الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- صنفين من الناس، ممن ليس له مطلوب سوى الدنيا، وحاله وعمله هو الفساد والإفساد، والصنف الآخر: الذي يريد الآخرة يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [سورة البقرة:207] وجَّه الخطاب لأهل الإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:208، 209].
فالله -تبارك وتعالى- يخاطب أهل الإيمان، وهم الذين صدقوا بقلوبهم، وأقروا وأذعنوا وانقادوا بجوارحهم، فيقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السلم: هو الإسلام، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام، عاملين بجميع أحكامه، من غير تذوق، ولا انتقاء، ولا تخير، فيكون الحال كأولئك الذين ذمهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85].
ثم نهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرائقه ومسالكه، التي يضل بها العباد، ويُدرجهم خطوة خطوة، حتى يصل بهم إلى مبتغاه من الكفر، والبعد عن الله -تبارك وتعالى- وعبادته وطاعته، والإيمان به إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فهو عدو ظاهر العداوة، لا خفاء في عداوته.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي: فإن انحرفتم عن طريق الحق، من بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات، والبينات التي لا تدع في الحق لبسًا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ملكه، لا يُغالب، وهو -تبارك وتعالى- لا يفوته منكم أحد، فهو قادر على أخذكم ومعاقبتكم ومجازاتكم، وهو حَكِيمٌ في أمره ونهيه وجزائه وأقداره، يضع كل شيء في موضعه ويوقعه في موقعه -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
ويُؤخذ من هاتين الآيتين من الهدايات في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا حيث خاطبهم باسم الإيمان؛ لأن ذلك هو الذي يؤهلهم للقبول، فإن هذا الإيمان يقتضي الاستجابة، وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فإن إيمانهم يستلزم ويستدعي القبول عن الله -تبارك وتعالى، حيث آمنوا فأذعنوا، وأقروا وانقادوا بقلوبهم وجوارحهم، فليس لهم أن يتأخروا عن هذه الاستجابة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذا خطاب خاص يخاطبهم به، وهو اللطيف بعباده.
ويدل أيضًا على أن الإيمان له مقتضيات، فليس هو مجرد دعوى يقولها الإنسان بلسانه، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وحظ من العمل والتطبيق والامتثال، فهذا الوصف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يشعر بنوع علة أو تعليل، حيث يستدعي ذلك ما ذكر من الاستجابة، فأهل الإيمان هم الذين يناقدون في كل صغير وكبير، مما خاطبهم الشارع به، والإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[1]، فذلك من إيمانهم الذي دخلوا فيه، فليس لهم أن يتخلوا عن شيء من ذلك ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فهذا يقتضي الاستسلام الكامل، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] فلا يكون له اختيار، فكيف يتعرض ويقول: أنا حر آخذ ما أريد، وأترك ما أشاء؟! فهذا لا يتفق مع الإيمان.
وقوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ينتظم أعمال القلوب كلها، وأعمال الجوارح كلها، وما يتعلق باللسان، فتُسلم القلوب، والجوارح، واللسان، فيكون العبد مسلمًا حقًا، وهذه حقيقة دين الإسلام، وهو الاستسلام لله -تبارك وتعالى- بالطاعة، أن يستسلم لربه ومليكه ومولاه، فينأى عن الشرك، ويكون موحدًا مؤمنًا، ويكون عبدًا مطيعًا لربه ومولاه، فهذا هو الواجب على العباد، فيكون مطبقًا وممتثلاً ومستجيبًا ومؤتمرًا بأمر الله ، أما الذي يتمرد على شرع الله فليس مستسلمًا، فحينما يُؤمر بتقوى الله تأخذه العزة بالإثم، كما في الآيات السابقة، فهذا لا يصح بحال من الأحوال.
فإذا تحقق ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً تحققت حقيقة دين الإسلام، وانتفت الآفات والشرور عن النفس، فإن النفس تشقى حيث يُنتقص الإيمان وشرائعه، فهذه النفس لا يمكن لها أن تطمئن وتستقر، ويحصل لها الراحة إلا بأن تكون على وفق ما شرَّع الله، وأراده لها، فهذا الذي يحصل به نعيمها وصلاحها وفلاحها في الدنيا، وهو الذي يحصل به النعيم في الآخرة، وإلا فالنفس إذا ابتعدت عن هذا يحصل لها من اللأواء والشقاء والمعاناة بقدر هذا البعد.
ولذلك لا حاجة للسؤال: لماذا يجد الإنسان في قلبه وحشة؟ ولماذا يجد ألمًا؟ ولماذا يجد غمًا؟ ولماذا يشقى؟ ولماذا يجد حزنًا متطاولاً يُنقِّله معه حيث حل؟ وذلك مع ما يتعاطاه من ألوان اللذات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ومع ما يشاهده من الصور حيث يذهب هنا وهناك، فهو يُمتِّع ناظره، يطلب متعة لنفسه وقلبه، ولكنه لا يجدها، إنما يحصل ذلك -أيها الأحبة- بلزوم الإيمان بشرائعه وشموله، فإذا نقص ذلك نقصت طمأنينة العبد وراحته وسعادته، ولو كان يغرق في اللذات الجسمانية والشهوات، ولو كان معافىً في بدنه، بخلاف من كان متحققًا بالإيمان، فلو كان فقيرًا لا يجد بلغة من الطعام والشراب، ولو كان عليلاً، فإنه يجد في قلبه من الراحة والنعيم، كما كان شيخ الإسلام كما وصفه الحافظ ابن القيم، مع كان فيه من المعاناة والشدة، كان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[2]، ولما حُبس ومات في محبسه -رحمه الله- كان يقول: لو ملأت لهم هذه القلعة -قلعة دمشق- ذهبًا ما كافأتهم على ما تسببوا به[3]، يعني: من هذا الخير والنعيم الذي هو فيه.
وابن القيم يقول: كان إذا أرجف بنا المرجفون، وساءت بنا الظنون أتيناه، فما أن نرى وجهه حتى يذهب ذلك جميعًا[4]، يعني: قبل أن يتكلم؛ لما يرون من نضرة النعيم على وجهه -رحمه الله، فهذا من أين جاء؟ فهل كان شيخ الإسلام كان يُكثر من المتع واللذات والذهاب هنا وهناك؟ ومن فيضة إلى فيضة، ومن نزهة إلى نزهة، ومن بلد جميل ذي خضرة إلى آخر يتمتع هنا وهناك؟ أبدًا، هو أبعد ما يكون عن هذا، لكن كانت جنته بارتباطه واتصاله بذكر ربه -تبارك وتعالى.
فهذا ما يتعلق بالنفس، أما ما يتعلق بالمجتمعات والأمة، فإن هذا هو السبيل إلى استقامة أمورها، وصلاح أحوالها، بحيث تبقى مجتمعة قوية متماسكة، أما أن يأخذ بعض الدين طائفة، ويأخذ بعض الدين طائفة، ثم بعد ذلك يتنازع الناس أمرهم بينهم كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [سورة المؤمنون:53] فهذا سبب للبلاء كبير، وهو موجود في طوائف الأمة منذ القدم، وهو أن يُؤخذ بعض الدين، وهؤلاء يأخذون بعض الدين، فيحصل بسبب ذلك التفرق والاختلاف، فلا بد أن يُؤخذ الدين بكامله، كما جاء عن الله -تبارك وتعالى، وكما سن رسول الله ﷺ.
ولما كان أخذ الدين على هذا النهج والسبيل لا يتأتى إلا بمخالفة طرائق ومسالكه، وعدم الاستجابة لها، نهى عن اتباع خطوات الشيطان، فهذا المطلوب ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الذي ينازعكم فيه هو الشيطان وحزبه وأولياؤه، فهم يصرفون الناس عن صراط الله المستقيم، فقد لا يأتون لهم لأول وهلة، فيطالبونهم بالكفر والإلحاد، ولكنها خطوات، تبدأ بنظرة، وخاطرة، ثم فكرة، ثم بعد ذلك تكون همًا، ثم تتحول إلى عزيمة، ثم يصير ذلك في عمل واقعي في الخارج، فيتدرج معه الشيطان من المعصية إلى الكبيرة، إلى البدعة، إلى الشرك بالله ؛ ولهذا قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.
ولفظ الخطوات يدل على هذا التدريج خطوة، ثم خطوة، والقضية تبدأ بنظرة للاطلاع والمعرفة، ويزين الشيطان ذلك لكل أحد بحسبه، فيقول له: هي نظرة، وماذا عسى أن تؤثر؟ وماذا عسى أن تفعل؟ لكنها نظرة يتلوها نظرة، ثم يتلوها نظرات، ثم بعد ذلك يصير الإنسان عبدًا لهواه، لا يستطيع الانفكاك منه، فيحاول أن يتوب، ولا يستطيع، فيكون صريعًا لعدوه إبليس يقوده حيث شاء، ويتلاعب به تلاعب الصبيان بالكرة، فهذا نهي من الله عن اتباع هذه الخطوات، إذن اقطع الطريق من أوله، ولا تقل: أجرب، أو أنظر أو أكتشف أو أتعرف كما يقال، لا تتعرف، ولا تفتح بابًا من أبواب جهنم، ثم بعد ذلك لا تستطيع أن تغلقه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] قالها الله بعد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فقد يريد الإيمان ولا يستطيع، ويريد التوبة ولا يستطيع؛ لأنه أصبح لا يملك قلبه.
ثم لاحظ أيضًا أنه قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:168] فـ(إن) هذه تدل على التعليل لماذا لا نتبع خطوات الشيطان؟ لأنه عدو لنا، بيِّن العداوة، فإذا كان كذلك فكيف يطاع؟ وكيف يقبل ما يمليه ويُدرج به العبد؟ وهكذا من ابتلي بالوسوسة فهو يعيد الصلاة، أو يعيد الطهارة مرة بعد مرة، فكيف يستجيب لنصائح عدوه الشيطان، وهو يلعب به بهذه الطريقة، حتى يفوت عليه خير كثير، وتفوته صلاة الجماعة، وربما يفوته الوقت، فهو يعيد الصلاة حتى يخرج الوقت، وتتحول الصلاة إلى عبء ثقيل، يشقى معه، كل ذلك لاستجابته وقبوله لما يشير به الشيطان، ويدعو إليه، فلا حاجة لأن تفتش وتبحث فيما يتعلق بالطهارة عند وجود الشك، والقاعدة: أن الشكوك إذا كثرت طرحت، يعني لا يُلتفت إليها، ولا يحتاج مع ذلك إلى سجود سهو، ولا إعادة، وكذلك فيما يتعلق بالطهارة، فالأصل أن اليقين -وهي الطهارة- لا يزول بالشك، وكذلك بعد الفراغ من العبادة فإن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر، ولا قيمة له، فإذا انتهى الإنسان من الطواف وشك، وانتهى من الوضوء وشك، وانتهى من الصلاة وشك، هل سجد سجدة واحدة أو سجد سجدتين؟ فالشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر، فإذا انتهى فلا داعي لهذه الوساوس.
وهذا كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة الأعراف لما ذكر قصة إبليس مع آدم، وإخراج آدم من الجنة، قال: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:27] فهذا الذي غر وغرر بأبيكم آدم حتى أخرجه من الجنة، هو عدو لكم، والمؤمن لا يلدغ من جُحر واحد مرتين، فهذا يقتضي أن يعامل معاملة العدو، فكيف تستجيب له، هو يريد أن تسمع المعازف، وتشرب المسكر، وأن تعصي الله -تبارك وتعالى، وتنظر إلى الحرام، وتترك الصلاة، وتتأخر، وهذا الذي يريد، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [سورة البقرة:268] فكيف يُطاع؟
فهذا الذي يأمر به، وهذا الذي يعد به، فبئس الوعد، وبئس الأمر، فكيف تُترك طاعة الله الذي لعن إبليس وأخرجه من رحمته، وطرده، من أجل أنه امتنع عن السجود لأبينا آدم، ثم بعد ذلك أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [سورة الكهف:50] ما هذه المقابلة؟! يقول: أخرجته من رحمتي من أجل أنه امتنع عن السجود لأبيكم آدم، ثم بعد ذلك تعقدون الولاية معه، وتصطلحون معه، وتستجيبون له، وتعرضون عن عبادتي وطاعتي؟! بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً.
نتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم: (9) ومسلم في كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان برقم: (35) واللفظ لمسلم.
- المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153).
- المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 154).
- الوابل الصيب (ص:45).