الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة:190].
هذا خطاب لأهل الإيمان وأمر لهم بالقتال في سبيل الله -تبارك وتعالى؛ لنصرة دينه، أمرهم أن يقاتلوا الذين يقاتلونهم، ونهاهم عن الاعتداء، ثم علل ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يتجاوزون حدوده فيستحلون ما حرم الله -تبارك وتعالى.
هذه الآية بعض أهل العلم يقولون: إنها منسوخة، نسخها قوله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [سورة التوبة:36]، وكذا الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم [سورة التوبة:5] الآية، ومعلوم أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولهذا فإن من أهل العلم من قال: بأن هذه الآية محكمة، وأن المقصود بالتقييد في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [سورة البقرة:190] يعني قاتلوا الذين يقاتلون دون غيرهم من الشيوخ والأطفال والنساء والرهبان، ونحو ذلك.
وَلا تَعْتَدُوا بتجاوز ذلك بقتل هؤلاء أو المثلة بقتلى المشركين، فهذا بناءً على أن الآية محكمة.
ويؤخذ من هذه الآية من الهدايات: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أن يكون القصد والنية صالحة في ذلك، فإن هذه الجملة فِي سَبِيلِ اللَّهِ تنتظم أمرين:
الأول: أن يكون القصد هو إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى.
والأمر الثاني: أن يكون ذلك على وفق شرع الله ، فإن هذا القتال لا يكون في سبيل الله إلا إذا كان على ما شرَّعه وبينه ووضحه وهدى إليه، أما إذا كان ذلك على سبيل الحمية، أو العصبية الجاهلية، أو نحو ذلك مما يخالف هذا المقصود، أو كان ذلك على طريقة منحرفة كالذي يستحل قتال المسلمين ودماءهم وأموالهم ويعد ذلك قتالاً في سبيل الله، فهذا ليس في سبيل الله، وكذلك من يقتل بالظنون الكاذبة الفاسدة، ويتساهل في شأن الدماء، فإن عمل هذا ليس صالحًا وليس في سبيل الله وإن اعتقد أو زعم صاحبه أن عمله في سبيل الله، فإن الله -تبارك وتعالى- قد بين شرائعه ووضحها غاية الإيضاح، وهدي النبي ﷺ يشرح القرآن، ويبينه بهديه وقوله، وسنته القولية، وكذلك العملية.
فالقتال المقصود به هو إعزاز الدين، وإعلاء كلمة رب العالمين، أن تكون كلمة الله هي العليا، فينتج عن ذلك الصلاح والإصلاح، وأما إذا كان هذا القتال ينتج الفتن والفساد في الأرض فإن ذلك لا يكون مشروعًا.
ويؤخذ من هذه الآية أيضًا مما ينبغي في الحث على أمر من الأمور أن يذكر مع ما يدعو إلى الامتثال: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ يعني هؤلاء الكفار الذين يقاتلونكم حريون بأن تقاتلوهم.
وكذلك أيضًا في هذه الآية من التأديب والتربية لأهل الإيمان حتى في القتال: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ بأي صورة من صور الاعتداء، فإن الاعتداء محرم، ولذلك يقول الله -تبارك وتعالى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، يعني: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33]، يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بالتمثيل، والتجاوز، وقتل غير القاتل، وقتل جماعة بواحدة إن لم يشتركوا في قتله، ونحو ذلك، فهذا كله مما يدخل في معنى هذه الآية -والله تعالى أعلم، فهي من جملة الآيات التي تضبط القتال، وأن يكون على نهج صحيح وسنن صالح.
ولما كانت النفوس حينما تكون في حال من القتال قد يحصل لها التجاوز، وقد لا تنضبط جاء التأكيد هنا على النهي عن الاعتداء: وَلا تَعْتَدُوا.
ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:191].
وَاقْتُلُوهُمْ اقتلوا هؤلاء الكفار الذين يقاتلونكم حيث وجدتموهم، وهذا يفيد العموم، لكن هل يدخل في ذلك المسجد الحرام، والمقصود بالمسجد الحرام الحرم وليس خصوص مسجد الكعبة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فيكون ذلك على سبيل المقابلة فقط، وإلا فلا يجوز القتال في أرض الحرم ولا في الشهر الحرام، ولهذا قال النبي ﷺ عن مكة: أحلت لي ساعة من نهار[1]، وذكر أنها لم تحل لأحد من بعده.
فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، وَالْفِتْنَةُ الفتنة فسرت بالكفر والشرك، وكذلك أيضًا فتن الناس عن دينهم بصدهم عن الدخول في الإسلام هذا أشد من القتل، يعني قيل: المعنى أنه أشد من قتل المسلمين لهؤلاء الكفار، يعني أن ما يفعلونه من الكفر بالله وصد المؤمنين عن الإيمان أعظم من قتلكم إياهم.
والمعنى الآخر: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني أن الفتنة فتنة المؤمن عن إيمانه ودينه أعظم عليه من القتل، أعظم عليه من سفك دمه وذهاب مهجته.
وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني ولا تبدأوهم بالقتال عند المسجد الحرام تعظيمًا لحرمته، حتى يبدأوكم بالقتال فيه، فإن فعلوا فقابلوهم بالمثل: كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وذكر هنا هذا الوصف ما قال: كذلك جزاؤهم، وإنما قال: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ باعتبار أن هذا الكفر هو السبب في قتال هؤلاء ومشروعية جهادهم.
ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد أن الكفر بالله شأنه كبير وعظيم، ولهذا قال الله : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فالكفر يكون به خسارة الدنيا وخسارة الآخرة.
وكذلك يؤخذ من هذه الآية أن صد الناس عن الدين من أعظم الإجرام.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية إثبات عدل الله -تبارك وتعالى: كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.
ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:192] يعني إن تركوا ما هم فيه من الكفر ومن قتالكم عند المسجد الحرام دخلوا في الإيمان فإن الله غفور لعباده رحيم بهم، فهذا فيه ما فيه من الإيجاز والاختصار.
قال: فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:192] الله غفور رحيم له ذلك الوصف الثابت عظيم المغفرة عظيم الرحمة، ولا يتقيد ذلك بانتهائهم فالله موصوف بأنه غفور رحيم انتهى هؤلاء أو لم ينتهوا، ولكنه ذكر هذا باعتبار أن هذه المغفرة والرحمة تحصل لهم إذا حصل لهم الانتهاء عن ذلك.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعدها: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193]، قاتلوهم هؤلاء المشركين المعتدين حتى لا تكون فتنة للمسلمين عن دينهم ولا شرك بالله -تبارك وتعالى- ويكون الدين كله لله -تبارك وتعالى- لا يعبد سواه، فإن كفوا عن هذا الكفر، وعن القتال فكفوا عنهم، فإن العقوبة لا تكون إلا على المصرين على كفرهم وعدوانهم: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
هذا يؤخذ منه من الفوائد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله: "وإذا كان أصل القتال المشروع وهو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن امتنع عن هذا قوتل باتفاق المسلمين"[2]، ولكن مثل هذا كما هو معلوم يكون بحسب الإمكان، يعني إن كان في المسلمين قوة وقدرة وإلا فإن الراجح أن آيات الصبر والعفو والتجاوز ونحو ذلك التي نزلت في مكة أنها لم تنسخ بآية السيف، فإذا كان المسلمون في حال من الضعف فإنهم بهذه الحال يمكن أن يطبقوا تلك الآيات المكية من الصبر والكف عن القتال والعفو والصفح ونحو ذلك إلى أن يحصل لهم القوة التي يستطيعون بها رد هؤلاء وإقامة دين الله -تبارك وتعالى، وأن يكون الدين كله لله.
فالدين الذي هو الطاعة لله -تبارك وتعالى- إذا كان بعضه لغير الله وبعضه لله -كما يقول شيخ الإسلام[3]- وجب القتال حتى يكون الدين كله لله -تبارك وتعالى.
كذلك أيضًا هنا ذكر المقصود: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ليس المقصود بالقتال في الإسلام سفك الدماء وأخذ أموال الكفار وإنما المقصود بذلك هو إقامة دين الله -تبارك وتعالى- في الأرض، ولذلك انظروا إلى الغزوات التي غزاها النبي ﷺ تجد أن القتلى فيها من الكفار عددًا قليلاً لم يسرف المسلمون في قتل أعدائهم وإنما كانوا يقتلون من يقاتلهم، وكانوا يقبلون ممن دفع الجزية من أهل الكتاب أو دخل في دين الله -تبارك وتعالى.
كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ لا عدوان هذا نفي لكنه مضمن معنى النهي، يعني فلا تعتدوا، لا تعتدوا، وذلك على سبيل المبالغة.
وكذلك أيضًا في قوله: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، ما قال: فلا عدوان إلا المنتهين مثلاً أو نحو ذلك، يعني فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، فوضع العلة موضع الحكم، وبعض أهل العلم يقولون: إنه سمى ذلك عدوانًا: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ من قبيل المشاكلة في اللفظ.
هذا ما يتعلق بهذه الآيات، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، برقم (1834)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، برقم (1355).
- مجموع الفتاوى (28/ 354).
- مجموع الفتاوى (14/ 284).