بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي تتحدث عن تحويل القبلة، وما تلا ذلك من حديث عن بني إسرائيل يتصل بحديث طويل قبله.
يقول الله -تبارك وتعالى- حينما قرر معنى في غاية الوضوح: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [سورة البقرة:145] فهم باقون على ضلالهم وكفرهم لا يتحولون عنه مهما جاءهم من الآيات، والمسألة ليست بسبب عدم علمهم بحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ أو أن ذلك بلغهم مشوهًا وإنما كما سيأتي الأمر أكبر من ذلك.
فهنا يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن قرر تلك الحقيقة بين مرتبة علمهم بما جاء به الرسول ﷺ أولئك مهما أتاهم من الآيات لن يؤمنوا، إذًا القضية ليست بسبب نقص في المعلومات، وإنما: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل أحبار اليهود وعلماء النصارى، يعرفون أن محمدًا ﷺ رسول الله بأوصافه المحددة الواضحة في كتبهم، معرفة تامة لا يلتبس معها بغيره: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] فأبناءهم لا يلتبسون عليهم بحال من الأحوال، وإن فريقًا من هؤلاء ليكتمون الحق وهم يعلمون صدقه وما جاء في كتبهم من الشهادة له بالنبوة والرسالة -عليه الصلاة والسلام.
ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يحتمل أن يكون الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ أي: تحويل القبلة التي جاءت في هذه الآيات وكان الحديث عنها، واعترضوا عليها: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يعرفون هذا الأمر وهو تحويل القبلة وأنه حق ثابت من الله.
ويحتمل أن يكون ذلك: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] أي: دين الإسلام كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
ويحتمل أن يكون المراد أمر النبي ﷺ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأنه مُرسل من الله.
وهذه المعاني بينها مُلازمة فإن دين الإسلام إنما جاء به رسول الله ﷺ وموضوع تحويل القبلة إنما هو جاء بوحي من الله إلى رسوله ﷺ فهم يعرفون ذلك جميعًا: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ فعلى القول بأن الضمير يرجع إلى الرسول ﷺ ولم يسبق له ذكر يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] فيمكن أن يؤخذ من هذا تفخيم أمر النبي ﷺ وأنه بمنزلة من الشهرة ينصرف الضمير مُباشرة إليه ولو لم يكن له ذكر قبله يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول الله ﷺ.
وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] هنا يوجد التفات، والالتفات أنه تحويل الكلام من المخاطب إلى الغائب أو العكس، أو من المفرد إلى الجمع أو العكس، أو غير ذلك من صور تحويل الكلام من صيغة إلى صيغة أخرى، فهنا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144] خطاب للنبي ﷺ مُباشرة، وجهك، بكاف الخطاب فَلَنُوَلِّيَنَّكَ بكاف الخطاب فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] كل ذلك جاء بصيغة الخطاب، ثم قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] بالغائب إذا كان المراد بذلك النبي ﷺ على هذا المعنى يَعْرِفُونَهُ فحول الخطاب حول الكلام من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب وهذا فيه تنشيط للسامع، وتفنن في الصياغة، وهو من ضروب البلاغة يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] وهذا أفخم على كل حال أيضًا كما هو مُلاحظ.
وكأنه -والله تعالى أعلم- لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب أقبل على الناس فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:146] واخترناهم لتحمل العلم والوحي يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآية السابقة، وأمرناه ونهيناه لا يشكون في معرفته، يعني: كأنه ينوه به عند الناس فجاء بضمير الغائب، يعني: هو تحويل الكلام هذه التي يُقال لها الالتفات أو هذا الذي يُقال له الالتفات هو في كل مقام تُتلمس حكمته في ذلك المقام، لكن مثل هذه الأشياء بطبيعة الحال، واللطائف البلاغية في الالتفات والمناسبات ونحو هذا هي أمور ظنية لا نقطع بها، ولكن يُعرض منها ما كان قريب المأخذ، أما المُتكلف فلا يصح الاشتغال به، كما أنه لا يصح إشغال الناس بمثل هذه اللطائف على حساب المعنى الأساس الذي نزلت الآية من أجله، ولذلك في كل مرة نذكر المعنى العام للآية؛ لئلا يضيع المقصود الأول من نزولها، ثم ندخل في هذه الجوانب التي قد يدق بعضها.
ويؤخذ من قوله: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] كما قال بعض أهل العلم ما قال: كما يعرفون أنفسهم، يعرفونه كما يعرفون أنفسهم، لماذا قال: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146]؟ قالوا: بأن الإنسان إذا ولد فإنه لا يعرف نفسه فيحتاج إلى مدة بعد ذلك يُدرك ما حوله، ويتعرف على الأشياء ويعرف نفسه، بينما الولد يعرفه أبوه منذ أن تقع عينه عليه، فقال: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] والبنات الابن هو الذكر، فما وجه ذكر الأبناء؟
يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أنهم أكثر حفاوة بالأبناء فيعرفه معرفة أدق لشدة حفاوته به، وكذلك أيضًا لربما كان ذلك لكثرة مُلازمتهم للأبناء ومُخالطتهم ومُلابستهم لهم.
وقد قال بعض أهل العلم وإن كان هذا المعنى فيه نظر لكن من باب أن الشيء بالشيء يُذكر في الفقه في التعليل للنضح من بول الغُلام، يعني الذي ما أكل الطعام في مدة الرضاع يُنضح من بوله يعني نجاسته مُخففة، ويُغسل من بول الجارية كما قال النبي ﷺ[1] الفقهاء -رحمهم الله- تكلموا عن هذا بتعليلات مُتعددة، الذي يُذكر هنا في هذا المقام يعني من باب أن الشيء بالشيء يُذكر بصرف النظر هل هذا المعنى صحيح أو لا، لا أقصد هذا، قالوا: أن الولد يكثر الاحتفاء به فالكل يحمله، لا يكاد يوضع على الأرض فيصعب التحرز فيقع بوله على أهله، فخُفف لكثرة الملابسة، ولذلك قالوا: "المشقة تجلب التيسير" هكذا قال بعضهم مع أن هذا التعليل يوجد تعليلات أخرى غير هذا معروفة عند أهل العلم.
أيضًا يمكن أن يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- كما يعرفون أبناءهم أن ذلك من باب يمكن أن يوجه هذا ذكر الأبناء خاصة أنه من باب التغليب، غلب الأبناء على البنات والمقصود الجميع، يعني: ذكر أحد القسمين ليدل على الآخر، يعني: كما يعرفون الأبناء والبنات، هذا يحتمل.
ويؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] الآية التي بعدها، يعني: الحق الذي أُنزل إليك من ربك، هذا هو الحق فالزمه واثبت عليه، ولا يقع لديك شك وامتراء فيه بحال من الأحوال، فإن كان ذلك موجهًا للنبي ﷺ وحاشاه أن يكون من المُمترين الشاكين، فهو خطاب إليه يتوجه إلى أمته كما ذكرنا في مُناسبات سابقة أن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها -عليه الصلاة والسلام.
وفي قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] لا يخلو هذا من مُبالغة وتأكيد بالنهي عن كونه منهم، يعني: حينما يقول: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] يعني: لا تكون في جملتهم أبلغ مما لو قال: فلا تمتري فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] فهذا نهي عن الكون معهم بهذه الصفة، وهو أبلغ من النهي عن الصفة نفسها.
ويؤخذ من قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] عناية الله -تبارك وتعالى- بنبيه ﷺ في تثبيته وتقوية عزمه وقلبه على لزوم الحق الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] يعني: فاثبت عليه لا تتضعضع فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] يقتضي الثبات على هذا الأمر والبُعد الامتراء، فهذا تأييد للنبي ﷺ من ربه -تبارك وتعالى.
ويؤخذ من قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] أن كل شيء خالف ما جاء عن الله -تبارك وتعالى- فهو باطل، وأهله من أهل الامتراء.
وكذلك أيضًا إضافة النبي ﷺ إلى اسم الرب: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] هذا يدل على مزيد عناية برسول الله -عليه الصلاة والسلام- وحاشاه أن يكون من الممترين، فهو أثبت الناس، وأهداهم، وأعلمهم بربه -تبارك وتعالى- فمثل هذا النهي لا يقتضي كونه معهم بحال من الأحوال، ولكن يمكن أن يُقال ذلك من باب المبالغة في الزجر والنهي، أو أن ذلك من باب خطاب النبي ﷺ والمقصود الأمة من بعده -والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم (376)، وبرقم (377)، والترمذي، أبواب السفر، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، برقم (610)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب بول الجارية، برقم (304)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (402)، وفي صحيح الجامع، برقم (8117).