الأحد 15 / جمادى الأولى / 1446 - 17 / نوفمبر 2024
[138] تكملة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..} الآية:183
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 998
مرات الإستماع: 1617

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث -أيها الأحبة- فقد بلغنا ختم هذه الآية الكريمة التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها كتب الصوم وشرعه لهذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] فلعلكم تتقون من أجل تربية التقوى في النفوس؛ وذلك أن الصوم يحصل معه الجوع والعطش؛ وذلك يكون سبيلاً إلى شِبع الجوارح، فإن الباطن إذا جاع شبعت الجوارح، وإذا شبع البطن جاعت الجوارح، فتطلب الشهوات، والانغماس في اللذات، وتضعف وتفتر عن طاعة ربها ومولاها ، وأما الجوع فهو مظنة للخفة والنشاط في طاعة الله -تبارك وتعالى، خلاف ما يتوهمه كثير من الناس، يظنون أن الصوم مدعاة للكسل والفتور والنوم؛ وذلك يرجع إلى أمر نفساني، وليس يرجع إلى حقيقة تقوم بذواتهم، وتتصل بأجسادهم، وإنما هي أمور نفسية يشعر أنه مُرهق، وأنه مُتعب، وأنه لا يحتمل، بينما نجد الإنسان أحيانًا قد يلهو عن الطعام والشراب، وهو غير صائم بانهماكه في أعمال، فينتصف النهار، ولم يأكل ولم يشرب، ولا يشعر بشيء، لكن إذا كان يشعر بالصوم فإنه يذهب فاترًا منذ الصباح إلى عمله إن كان له عمل، أو دراسة، وإلا فإنه يستغرق عامة النهار بالنوم بزعمه أنه لا يحتمل، وليس به من النشاط ما يحمله على مزاولة الأعمال.

فالمقصود أن النبي ﷺ قال: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء[1]، فقال: فعليه ولم يقل: فليصم، وإنما قال: فعليه بالصوم فإذا قيل: عليك بكذا يعني الزمه؛ ولهذا ذكر أهل العلم كالحافظ ابن حجر -رحمه الله- وغيره ما يرد من قول بعض القائلين: بأن المُشاهد أن الإنسان يصوم، وربما غرائزه لم تنطفأ، فلم يُؤثر فيه الصيام في كسر الشهوة، فأجاب عن هذا: بأن الصوم المقصود الذي يحصل به كسر الغريزة هو الذي يكون كثيرًا، وليس بأن يصوم يومًا، ثم يترك أيامًا أو ربما لا يصوم إلا أيامًا قليلة في الشهر، وإنما يُكثر من الصوم، هذا جانب.

الجانب الثاني: وهو أن يُراعي مقصود الشارع من الصوم، فلا يكون مُستغرقًا بالنوم في نهاره، ثم بالليل يأكل أكلاً كثيرًا، ربما أضعاف ما يأكله حال الفِطر، فهذا لا يؤثر في صومه؛ ولذلك تتسعر كثير من شهوات الناس وغرائزهم في شهر الصوم، كما هو مُشاهد، فهذا يحتاج إلى مُراعاة هذين الأمرين: الأول: كثرة الصيام، والأمر الثاني: أن يتقلل من الطعام والشراب ليلة الصيام.

يعني: إذا صام وأفطر فإنه لا يأكل كثيرًا، وهكذا ليستعد لليوم الذي بعده، فيتقلل من الطعام، والذي نُشاهده هو أن الأسواق قبل شهر الصوم بمدة تمتلأ وتتضاعف المطعومات بأنواعها في شهر الصوم، مما لا تراه في شهر آخر في كثرته وتنوعه، ثم بعد ذلك لا تسأل عن زحام المتسوقين في شهر الصوم كأن البيوت خالية من جهة، وكأن هذا الشهر للأكل والشرب، يعني: لو ورد على المسلمين وارد من غيرهم لا بصر له، ولا علم بتشريع الصيام، ورأى هذا التحول قبل رمضان بأيام في الأسواق، وفي كثرة المتسوقين لظن أن هذا الشهر يتميز بكثرة الأكل فيه.

والواقع أن الأمر عكس ذلك، المفروض أن تقل المُشتريات، ويقل إقبال الناس على الأسواق، فهذا شهر القرآن والصيام، لكننا حينما لا نُدرك هذا المعنى يحصل مثل هذا الخلل، فنصوم صومًا لا يؤثر فينا التقوى، كما قال الله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] فنحن نصلي، ولكن الكثيرين منا يُصلي ولا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فهل هذا خُلف فيما ذكره الله -تبارك وتعالى- من هذا الخبر الصادق؟

الجواب: لا، حاشا وكلا، ولكننا نُصلي صلاة لا نُقيمها، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ فلم يقل: وأد الصلاة، فالصلاة التي تُقام هي الصلاة التي تكون مع حضور القلب والخشوع، وإقامة الأركان والواجبات والشروط والمُستحبات، فبقدر إقامتنا للصلاة يكون تأثيرها على نفوسنا وأرواحنا، وتحجزنا عن مساخط الله -تبارك تعالى.

وكذلك هذا الصوم الذي كُتب من أجل التقوى يدل على أن الصيام يُربي التقوى في النفوس، والذي يربي التقوى في النفوس جملة الأعمال الصالحة، فإن التقوى اسم واسع وجامع، يقتضي العمل بطاعة الله، وترك مساخطه، لكن حينما ذكر الصوم وخصه دل على أن الصوم له مزية خاصة في تربية التقوى في النفوس، فهذا من فضائل الصوم، وتميزه على غيره من العبادات، وجاء فيه أشياء أخرى كقوله ﷺ فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به[2] فخص الصوم مع أن كل الأعمال الصالحة لله -تبارك وتعالى، لكن هذا الصوم يمنع الإنسان من ملاذه، وأعظم المُتع واللذات هي الأكل والشرب والنكاح، فيمتنع منها لله، ولو أكل وشرب لم يطلع عليه أحد، فزوجته عنده ومع ذلك يمتنع والطعام والشراب بين يديه، فيتركه لله، وأيضًا هذا الصوم سر بين العبد وربه -تبارك وتعالى- لا يظهر إلا لله ، فهو مختص به، أما سائر العبادات فليست كذلك، إذا قام الإنسان يُصلي رآه الناس يُصلي، والمُتصدق عليه يعلم من المتصدق حتى لا تعلم شماله ما تنُفق يمينه[3] لكن الصوم من الذي يُدري الناس أنه صائم؟ قد يكون الناس معه في بيته، ولا يعلمون بصومه.

ثم ذكر قوله: لَعَلَكُم تَتَقُون في أول آية في الصوم، من أجل أن يدخل الإنسان في هذه العبادة، وهو مُحدد هدفه من هذا الصيام، أن يُربي التقوى في نفسه، سواء كان صومه تطوعًا، أو كان يصوم رمضان، بحيث إنه ينسلخ الشهر وقد تربت التقوى في النفوس، ازددنا تقوى لله ، فيكون الناس في شوال في حال من القُرب من الله، والعبادة والإخبات والإقبال على المساجد، لكن المشاهد هو عكس ذلك، أنه إذا انسلخ الشهر منذ أول ليلة تعود المساجد إلى حال موحشة، من قلة مُرتاديها، لا سيما في صلاة الفجر، وانظر إلى حالنا في صلاة الظهر من يوم العيد، فأين التقوى التي رُبيت في نفوسنا، والله المستعان.

فينبغي على العبد أن يُفتش عن نفسه، وينظر في حاله، وما أثره الصوم فيه، وإذا كان الصيام شُرع من أجل التقوى، فدل على أن التقوى من المطالب العظيمة، فينبغي على العبد أن يتطلب الأسباب التي توصله إليها، فإنه يوصل إليها بالصيام، ويوصل إليها بتحقيق العبودية لله ، وطاعته، واجتناب مساخطه، ويحرص العبد أن يكون تقيًا، وإذا صار تقيًا فإنه لا يمكن أن تمتد عينه بالنظر إلى الحرام، ولا ينطلق لسانه بالكلام بالحرام، ولا يمكن أن تمتد يده إلى الحرام، أو تخطو رجله إلى الحرام.

هذه الغيبة -أيها الأحبة- التي يُسميها بعضهم فاكهة المجالس؛ لما يجدون فيها من اللذة، إذا رُبيت التقوى في النفوس فإن الإنسان يجد انزعاجًا وألمًا ونُفرة شديدة حينما يُذكر أحد في مجلسه بسوء، فلا يمكن أن تكون فاكهة المجالس، وقد قال الله -تبارك وتعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [سورة الحجرات:12] هو لحم إنسان، وليس لحم بإنسان فقط بل لحم الأخ، وهو ميت، النفوس تنفر من مُقاربة الميت، فلو أن الإنسان قيل له: تبيت ليلة في غرفة فيها ميت، مُسجى إلى الصباح حتى يُغسل، ثم بعد ذلك يُدفن، تجد هذا الإنسان لا ينام تلك الليلة، يتقلب وينظر في كل لحظة وحين، مع أنه يعلم أن هذا الميت ليس به حِراك، ولا يمكن أن يصدر عنه شيء، لكنها النفس هكذا تترقب دائمًا ربما يصدر عن هذا الميت شيء، مع أنه في قرارة نفسه يعلم أن ذلك لا يكون، فإذا كانت هذه المُقاربة أمر تنفر منه الطِباع، فكيف بالأكل والنهش من لحمه، وهو أخ، وميت، فالمُغتاب هو أخوك ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه يُقلب يمين ويسار يُنهش عرضه، وهو بعيد لا يسمع ولا يُدافع عن نفسه كالجنازة تُقلب وتنُهش وتأكلها السِباع وهي لا تدفع عن نفسها، فهكذا حال الغيبة، فهل هي فاكهة المجالس فعلاً؟! وهل يمكن بهذا الاعتبار أن تكون بهذه المثابة؟! فالتقوى تحجز الإنسان عن ذلك كله، ولا يكون تصنعًا، بل تكون النفس في غاية النُفرة من مساخط الله، وفي غاية التلذذ بمُناجاته وطاعته، والعمل بما يُرضيه.

لَعَلَكُم تَتَقُون (لعل) هذا تدل على التعليل، فكل (لعل) في القرآن فهي للتعليل إلا في موضع واحد كما ذكرنا في بعض المناسبات، وهو قوله -تبارك وتعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وهذا التعليل يدل على أن أفعال الله، وشرعه مبني على الحِكمة، سواء علمنها، أو لم نعلمها، هذه الحِكم منها ما هو صريح، كما في هذه الآية: لَعَلَكُم تَتَقُون ومنها ما هو مُستنبط غير صريح، ومنها ما لا يظهر للخلق، وإنما استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه.

وأيضًا (لعل) إذا جاءت بعد الأمر فهي للتعليل، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186] أي: من أجل أن يحصل لهم الرشاد، وهكذا -أيها الأحبة- يُشرع الصوم لتربية التقوى، ولكن أيضًا القبول إنما يكون من المتقين، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] وإنما تفيد الحصر، وهي من أقوى أدوات الحصر إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] أي: من اتقاه بهذا العمل، يتقيه في الصوم، فيحفظ لسانه وبصره وسمعه وجوارحه من مساخط الله ؛ ولهذا قال النبي ﷺ: من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه[4].

فالصوم ليس لمُجرد الكف عن الأكل والشرب، ثم بعد ذلك الخوض في معاصي الله -تبارك وتعالى، أو أن يُفطر الإنسان على المعصية بنظر ومُشاهدات، أو أنه يُفطر على المعصية بمزاولات ومطعوم يصل إلى جوفه، أو بمسموع، أو غير ذلك، فهذا لا تتحقق له التقوى؛ لأنه لم يتق الله في هذا الصوم، الذي يُعرض صومه لهذه الأمور التي تخرمه كالغيبة، الصوم جُنة[5] يعني: من النار، وجاء في بعض الروايات: ما لم يخرقها[6] يعني بالغيبة، وهذه الرواية حسنها بعض أهل العلم، وضعفها بعضهم ما لم يخرقها يعني: بالغيبة، فلا يؤثر فيه هذا التأثير إذا كان لسانه ينطلق بمعصية الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.

فإذًا الصوم شُرع من أجل تربية التقوى، وكذلك أيضًا لا يُقبل الصوم، ولا غير الصوم إلا كما قال الله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] فالصدقات تُقبل من أهل التقوى، والصلاة تُقبل ممن اتقى الله فيها، وهكذا، والذي جرى بين ابني آدم أنه لما قرب أحدهما قُربانًا فتُقبل منه، والآخر لم يُتقبل منه، حسده على ذلك قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] فاتقى الله في هذا القُربان فقُبل، وذاك لم يتق الله في هذا القُربان فلم يُقبل، فقد يتصدق الإنسان من كسب حرام أو فيه شُبهة، وقد يتصدق مع المن والأذى، وقد يتصدق رياءً وسُمعة، ويخبر الناس عن هذا ليُمدح، ويُثنى عليه، فهذا لم يتق الله فيه، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] وهكذا، فنُراعي ذلك في صومنا.

فنسأل الله  أن يرزقنا وإياكم التقوى، وأن يرحمنا وإياكم برحمته، ويغفرنا لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺ: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟ برقم: (5065) ومسلم في نكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم: (1400).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم برقم: (1904) ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام برقم: (1151).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد برقم: (660) ومسلم في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة برقم: (1031).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [سورة الحج:30] برقم: (6057).
  5. أخرجه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] برقم: (7492).
  6. أخرجه النسائي برقم: (2232) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3578).

مواد ذات صلة