بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:120].
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ أيها الرسول ومن تبعه من هذه الأمة الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى لن يتحقق رضاهم إلا إذا تركت ما أنت عليه من الحق والدين الذي أمرك الله باتباعه، وليس ذلك فحسب بل حتى: تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
ثم أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ أن يرد على هؤلاء بقوله: إن دين الإسلام هو الدين الصحيح: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ولئن اتبعت أهواء هؤلاء بعد الذي جاءك من العلم والحق والوحي الذي أوحى الله به إليك ما لك عند الله من ولي ينفعك ولا نصير ينصرك، فهذا موجه إلى النبي ﷺ وهو خطاب أيضًا لأمته.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن ما سبق من المقترحات، والآيات التي يطلبها هؤلاء من الرسول ﷺ ما هي إلا من قبيل التعنت، ما هي إلا تعنت، فهم لا يطلبون ذلك من أجل معرفة الحق واتباعه، وإنما يريدون بذلك العناد والتعجيز، وقد بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة حالهم بقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ليست القضية آيات يطلبونها ثم بعد ذلك يستجيبون ويؤمنون، فهم لا يطلبون حقًا، بل هم يعرفون أن ما جاء به النبي ﷺ هو الحق، يعرفون ذلك معرفة تامة كما يعرفون أبناءهم، فالإنسان لا يعرف نفسه وهو صغير، فلم يقل: كما يعرفون أنفسهم، وإنما قال: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] فهو يعرف ابنه منذ خروجه من بطن أمه، لا يلتبس عليه بغيره.
ويؤخذ من هذه الآية أيضًا إذا كان هؤلاء لن يرضوا حتى تتحقق هذه الغاية وهي اتباع ملتهم، إذن النتيجة دع هؤلاء وما يطلبون وما يعرضون وما يحاولون فلا تبحث عن رضاهم؛ لأنه لن يتحقق لك، هذا أمر لن يحصل إلا باتباع ملتهم، فأقبل على مرضاة الله -تبارك وتعالى- في دعوتهم ودعوة هؤلاء إلى الدين الحق الذي بعثك الله به، كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله[1].
رضى هؤلاء ليس بعيد المنال ولكنه متعذر، لا يمكن أن يتحقق، إذن لا تجري خلف سراب، ولا تمني نفسك بأمر ممتنع، هذا الرضى لن يتحقق بتنازلات جزئية، ولا بأموال تعطى لهم، ولا بنوع من المداراة والمصانعة، ولا بموافقتهم في بعض ما يريدون، إنما سيتحقق الرضى إذا اتبعت ملتهم، هذه هي الغاية.
لاحظوا هنا في الرضى، لكن في القتال أخبر أن ذلك يستمر وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:217] إلى غاية، قال: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [سورة البقرة:217] هذا في القتال، لا يتوقف القتال إلى قيام الساعة مع أعداء الله والكفار، فهذه سنة ماضية لا تتبدل ولا تتغير، مهما قالوا، ومهما تصنعوا، ومهما تزينوا، ومهما رفعوا من الشعارات الجميلة الخادعة، ومهما أضافوا إلى أنفسهم من الأوصاف من أنهم دعاة سلام ونحو ذلك فهذا كله كذب، والواقع يشهد بما بينه القرآن، وهذا كلام الله الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم.
فالقتال يستمر ولا يتوقف إلا إذا ترك المسلمون دينهم، وأما الرضى فلن يتحقق بمجرد ترك الدين، وإنما باتباع ملتهم، وهذا أشد، رضاهم لن يحصل، يعني إذا ترك المسلمون دينهم لن يرضوا عنهم لكن قد يتوقف القتال معهم، فهم يحاولون ذلك جاهدين، تارة بالحرب وتارة بما يفرضونه على المسلمين في أوقات الضعف من مطالبات وضغوطات تحت شعارات ومنظمات من شأنها أن تمسخ المسلمين عن هويتهم ودينهم، وما هم عليه من الحق والهدى الذي بعث الله به رسوله ﷺ.
هذه الآية تبين حقيقة المعركة: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى ما قال: إلا إذا منحتهم الأموال، أو الأرض، أو الثمر، أو المعادن، أو دعمت اقتصادهم، لا، وإنما قال: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فهذا يبين أن المعركة ليست معركة اقتصادية، وليست المعركة على مواقع استراتيجية، أو ممرات مائية، وإنما المعركة الحقيقية هي هذه حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حتى لو قالوا: بأنهم قد تخلوا عن الدين، وأن الدين لم يعد هو المحرك لهم والدافع الحقيقي في سياساتهم وعلاقاتهم وحروبهم وسلمهم، فهذا كذب.
الدافع الاقتصادي لا ينكر، السبق إلى المواقع الاستراتيجية وما إلى ذلك والممرات المائية وكل هذا لا ينكر، ولكن يبقى الدين هو الأساس، هو الدافع الحقيقي الذي يحرك هؤلاء وانظروا إلى تصريحاتهم حينًا بعد حين، تجد أن العبارات تتكرر عبر الأجيال إلى يومنا هذا: حرب مقدسة، يباركها الرهبان والأحبار عند اليهود، ويباركها أيضًا القسس والرهبان عند النصارى، حرب يرفع فيها شعار الصليب، ويرفع فيها شعار اليهود، وتجد أن هؤلاء يستمدون في هذه الحرب بأمور دينية ونصوص من كتبهم المحرفة، كما نجد هؤلاء يصرحون بأنهم لن يمكنوا ولن يسمحوا بقيام لأهل السنة في البلد الفلاني، هكذا يصرحون، وما شأنهم؟ هذه بلاد المسلمين، وبلاد أهل السنة، ما شأنهم حتى يقولوا: لن نسمح، ولماذا لا يسمحون؟!
فهذا كله لأن الحرب في منطلقاتها ابتداءً هو الدين: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فهم يريدون التضليل بعباراتهم المموهة التي يطلقونها في محافلهم ونحو ذلك، لكن هذه هي الحقيقة الكبرى التي نص عليها القرآن، فينبغي أن نتعامل معهم من هذا المنطلق، نعرف حقيقة الصراع.
وهنا النفي جاء بـ"لن" وَلَنْ تَرْضَى ما قال: لا ترضى، يعني أدوات النفي تتفاوت في القوة، أقوى أدوات النفي "لن"، يعني لا تؤمل ولا ترجي رضى هؤلاء، لن يرضوا، فإذا قدمت لهم التنازلات سيطالبون بتنازلات أخرى، وهكذا.
وكذلك أيضًا لاحظ هنا أنه قال: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَنْ تَرْضَى ذكر اليهود والنصارى، واليهود والنصارى على ملتين، وكل ملة في الواقع هي ملل، يعني النصارى طوائف وفرق يُكفِّر بعضها بعضًا، واليهود كذلك هم فرق واقرأوا في كتب الأديان تجدون أسماء لفرق اليهود وأسماء لفرق النصارى، كل فرقة تكفِّر الأخرى.
لكن دعنا من هذه الفرق التي كل طائفة تكفِّر الطائفة الأخرى، اليهود والنصارى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حتى تتبع ملتهم، اتباع الملة وحدها، مع أنهم على ملتين متناحرتين متنافرتين متناقضتين كل ملة تضلل الأخرى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] لكن وحَّد الملة هنا لأنها ملة الكفر، وملة الكفر واحدة، وملة الكفر هي ملة تتحد إذا كان العدو هو الإسلام، كما نشاهد في هذا العصر وفي غيره من العصور، الكفر ملة واحدة، يجتمع المجوسي واليهودي والنصراني والبوذي والهندوسي، كل هؤلاء يجتمعون، البوذي في الصين مع اليهودي في أصقاع المعمورة، وما جُمع من أشتاتهم في فلسطين، وكذلك النصارى في أي مكان، يجتمع هؤلاء مع المجوس في حرب المسلمين، أيًا كانت الشعارات المرفوعة، فالكفر ملة واحدة، فهنا قال: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فوحَّد الملة مع أنها ملل.
وأيضًا النصارى لن ترضى إذا كان على دين اليهود وحاشاه، واليهود لن ترضى إذا كان على دين النصارى وحاشاه، فيكون ذلك من باب الجمع في الضمير من باب الإيجاز فقط، قد يكون لهذا وحَّد الملة، يعني كأنه يقول: ولن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم، ولن ترضى عنك النصارى حتى تتبع ملتهم، لكن من باب الإيجاز وحَّده فقال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] يعني ملة كل طائفة.
ولاحظ كيف أكد النفي بدخول "لا" في النفي في الموضعين بين المعطوفين وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ما قال: والنصارى حتى تتبع ملتهم، وإنما قال: وَلا النَّصَارَى فكل طائفة لن ترضى على سبيل الاستقلال، فهذا يؤكد النفي.
وكذلك أيضًا قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى هذا هو الرد إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ فجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة إِنَّ هُدَى اللَّهِ ما قال: إن هدى الله الهدى، وإنما قال: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ تقول: زيد هو الكريم، ودخول "ال" على الهدى، فهذا الأسلوب يشبه الحصر، أو يفيد الحصر: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى فقط، وما عداه فليس بهدى، بل هو ضلال، فجاء ذلك بدخول ضمير الفصل "هو" و"ال" الهدى، زيد هو الكريم، ممكن أن تقول: زيد كريم، فلا يفيد الحصر، زيد كريم وعمرو كريم، لكن: زيد هو الكريم، فهذا يفيد الحصر، فهدى الله هو الهدى، يفيد القصر يفيد التوكيد، وما عداه فهو ضلال مبين.
وأيضًا التوكيد بـ"إن" قُلْ إِنَّ فـ"إن" هذه مؤكدة، هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:120] إذا كان الذي يتبع غير الحق يطلب رضى هؤلاء الناس من أجل أن يقفوا معه، أن ينصروه، أن يعينوه، أن يؤيدوه، أن يكون له يد عندهم مثلاً ما له من الله من ولي ولا نصير، إذن الطريق أين؟
الطريق في اتباع هدى الله، وإلا فإن الإنسان قد يطلب النصر، قد يطلب التمكين، قد يطلب القوة، قد يطلب المدد من الخلق فيتخبط ويخذل من حيث رام النصر؛ لأن الله يقول: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أن تريد ولي تركن إليه، تريد من يقف معك، تريد من ينصرك: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فيتوجه إليه، كما قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة الأحزاب:1، 2] هذا هو ناه عن اتباع هؤلاء الكافرين والمنافقين، وهذا نهي للأمة، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه من ربه، قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [سورة الأحزاب:2، 3]؛ لأن هؤلاء لن يتركوك، سيكيدون لك، سيحاربونك، سيحيكون المؤامرات، سيشوهون سمعتك في الإعلام.
قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [سورة الأحزاب:3] وكيل وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3] كافيه، فيحصل له الكفاية والحسب إذا كان متبعًا لهداه ومتوكلاً عليه، فإذا علم الإنسان أنه ليس له من دون الله من ولي ولا نصير إذا ترك أمره فلا يبقى أمامه إلا اتباع هدى الله، رضي من رضي وسخط من سخط، من أرضى الناس بسخط الله سخط عليه وأسخط الناس عليه، ومن أرضى الله بسخط الناس وأرضى الناس عنه[2].
وأيضًا: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [سورة البقرة:120] اتباع الهوى بعد العلم أشد في الضلالة، فرق بين إنسان غِر جاهل حصل له اتباع للهوى، أو تشبه باليهود والنصارى، أو نحو ذلك وهو لا يشعر أو لا يعلم؛ لقلة علمه يظن أن عندهم ما يمكن أن ينتفع به في باب السلوك، والأخلاق، وما يحصل به طمأنينة النفوس، وما إلى ذلك كما يفعل بعضهم في هذه الكتب المترجمة التي تُقدم بصورة دورات، قد يقع في هذا جاهل.
لكن الذي يعلم ثم يترك ما علم، درس العلوم الشرعية وعلم وحضر في مجالس العلم وصار عنده علم بما أنزل الله على رسوله ﷺ ثم يدير ظهره، ويتنكر لهذا كله، وتصير الحكمة عنده في قول فلان وفلان من فلاسفة الغرب أو الشرق فهذا حاله أشد من إنسان لم يكن له بصر أصلاً بهذه العلوم الشرعية والهدى الكامل، وكان يظن أن هذه الأشياء التي يقولها فلاسفتهم أنها فيها إضافة، وفيها فائدة، وفيها نفع، فصار يتلقفها وينشرها ويغرد بها، لكن إذا صدر هذا ممن ينتسب إلى العلم ثم تنكر لما علم فهذا الحال تكون أشد.
وأيضًا هؤلاء اليهود والنصارى هم ليسوا على حق وليسوا على هدى بل هم على هوى؛ لأن الله قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ فالذي عليه هؤلاء هي أهواء، ما عليه اليهود بمختلف طوائفهم وفرقهم هي مجرد مجموعة من الأهواء، ما عليه النصارى بمختلف طوائفهم هي مجموعة من الأهواء والضلالات هي هكذا.
إذن لا تشك في الحق الذي معك من جهة، ومن جهة أخرى لا تتعنى، ليس هناك ما يستحق التعني، لا تتعب، أقصر في خطواتك فإن ليس ثمة هدىً عند هؤلاء، بل عندهم ضلال وأهواء، فمن الناس من يقول: هؤلاء عندهم حق فينبغي أن نسمع منهم، وأن نأخذ الحق والأمور الإيجابية التي عند هؤلاء، هذا لا يقوله أحد عرف الحق الذي جاء به الرسول ﷺ والهدى الكامل الذي في هذه الشريعة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [سورة المائدة:3] ثم بعد ذلك يقول: اليهود عندهم حق، والنصارى عندهم حق، والمجوس عندهم حق، والهندوس عندهم حق، والبوذيون عندهم حق، فينبغي أن نأخذ الحق الذي عند كل الطوائف، هذا يوجد من يقوله، ويدرس في دورات، ويصدقه بعض الناس، فهذا عين العمى والجهل والضلال، فالله سمى هذه الأشياء التي عندهم ضلالات وأهواء: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ.
إذن هي ليست بدين حق، ولم يقل: ولئن اتبعت ملتهم بعد الذي جاءك من الحق أو من العلم، وإنما قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ في الأول قال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فلما نهاه عن اتباع ذلك قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي ما قال: ولئن اتبعت ملتهم بعد الذي جاءك من الحق، هناك: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ باعتبار أنهم يعتبرونها ملة ودين، لكن هنا في نهي الله عن ذلك وتحذيره بيَّن أنه ليس ثمة دين حق ولا ملة وإنما هي مجرد أهواء، فجاء الفرق بين العبارتين: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هم هكذا يعتقدون فجاء التعبير بحسب اعتقادهم، لكن لما جاء النهي بين أنها مجرد أهواء، والهوى ضلال لا يجوز اتباعه بحال من الأحوال.
ويؤخذ منه أن ما عدا الحق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ما عدا الحق الذي عندنا الذي جاء به الرسول ﷺ فهو أهواء بأي اسم كان فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [سورة يونس:32] يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص:26] لا تتبع الهوى، يعني لا يوجد إلا هدى وهوى.
إذًا كل الشعارات التي يرفعها هؤلاء والعقائد هي أهواء، سواء مما ورثوه عن آبائهم كانتسابهم لليهودية أو النصرانية المحرفة، أو كان ذلك مما جادت به قرائحهم وأذهانهم الفاسدة الكاسدة كالديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات الفاسدة الاشتراكية، الشيوعية، الرأسمالية، الليبرالية، كل هذا وأسماء كثيرة جدًا هي كلها أهواء، بجميع تفاصيلها هي هوى، تقول: هذه الديمقراطية لها تعريفات كثيرة جدًا، لها سبعة عشر تعريفًا، نقول: هي سبعة عشر ضلالة، في كل تعريف هي ضلالة جديدة، لها صيغ، نقول: هي بصيغها لم تكن مما جاء به الرسول ﷺ وأوحى الله به إلى نبيه -عليه الصلاة والسلام- فهي ضلال وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ولعله يأتي حديث -إن شاء الله تعالى- عن هذا في الكلام على العبر من التاريخ، في كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.
هذه أهواء، وحقيقة الحرية التي يدعيها هؤلاء قبل الحادي عشر من سبتمبر، أنها لم تكن حرية حقيقية وليس عندهم حرية حقيقة، وإنما عندهم خلاف ذلك في الحقيقة لمن نظر بعين البصيرة، أما بعد الحادي عشر من سبتمبر فالعالم كله شاهد حقيقة الحرية عند هؤلاء في بلادهم وخارج حدودهم، لكن قبل كان الناس لا يصدقون حينما يقال: لم تكن حرية حقيقية، حينما يفتح مركز إسلامي أو غير ذلك يظن أنها حريات، والواقع أنها ليست حريات، الناس يترقبون في كل لحظة من كل تصرف ويأتي بصيغ مختلفة وبوجوه متعددة، تارة بمسمى جهة معينة، وتارة بمسمى جهة أخرى، والقضية كلها رصد ومتابعة للأنفاس هناك، لم تكن حرية ولا يعيش الناس بحرية حقيقية، هذا قبل الحادي عشر من سبتمبر، فكيف الحال بعدها؟ الكل يشاهده وظهرت الحقائق للناس، فالذين يرفعون شعارات ويقولون: الحرية، والغرب، والحرية، وصنم الحرية، وما إلى ذلك، هذا لا حقيقة له، إنما الحرية هي بالعبودية لله هذه الحرية الحقيقية، وأن الهدى هدى الله وأن الشرع هو الذي يجب أن يحكم في الناس، إلى غير ذلك مما يطول وصفه، فليس هناك واسطة بين الحق والضلال.
وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:120] أن الإنسان إذا اتبع غير شريعة الله فلا أحد يحفظه من الله ولا أحد ينصره من دونه حتى لو كثر في الظاهر ناصروه؛ لأن النصر الحقيقي والولاية تكون باتباع هدى الله -تبارك وتعالى- كما دلت عليه هذه الآية.
والمؤكدات في قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ القسم الذي دل عليه دخول اللام: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ فهذه تدل على القسم، الإجمال ثم التفصيل بذكر الاسم الموصول وتبيينه بقوله: مِنَ الْعِلْمِ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
وكذلك أيضًا جعل الذي جاء هنا أي الذي أنزل الله إليه هو العلم، كل العلم، لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فهذا هو العلم، وما عداه فهو جهل.
وكذلك جملة الجزاء جاءت اسمية تدل على الثبوت: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وكذلك تأكيد النفي بدخول "من" مِنْ وَلِيٍّ "ولي" نكرة في سياق النفي وهي للعموم، ودخلت عليها "من" فنقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي ولي، فيبقى الإنسان في مهب الريح ما يقال.
وكذلك تأكيد النفي بـ"لا" النافية بين المعطوفين مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ما قال: ونصير وَلا نَصِيرٍ فكل واحد منتفٍ انتفاءً تامًا.
وكذلك تأكيد مِنْ وَلِيٍّ؛ لأن الولي هو الناصر، عطف عليها وَلا نَصِيرٍ فلا مجال لعلوٍ ولا ظهورٍ ولا نصرٍ ولا تمكين إلا باتباع الهدى الذي جاء به النبي ﷺ.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 402).
- أخرجه الترمذي، في أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ برقم (2414)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6010).