله على الأدلة؛ ليعرف صواب ذلك من غيره.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا يدل على أن هذا السحر لا ينفع صاحبه في الدنيا؛ لأنه قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وفي الآخرة لا ينفع، يعني لا ينفع لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأمر لا ينفع في الدنيا، ولا في الآخرة، بل لا يكون لصاحبه نصيب في الآخرة، فينبغي أن يُجتنب، وأن يُحذر غاية الحذر؛ لأن مبنى هذا السحر على الشرك والكذب والظلم، وكما قال شيخ الإسلام: بأن صاحبه إنما مقصوده الظلم والفواحش[5] فهو من أجل أن يتمكن من الفواحش، أو يمكن غيره، يعني ذاك يحب امرأة فيريد أن يصل إليها، فيكون ذلك عن طريق السحر مثلاً، وقد تسحر المرأة وتخرج تطلب الفاحشة، وقد يسحر الرجل ويكون كذلك.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الجزاء من جنس العمل، فالكافر لما لم يجعل لربه -تبارك وتعالى- نصيبًا من عمله في الدنيا، لم يجعل الله له نصيبًا في الآخرة، والجزاء من جنس العمل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني: في الدنيا مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.

ثم أيضًا تأمّل هذا التوكيد بالقسم وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ فاللام هذه تدل على القسم المحذوف، فهذا تأكيد لهذا المعنى، أنه ليس له خلاق عند الله، وليس له نصيب، وأيضًا يحتمل أن يكون لأنه نزّلهم منزلة المنكرين فأكده بالقسم لإثبات ذلك: أنه ليس له خلاق عند الله فكأنهم يكابرون ويجادلون في هذه القضية؛ لأن حالهم في الواقع هو حال المنكر؛ لأنهم تركوا الكتاب المنزل، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، ولاحظ التكرار في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فكرر الفعل الدال على العلم مرتين عَلِمُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فهذا فيه تسجيل عليهم: بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحقيقي، فالعلم الذي ينفع منتفٍ عنهم.

وكذلك أيضًا لاحظ التنكير في قوله: خَلَاقٍ فخلاق نكرة في سياق النفي مَا لَهُ وقد سبقت بـ(من) التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فكان ممكن يقال: ما له في الآخرة خلاق، لكن قال: مِن خَلَاقٍ يعني: ما له من نصيب إطلاقًا، لا قليل ولا كثير، فهذا نص صريح في العموم، يعني هذه صيغة قوية جدًا في العموم؛ لأن (من) تنقل النكرة في سياق النفي من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم، فهذا كله يدل على عظم جرم من تعاطى هذا السحر؛ فلذلك لم يكن لمتعاطيه أي حظ من الخير   - نسأل الله العافية - في آخرته.

ثم يُؤخذ من قوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنّ صاحب العلم الذي ينتفع بعلمه هو الذي يحذر الأشياء الضارة، لكن الذي يقع عليها كما يقع الأعمى على النار والحية، مثل هذا لا ينتفع بعلمه بحال من الأحوال.

ولاحظ هذه الأفعال المتتابعة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا فعل مضارع وَمَا يُعَلِّمَانِ حَتَّى يَقُولا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ فهذه أفعال تسعة جاءت بالمضارع، مع أنه حكاية لفعل ماضي، وقضية مضت، فجاء بالفعل المضارع؛ لأنه أدعى لاستحضار تلك الحالة، كأنك تشاهدها، ويدل أيضًا على الاستمرار، وأن هؤلاء على نفس المهيع والنهج والطريق الذي سار عليه من قبلهم؛ لأن السحر ينتشر كثيرًا في اليهود، كما هو معروف، وقد سحروا النبي ﷺ وأيضًا أم المؤمنين كان لها جارية يهودية سحرتها، فهو فاشٍ فيهم، وتجد السحر فاشٍ في أهل الضلال، فتجده كثير في طوائف الباطنية، والرافضة، وما إلى ذلك، تجد ذلك في كبرائهم وشيوخهم ومقدميهم، وكما سبق: بأن شمس النبوة إذا ضعفت في مكان كثر فيه السحر والشعوذة، وإذا سطعت وأشرقت في مكان تبددت تلك الظلمات، فظهرت أنوار السنة.

ولذلك ذكر الذهبي -كما ذكرنا في الكلام على الاختلاف- لما جاء نصير الشرك الطوسي، وصار وزيرًا للخليفة العباسي، فماذا فعل بالحديث وأهل الحديث والعلم والفقه، وما إلى ذلك؟ أعطاهم أجورًا زهيدة، وأقام المراكز والمواقع للفلاسفة، ولأهل الديانات، وصاروا يتناظرون، وما إلى ذلك، وأجرى الأجور الكثيرة على أهل تلك العلوم الفاسدة، فقامت سوقهم، والله المستعان.

والمقصد: أن في هذه الآية إثبات السحر، كما ذكرنا سابقًا، خلافًا لمن أنكر حقيقة السحر، كما قاله بعض المعتزلة، وكما أنكره بعض المعاصرين، وإثبات وجود الشياطين، وهؤلاء أنكرهم بعض المعاصرين من أصحاب المدرسة العقلية، فيقولون: بأن الشياطين بمعنى الشر الموجود، والملائكة الخير الموجود، نسأل الله العافية، ويقولون: إن قصة آدم وإبليس هي عبارة عن قصة رمزية للصراع بين الخير والشر، تجد هذا في كلام بعض المنتمين إلى مدرسة محمد عبده، ومن تأثر به، يعني هم يريدون أن ينكروا كل الأشياء الغيبية، من أجل أن يعرضوا إسلامًا يقبله الماديون من أهل الحضارة الغربية، فأنكروا هذه الحقائق الغيبية، والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، ووجود الجن والشياطين هذا ثابت في القرآن، كيف يُنكر من أجل أن يقبل أولئك إسلامًا مشوهًا محرفًا؟!

أما علاج السحر: فيكون بحله إذا عُرف مكانه، أو بالرقى الشرعية، ولا يجوز الذهاب إلى السحرة من أجل حله.

وفي المربوط عن امرأته، أو المرأة حينما تمنع من زوجها، فقد ذُكر: بأنه يُؤتى بسبع ورقات من سد، ويدق بين حجرين، ثم يوضع في ماء، ويقرأ فيه على سبع مرات الفاتحة والقواقل الأربع، ويكون ذلك حلاً له بإذن الله، يغتسل به، وقد يشرب شيئًا منه، وهذا لم يتلقَ عن رسول الله ﷺ ولكن أصل الرقى من الطب، والطب الأصل فيه الإباحة، ما لم يشتمل على محرم، فلا يحتاج إلى دليل، ما دلت التجربة عليه، لكن كثير من الناس قد يتقولون ويتخرصون أشياء وليس لها أصل، وهناك أشياء موهمة مشتبهة، قد يكون لها نوع تقرب إلى الشياطين، فيجب تركها، وقد تكون هذه من تلاعب بعض الشياطين بهم، أو كان ذلك من تلاعب بعض من ينتسب للرقية.

وفي قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ رد على من يقول: بأنه يُحل السحر بالسحر، فالسحر ضرر ليس به نفع، فلا يلجأ إلى الساحر، وجاء الوعيد فيمن أتى ساحرًا أو كاهنًا، الذين يأتون السحرة، أو يأتون الكهنة؛ ولذلك لا يجوز حتى مشاهدة هذه البرامج التي يظهر فيها سحرها ولا متابعتها، ولا الفرجة، ولا سؤال هؤلاء لأي سبب كان.

وما ورد في حل السحر بالنُشرة عن بعض التابعين، المقصود به حله بالرقية الشرعية؛ لأن النُشرة تقال لحل السحر بالسحر، وهذا لا يجوز، وتقال أيضًا لحل السحر بالرقية الشرعية، وإذا نظرت إلى الضرورات الخمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، فلا يمكن أن يُبذل الدين بالذهاب إلى السحرة، فيذهب دين الإنسان من أجل استبقاء النفس، فيقولون: ضرورة، يقال: لا، النفوس تذهب في سبيل حفظ الدين.

والسحر أنواع: والعلماء يقولون: الذي يكون بغير استعانة بالشياطين ونحو ذلك محرم، لكنه لا يصل إلى الشرك والكفر، لكن يبقى النظر أنه هل يكون للسحر أثر بإذن الله بمجرد كونه عقاقير، ونحو ذلك ما لم يكن تمويهًا، أو أن تأثيره يكون بالاستعانة بالشياطين، فهذه الأعشاب والأدخانة، ونحو ذلك هل هي بمجردها أو مع الشياطين؟ فهذا الذي يظهر، إلا أن يكون ذلك من باب التمويه ومعرفة خواص المواد، فيكون من باب الحيل.

أما الذي يكون له تأثير فهذا الذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يكون إلا عن طريق الشياطين، وقد يذهب رجل مريض إلى هؤلاء السحرة، فيسأله: ما اسمك؟ وما اسم أمك؟ ثم يقول له دون أن يخبره: بك كذا وكذا، فقد يخبره عن أشياء صحيحة، ثم يعطيه بعض الأدخان وأشياء يبخر بها، أو نحو هذا، فحينما يعطي هذه الأشياء، قد يقال له: هذه موجودة بالسوق، نشتريها نحن من السوق ونضعها، فيقول: لا، هذه أنا الذي أعطيتك إياها، يعني الثانية التي في السوق ليس لها هذا الأثر، إذن هي ليست مجرد مواد أعشاب أو أشياء يبخر بها تباع هكذا، وإنما هو الذي أعطى، معنى ذلك أنه لها تعلق بالشياطين والسحر، والله أعلم.

أما عن استعمال الملح، بأن يوضع في أركان الدار، ونحو ذلك، ويُرش البيت بمثل هذا، ويقولون: يطرد الشياطين، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] فبعض الذين يشتغلون بالرقية يقولون: إن هذا من الدجل، وأنه لا أصل له، وأن هذا كذب، ونحو ذلك، وبعض هؤلاء يقولون: إن هذا ينفع في طرد الشياطين، فمن نصدق؟

وإثبات خاصية لشيء لا تثبت حقيقة يكون من قبيل الكذب على القدر، فلا يجوز، كأن يقال مثلاً: هذا النوع من المياه المعدنية إذا اغتسل فيه الإنسان يبرأ من الروماتيزم مثلاً، وتبيّن أن هذا الكلام من الناحية الطبية غير صحيح، فهذا لا يجوز، ويكون من قبيل الكذب على القدر، يعني أضاف شيئًا إلى شيء لم يجعله الله من خواصه.

والنبي ﷺ قد أخبر أن: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة[6] فتقرأ فيه، وقد سأل سائل: هل ينفع تقسيم سورة البقرة على أهل الدار؟ فالظاهر: نعم؛ لأنه بناه للمجهول، فقال: البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة فدلّ ذلك على أنه لو تقاسموها فقرأ هذا جزء، وهذا جزء، وهذا جزء، تقاسموها أهل البيت، بحيث وضعوا لأنفسهم أجزاء كل يوم يقرأ واحد منهم هذا المقدار الذي عليه، فإن ذلك يحصل به المقصود، والله أعلم، فهي مقروءة في هذه البيت، فلا إشكال.

كما أن الشيطان يفر من ذكر الله فالبيوت العامرة بذكر الله يفر منها الشيطان، والإنسان الذي يكثر من ذكر الله يفر منه الشيطان، ويخاف منه، فالناس الذين يتسلط عليهم الشيطان بالوساوس والخواطر والمخاوف، لا سيما في أوقات الضعف، فبعض الناس يضعف في مثل هذه الأحوال، فإذا ضعف تسلط عليه الشيطان، فبدأ يلقي في قلبه الوساوس والخواطر والواردات السيئة، فيحصل له بسبب ذلك من الانزعاج والوساوس المقلقة ما يشغله به في ليله ونهاره عن الله وطاعته، وعن ما هو بصدده من أمور دنياه، فقد تجد هذا الإنسان يبكي بكاء مرًا لشدة ما يجد من هذه الخواطر والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلبه، فما هو الحل والعلاج؟ الاستعاذة، وكثرة ذكر الله فليس لهذا الشيطان سلطان على مثل هؤلاء الذاكرين، فلا يستطيع الاقتراب منهم، والله أعلم.

فهذه بعض الوقفات مع الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 75) وعبارته: "ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بثوب من الحق...".
  2.  نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266). 
  3.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (79) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (1233).
  4.  الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 283). 
  5. النبوات لابن تيمية (1/ 192). 
  6.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد برقم: (780). 

مواد ذات صلة