الأحد 15 / جمادى الأولى / 1446 - 17 / نوفمبر 2024
[134] قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..}
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1094
مرات الإستماع: 1676

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:178].

فهذا خطاب من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: انقادوا وأذعنوا بقلوبهم، وأقروا بما يجب الإقرار به من حقائق الإيمان، وصدقوا ذلك بجوارحهم.

يا أيها الذين آمنوا فرض الله عليكم، وشرع القصاص؛ وذلك في القتل العمد على وجه من العدالة والمساواة في هذا الموضع، فالحر بمثله، والعبد بمثله، والأنثى بمثلها؛ وذلك لا يعني أن الرجل إذا قتل المرأة أنه لا يقتص منه، وكذلك المرأة إذا قتلت الرجل أنه لا يقتص منها، ولكن هذه الآية جاءت مقررة لأصلٍ كان أهل الجاهلية على خلافه، فكانوا يرون أن المرأة لو قتلت رجلاً، أو الرجل لو قتل امرأة، فإن أولياء الدم بالنسبة للرجل المقتول يرون أن هذه المرأة لا تكافئه فيقتلون رجلاً.

وكذلك أيضًا كان هؤلاء في جاهليتهم ربما قتل الواحد منهم غير القاتل الذي يرونه لا يكافئه، فيرون أن فارس هذه القبيلة، وأن شيخ هذه العشيرة لا يكافئه هذا القاتل الصعلوك مثلاً، فيقتلون فارس القبيلة، ولا جناية له، أو يقتلون رأس القبيلة، ولا جناية له، وربما لم يكتفوا بقتل الواحد الذي قتل، فيرون أن هذا المقتول لا يكافئه واحد من هؤلاء القوم، فيقتلون بالواحد جماعة من الناس، فيرون أن هذا يقتل به مثلاً عشرة من هذه القبيلة، وأنه يساوي أكثر من ذلك في نظرهم، فيقتلون أبرياء لم يكن لهم جناية، ولم يشتركوا بقتله، فجاءت هذه الآية بتقرير هذا الأصل: أن القصاص مشروع على وجه من العدالة الكاملة، الحر بالحر، سواء كان رأس القوم، أو كان من صعاليكهم، فالقاتل يقتل في جنايته، ولا يقتل غيره، ولو كان المقتول شريفًا عظيمًا مقدمًا في قومه، وكذلك العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فليس فيه أن الأنثى لا تقتل بالرجل، أو الرجل لا يقتل بالأنثى، فالآية لم تتطرق لهذا، ولكن جاءت على هذا النسق، لتقرير هذا الأصل، هذا حاصل كلام أهل العلم فيها.

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي: سامحه ولي الدم، فعفا عن القصاص، وقبل بالدية، وهي القدر المالي الذي حدده الشارع، يدفعه الجاني إلى أولياء المقتول، فينبغي هنا كما وجه الله -تبارك وتعالى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ حيث وجه الطرفين، وجه أولياء الدم الذي قبلوا بالدية بالاتباع بالمعروف، دون أن يكلفوه، أو يحملوه، أو يطالبوه بما لا يطيق، فإن كان معسرًا أمهلوه، وهكذا، وكذلك أيضًا هذا الجاني ينبغي أن يكون أداؤه لهذه الدية بغير مماطلة، وبغير أذى، وبغير إعنات وإتعاب لأولياء الدم.

ثم قال: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فهذا العفو مع أخذ الدية تخفيف من الله -تبارك وتعالى- ورحمة لما فيه من التسهيل؛ لأن من كان قبلنا من أهل الكتاب فإنه لا يشرع عندهم أخذ الدية، وإنما القصاص إذا أراد حقه، فهذه الشريعة جاءت بمشروعية القصاص، وبمشروعية أخذ الدية، وبالعفو مجانًا.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ من اعتدى بعد ذلك يعني لو أن أولياء الدم عفوا مجانًا، أو قبلوا الدية، ثم بعد ذلك اعتدوا على هذا الجاني الذي عفوا عنه، فهم متوعدون بعقوبة الله -تبارك وتعالى: فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فبعض أهل العلم يقول: هذا العذاب الأليم يكون في الدنيا، بالقصاص منه، وبعضهم يقول: في الآخرة بالعذاب بالنار، وبعضهم يقول: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ هذا فيما يتعلق بالجاني، والله تعالى أعلم، والقول الأول أقرب، والعلم عند الله.

فيُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا حيث خاطب المؤمنين، فهذا فيه فوائد متعددة: من ذلك أن أهل الإيمان هم المتأهلون بكونهم يقبلون عن الله -تبارك وتعالى- شرعه وأحكامه، فخاطبهم بذلك.

ثم أيضًا هذا الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيه تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص، فربطه بالإيمان، كأنه يقول: إن ما معكم من الإيمان يمنعكم من التهاون والتساهل في أحكام الله وشرائعه، ومن ذلك هذا القصاص، فإن المؤمن الصادق يحرص على دفع أسباب الشر، والقيام بحقوق الله -تبارك وتعالى- وحقوق الخلق، والوقوف في وجه كل فتنة من شأنها أن تعصف بالأفراد، أو المجتمعات، وتنقطع أواصر الألفة بين أفراد المجتمع، فيختل نظامهم وأمنهم، ويصير هؤلاء الناس في حالات من الثأرات، وتوجد عندهم وتقوى نوازع الانتقام، كما يقول الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله[1] فلو لم يقم هذا الحكم، فإن ذلك مؤذن بفساد عريض.

ولذلك تجد في بعض البلاد التي لا يقام فيها القصاص بعض الجثث طافحة في نهر، أو نحو ذلك، تلقى فيه لا يدرى من أي كَفْرٍ أو قرية، أو ناحية ألقيت، وحينما تسأل: ما هذا؟ يقال: هذا ثأر بسبب جناية وقعت على هؤلاء، فهكذا تكون النتيجة إذا غاب القصاص، فيتربص بكل هؤلاء من ذوي القاتل، فإذا ثقف أحد منهم فهؤلاء من أولياء الدم يرون أنهم قد حصلوا ثأرًا، مع أن هذا الذي نالوا منه وقتلوه قد لا يعلم بما جرى لهم، وما وقع من قومه، أو من ذاك الذي جنى من قومه، وهكذا يبقى هؤلاء في ترقب دائم، وخوف وتهديد، ويبقى أولئك في تربص دائم وملاحقة لهؤلاء ليقتصوا منهم، لكن هذا التشريع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ يدل على أن تنفيذ هذه الأحكام التي منها القصاص من مقتضيات الإيمان، والخطاب موجه للمؤمنين.

وتأمَّل لفظة القصاص كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فإن القص يدل على تتبع الأثر في أصل معناه في كلام العرب؛ يقال: قصَّ أثره، فهذا أصل هذه المادة: قَصَصَ، ومن ثم فإن القصاص يكون بأن يفعل بهذا الجاني كما فعل من غير زيادة ولا نقصان، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33] فلا يسرف في القتل قيل معناه: لا يمثل بالقاتل تشفيًّا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، هذا قتله بضربة بالسيف، أو نحو ذلك، فلا يصح أن يقتص منه بطريقة يتشفى فيها هذا المقتص، فيقطع أعضاءه، أو أن يحرقه بالنار، أو أن يعذبه، أو نحو ذلك، وإنما يفعل به كما فعل من غير زيادة ولا نقصان، ما لم يكن هذه الوسيلة محرمة في أصلها، كالتحريق بالنار، وكما لو أنه فعل الفاحشة بصبي فقتله، أو بصبية فقتلها بذلك، فإنه لا يفعل به ذلك، فإن هذا لا يجوز، وإنما يضرب بالسيف، فهذا القصاص.

فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] ويدخل في الإسراف في القتل أن يقتل غير القاتل، كما قلنا ممن يرى أنه يكافئ هذا المقتول، وكأن يقتل جماعة لا جناية لهم؛ لكونه يرى أن هذا المقتول لا يكافئه إلا جمع من هؤلاء فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33] فالضمير يرجع على القول الراجح إلى ولي الدم، فهو سينصر، وبعضهم يقول: على القاتل، إذا فعل به من الظلم أثناء القصاص سينتصر بعد ذلك.

فهنا يقول الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ القتل من أكبر الكبائر، وهنا سماه أخًا، فدل على أن الكبائر لا تُخرج من الإيمان، لا يكون فاعل الكبيرة كافرًا، فسماه أخًا، هذا في القتل، وفرق بين القتل والقتال، القتل بالجناية بإزهاق الروح، وأما القتال فهو مفاعلة بين طرفين وأكثر، وقد يحصل معها قتل، وقد لا يحصل وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:9، 10] فأثبت هذه الأخوة بين هؤلاء المقتتلين، فصار أهل الإيمان إخوة مع وجود القتال بينهم، وكذلك أثبت لهم الأخوة مع وجود الجناية وهي مباشرة القتل، فهذا لا يكفر به مع أنه من أعظم الجرائم، وأشد الكبائر، والله يقول فيمن يقتل المؤمن متعمدًا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [سورة النساء:93] فذكر له هذه الأمور جميعًا.

وتأمَّل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ عفي له، فالفعل (عفا) يعدى بـ(عن) عفي عنه، ويعدى باللام: عفي له، فهنا: عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فالعفو هنا يمكن أن يكون عن الجاني، يقال: عفا عن فلان، ويمكن أن يكون عن الجناية، فيقال: عفا عن جناية فلان، فإذا أريد الجاني والجناية معًا عدي باللام فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني عفي عن الجاني وجنايته.

كذلك أيضًا تأمل قوله: (شيء) فقد جاء منكرًا فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ نكرة في سياق الشرط فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وهي للعموم، فدل على أنه عفا بعض أولياء الدم سقط القصاص، إذا قبل بعضهم بالدية سقط القصاص فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وهذا يدل على تشوف الشارع لحقن الدماء.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إثبات الإخوة الإيمانية في مثل هذه الحال يدل على أن الأخوة أثبت وآكد في حال السلامة من هذه الجنايات، فالله جاء بصيغة هي من أقوى صيغ الحصر: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات:10] وهذا في القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:10] فذكر ما بعده بالفاء فَأَصْلِحُوا وهذه تدل على التعليل، وهذا الذي يسمونه بدلالة الإيماء والتنبيه، فهنا لكونهم إخوة طلب الإصلاح بينهم فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:10] لأنهم إخوة، والإخوة ينبغي أن يكونوا على حال من المصافاة؛ ولذلك كان إصلاح ذات البين من أفضل الأعمال، كما صح ذلك عن النبي ﷺ.

وقد ذكرتُ جملة من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب في الكلام على موضوع الاختلاف، في الإصلاح بين الناس، وبقاء الأخوة الإيمانية، ودفع كل ما من شأنه أن يؤثر عليها، أو أن يفسدها، أو أن يوقع الوحشة في نفوس أهل الإيمان، وإذا كان هذا بين المؤمنين فإنه بين الإخوة الأشقاء من باب أولى، فلا يصح للإنسان أن يقاطع أخاه أو أخته لمشاحنات وحظوظ نفسانية، أو لأمور دنيوية من حطام هذه الدنيا.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أن مبنى هذه الشريعة على التخفيف، حتى في القصاص؛ وذلك بتشريع الدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فقد يكون هذا التعدي على ولي الدم، فهذا قد يحصل أحيانًا، فقد يكون قرابة القاتل يتربصون ويتهددون ويتوعدون أولياء الدم إن هم أصروا على القصاص، وقد يقومون بقتل ولي الدم انتقامًا لصاحبهم الذي جنى فاقتُص منه، فهذا داخل في العموم في قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالله شرّع القصاص، فلا يجوز لأحد أن يهدد حياة الآخرين، بسبب أنهم طالبوا بالقصاص، فهذا حق ثابت شرعًا، وكذلك هذا المقتص لا يجوز له أن يتزيد في القصاص، كما ذكرنا، أو أن يتشفى، أو نحو هذا من المعاني التي تدخل تحته.

فهذا الذي يقول: بأن القصاص وحشية نقول له: أولاً: هذا تشريع من؟ فإن أقر أنه تشريع الله -تبارك وتعالى- فإنه يكفر بهذا القول؛ لأنه ينسب ذلك إلى الله، يعني أن هذا الحكم من الله ظلم وعدوان ووحشية، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فالله حكم عدل، عليم حكيم، وإذا كان لا يؤمن بالقرآن أصلاً، فهذا يحتاج معه إلى بيان ما يثبت أن القرآن هو كلام الله، وإثبات النبوة والرسالة، وصحة دين الإسلام، ويحتاج أن يبين له هذا الأصل، ثم نبين له أن هذا التشريع صادر عن الله، هذا جانب.

الجانب الثاني: هذا الإنسان الذي قتل عمدًا عدوانًا، فطعِن غيره، أو ضرِب بالسيف على رقبته، أو رأسه أو طعِن برمح، فدخل من صدره، وخرج من ظهره، أو نحو ذلك، نأتي للجاني المجرم ونقول: نريد أن نقتص منه بطريقة لا يشعر معها بالألم؛ بمخدر، بإبرة، بكذا، لكي لا يشعر معها بالألم! فالمقتول يرى نفسه يتشحط في دمه، وأهله وذووه يرونه متشحطًا في دمه، وهذا يوضع على سرير في مستشفى، ويقال يقتل: بإبرة، من أجل ما يشعر بالألم، وعلى أساس لا يحس، ولا يكون في دماء، ولا أشلاء، ولا شيء؛ ولئلا نروعه، ولا نروع أهله، فهل هذا عدل؟!

ليس من العدل بشيء، وإنما يفعل به كما فعل بغيره، فهو اسمه قصاص، قص الأثر، فيفعل به كما فعل، هذا هو العدل، وليس من العدل أنه يقتل بأي طريقة كان، بسلاح ناري، أو بسلاح أبيض، أو غير ذلك، أو يدهسه في السيارة عمدًا عدوانًا، ثم بعد ذلك يقال: يقتل بطريقة لائقة، بحيث لا يشعر بالألم، ولا داعي لإيذاء مشاعره، ومشاعر أهله، فيقتل بإبرة، ثم بعد ذلك يموت دون أن يحس، فهذا الكلام ليس بصحيح، ولا يحصل به التشفي من ذوي المقتول (أولياء الدم) فالقصاص فيه تشفي، لكن بطريقة عادلة؛ لأن غلواء النفوس لا زالت تعتلج في قلوبهم حرارة من هذه الجناية، فهي لا تسكن إلا بالقصاص؛ ولذلك شرع لهم شهود هذا القصاص، ويرون هذا يقتل، وتضرب عنقه، كما فعل بمن قتل منهم، فهذا غاية العدل.

ثم أيضًا أين هؤلاء أدعياء الرحمة وحقوق الإنسان، وما أشبه ذلك من هذه الشريعة التي مبناها على الرحمة حتى في هذا الأمر، يقول الله : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وكيف يضيع هذا الحكم عند النظم والقوانين الوضعية؟ فالقاتل يقولون: لا يقتل، كما سيأتي في الآية التي بعدها؛ لئلا نزهق نفسين، سيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان ذلك.

هذا ما يتعلق بهذه الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 323).

مواد ذات صلة