الإثنين 16 / جمادى الأولى / 1446 - 18 / نوفمبر 2024
(165) قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ..} وقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ..} الآيات:206-207
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1012
مرات الإستماع: 1335

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول، أما بعد:

ما زلنا نتحدث -أيها الأحبة- عن هذا الصنف من الناس الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات من سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ۝ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [سورة البقرة:204، 205].

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة البقرة:206] ففي هذه الليلة نتحدث عن هذا الوصف الأخير لهذا المنافق، فهو يأنف ويستنكف حينما يُؤمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- من أجل أن يرعوي، ويكف عن الفساد والإفساد، فهو إذا نصح، وقيل له: اتقِ الله، واحذر عقابه، وكف عن هذا الإفساد في الأرض لم يقبل النصيحة، بل يحمله الكبر والتيه والحمية الجاهلية على مزيد من الآثام أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ تحمله العزة على ارتكاب الإثم، والرد السيئ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ حملته العزة على ارتكاب القبائح، ورد نصح الناصحين، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ فهذا يكفيه جهنم، ويكفيه عذاب الله -تبارك وتعالى- في النار، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ أي: لبئس الفراش، والمهاد ما يوطأ للصبي -كما هو معلوم- فهؤلاء تكون النار لهم -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- كالمهاد للطفل، يعذبون بها.

فيُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن عزة النفس والمكابرة قد تحمل الإنسان على ركوب العظائم، ورد الحق، والنفور من نصح الناصحين، فيكون ذلك مانعًا من التوفيق والهداية، والرجوع والتوبة، فيبقى الإنسان سادرًا في غيه، لا يلوي على شيء، ولا ينتفع بنصيحة ناصح، فإن الإنسان قد يتذكر من قبل نفسه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] تذكروا عظمة الله، وعذابه، ووعده ووعيده، وحدوده، وما رُكز في نفوسهم من الفطر السليمة، وما علموه من الحلال والحرام، وما إلى ذلك، فيرجعون.

وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ تمدهم الشياطين فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] لا يرجعون عن غيهم؛ لأن الشياطين تزيدهم غيًّا، وكذلك لا يحصل لهؤلاء الشياطين انكفاف عنهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي: الشياطين أيضًا، فهي مستمرة في الإغواء والإمداد بالغي، فيبقى الإنسان إلى أن يوافي إلى الممات، وهو على حال غير مرضية، فإذا لم يتذكر الإنسان من قبل نفسه، فإنه قد يهيأ له من يذكره ويبصره ويدعوه إلى لزوم الحق، واتباعه، والكف عن الشر والمنكر والباطل، فينبغي أن يستجيب، ويفرح، ويقبل، ولكن المنافق الذي وصفه الله بهذه الصفة يستنكف، فتأخذه العزة بالإثم وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ومن هنا ينبغي على المؤمن أن يحذر من مشابهة هؤلاء، فهذا وصف مذموم لا يصح بحال من الأحوال لأهل الإيمان، فإن المؤمن إذا ذُكر بالله تذكر واستجاب وأناب، ورجع عما هو فيه من الغي والباطل.

ولاحظوا هنا التعبير بالفعل المبني للمجهول وَإِذَا قِيلَ لَهُ ولم يقل: وإذا قال له الرسول ﷺ: اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ لأن القائل لا تهم معرفته، فهو يكره الحق، ويجفوه، ويستنكف من قبوله، واتباعه، بصرف النظر عمن أمره باتباع هذا الحق، والرجوع إليه، فليست قضيته مع زيد، أو عمر، أو هو لا يريد أن يستجيب لأن فلانًا بعينه الذي يكرهه هو الذي أمره، أو نصحه، لا، وإنما وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أيًا كان هذا القائل، ومهما كانت مرتبته، أو الأسلوب الذي خاطبه به، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فهذا يشمل كل قائل، وكل ناصح، ويدل على كراهة هذا المستنكف للحق نفسه.

وفي قوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ جاء بهذا التتميم بهذه العبارة: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أخذته العزة بماذا؟ أخذته العزة بالإثم، وركوب الإثم، وبالرد الآثم، وبالتعلق بالباطل؛ وذلك لإزالة اللبس، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحيه، لكن لئلا يُفهم أن ذلك يُقصد به السرعة، فيقال: جاء طيران، يعني على وجه السرعة، وتقول: طاروا إليه زرافات ووحدانًا، يعني: مسرعين، لكن المراد هنا وَلا طَائِرٍ الطائر الحقيقي الذي يطير بجناحيه، وهنا قال: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ لئلا يلتبس ذلك بغيره، ويُفهم منه أن الأنفة قد تحمل الإنسان على الإثم، فقد يحلف على قطيعة الرحم، ويحلف على ترك المعروف والخير ألا يفعله، وقد يحلف الإنسان على باطل يصر عليه، ويقيم عليه، ولا يفارقه بحال من الأحوال، وكل ذلك على سبيل المكابرة والعناد.

إن الكثيرين -أيها الأحبة- يغضبون إذا قيل له: هداك الله، أو: اتق الله، وقد قال النبي ﷺ لما رأى ذلك الرجل قد انتفخت أوداجه، واحمر وجهه من الغضب في مخاصمة: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد فقالوا له: إن النبي ﷺ قال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون؟[1]، يعني: هل أنا مجنون حتى يقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ فانظروا كيف يحمل الغضب ودواعيه على رد ما فيه مصلحة للإنسان، وخير، ودفع أسباب الشر.

وكثير من الناس في مثل هذه الأحوال عند شدة الغضب يتصرفون بتصرفات، ويتفوهون بكلمات يندمون عليها بعد ذلك، لكن مثل هذا لم يكن في حال غضب، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ لأنه يمارس أفعالاً سيئة من الفساد والإفساد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فهذا يدل على أن هذا الإنسان لا يريد حقًا، ولا صلاحًا، ولا إصلاحًا، إنما هو مع الباطل حيث دار، فإذا ذُكِّر ونُصح استنكف.

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- الصنف المقابل لهؤلاء، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] فمن الناس من يبيع نفسه فإن يَشْرِي هنا بمعنى (يبيع)، أي: يشري نفسه طلبًا لرضا الله -تبارك وتعالى- ببذل هذه النفس في سبيله، والتزام طاعته، والله -تبارك وتعالى- لا يضيع عمل هؤلاء وبذلهم، فهو رؤوف بالعباد، يرحم عباده المؤمنين رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم، ويجازيهم بأحسن الجزاء.

فيُؤخذ من هذه الآية معرفة هذا الوصف الكامل من أوصاف أهل الإيمان مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يبيع نفسه ويُرخصها ويبذلها طلبًا لمرضاة الله -تبارك وتعالى، ورجاءً لثوابه، فهذا في مقابل ذاك الذي ليس له هم إلا الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب عند الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ولاحظوا أيضًا إخلاص هذا الصنف من الناس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فليس له مطلوب آخر، فهو لا يفعل ذلك من أجل أن يُمدح، ويُثنى عليه، ويُذكر، ويُنوه به، وإنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فهذا هو الذي يكون له الجزاء الأوفى عند الله -تبارك وتعالى، كما قال الله : وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [سورة البقرة:272] فهذا الإخلاص، ومن ثَم فينبغي على العبد أن يكون بذله وسعيه وعمله وإنفاقه كل ذلك لهذا الغرض، وليس ابتغاء الدنيا، أو أن يبتغي مردودًا ماديًا، وعائدًا يعود عليه، أو أن يبتغي ثناء الناس ومديحهم وإطراءهم، أو المنزلة والحظوة في قلوبهم.

وفي قوله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ هذا فيه إثبات صفة الرضا لله -تبارك وتعالى، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ رؤوف بالعباد، ورؤوف بأهل الإيمان، وبهذا الصنف من الناس، وهنا لم يذكر جزاءه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] والصنف الذي قبله قال: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [سورة البقرة:206]، وهنا لم يقل: فله الجنة، وإنما قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] فذكر هذين الاسمين الكريمين، الرأفة التي هي أرق الرحمة، فهي رحمة خاصة، ذكر ذلك ليدل على جزائه، فإذا كان الله رؤوفًا بالعباد، فمعنى ذلك أنه سيجازيه أحسن الجزاء، وهذا مناسب لما ذكر من صفتهم، فهؤلاء بذلوا أنفسهم لله، وجعلوا أنفسهم معبدة له، فقال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ وهم الذين قد عبَّدوا أنفسهم لمولاهم ومليكهم -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ولاحظ هنا يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ولم يقل: والله رؤوف بهم، والأصل أن العرب تختصر الكلام بذكر الضمير، فهذا موضع يصح فيه الإضمار، فأظهر، فقال: بِالْعِبَادِ ولم يقل: بهم، فجاء بالاسم ظاهرًا، وكأنه يشعر بالعلة، يعني: أن رأفته -تبارك وتعالى- تتعلق بأصحاب العبودية لله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

فاشتملت هذه الآيات على هذين الصنفين، فينبغي على المؤمن أن يكون من الصنف الثاني الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويبذل أغلى ما عنده طلبًا لجنته، وطلبًا لثوابه وجزائه، وهذا ينبغي أن يكون مقيدًا بصحة العمل، فقد يبذل الإنسان نفسه ابتغاء مرضاة الله يطلب مرضاة الله، ولكن بعمل فاسد يظن أنه صالحًا، فيودي به ذلك إلى خسارة، على خلاف ما كان يقصده ويطلبه، فالذي يبذل نفسه في مرضاة الله يكون عمله صحيحًا وجهادًا صحيحًا، على الوجه المشروع، لكن كما ذكرنا في صفة الخوارج في الكلام على العبر من التاريخ، كانوا يبذلون أنفسهم بزعمهم طلبًا لمرضاة الله، فيقدمون على الموت، ويتهافتون عليه، ولكن على عمل فاسد، وها هي الشواهد ونظائر ذلك تتكرر في كل عصر إلى عصرنا هذا، فهذا الذي يقدم على الموت بهذه الطريقة التي هي من كراهة المنظر، وسوء المنقلب، وسوء الحال، نسأل الله العافية، فهي خزي في الدنيا، وميتة سوء، وهو قد أقدم على ذلك باختياره وطوعه، وربما أختار أشرف الأوقات في رمضان، أو في عشر ذي الحجة، أو ربما وقت صعود الخطيب على المنبر، ووقت إجابة، ونحو ذلك، يظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل الفاسد، الذي يهلك فيه الحرث والنسل.

فمثل هذه النصوص تحتاج إلى بيان وإيضاح وشرح، من أجل أن يسترشد أهل الإيمان، فيعرفون كيف يبذلون أنفسهم؟ وما هو السبيل الصحيح في ذلك؟ وإلا فإن مثل هذه النصوص قد يفهمها المبطل، ويحملها على مبتغاه وفهمه الفاسد، ومعروف أن الفِرَق عبر التاريخ، سواء كان الخوارج أو المعتزلة، أو غير ذلك، كانوا يستدلون ويحتجون بنصوص من القرآن، فحينما يُبيَّن محامل هذه الآيات، وكيف تُفهم على الوجه الصحيح، يكون ذلك سبيلاً لرشاد وعمل صالح صحيح يرضاه الله -تبارك وتعالى، فلا يُغرر أحد بنفسه.

هذا وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم: (3282) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب برقم: (2610).

مواد ذات صلة