الإثنين 16 / جمادى الأولى / 1446 - 18 / نوفمبر 2024
(168) قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ..} الآية:212
تاريخ النشر: ٠١ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1018
مرات الإستماع: 1327

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة البقرة:212] حُسِّن لهؤلاء الكفار هذه الدار العاجلة المتقضية، وما فيها من اللذات والشهوات في الوقت الذي يسخرون ويستهزئون بأهل الإيمان الذين يرجون ما عند الله، ويعملون للآخرة، وهؤلاء -أعني أهل الإيمان والتقوى- فوق هؤلاء الكفار يوم القيامة، في الدنيا يسخرون منهم لضعفهم، وربما لقلة اهتمامهم واشتغالهم بالدنيا وحطامها ومتاعها، ثم يوم القيامة يكون أهل الإيمان في أعلى الدرجات في الجنة، ويكون الكفار في أحط الدركات في النار وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ  يعطي العطاء الكثير الواسع من غير عدٍ، ولا إحصاء، يعطيه في الدنيا، ويعطيه أيضًا في الآخرة.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: السبب والعلة الباعثة على انكباب الكفار على هذه الحياة الدنيا، والإعراض عن الآخرة؛ وذلك أنها زُيّنت لهم، فتعلقت قلوبهم بها، وانعقدت آمالهم عليها، فصارت هي الغاية التي من أجلها يعملون، فهي المطلوب الأكبر، ومن ثَم فهم يتهالكون عليها؛ لأن ذلك التزيين صار مركوزًا في نفوسهم.

ويُؤخذ من هذا: أن العبد إذا ازداد تعلقه في هذه الحياة، فإن ذلك يكون على حساب العمل للآخرة، والاستعداد لها، فالتعلق بهذه الدنيا، والإكباب عليها، وعلى ما فيها من اللذات والشهوات، واشتغال القلب بذلك، هذا وصف ذميم، له آثار سيئة من الاشتغال بالدنيا، والإعراض عن الآخرة.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  هكذا بهذا الإطلاق، فيعني: أن كل ما فيها يُزين للإنسان، والله -تبارك وتعالى- يقول: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [سورة القيامة:20] وهي هذه الحياة الدنيا، فهذه المحبة للدنيا يشترك فيها كثير من الناس، ولكن الكفار هي غايتهم، فتعلقهم فيها تعلق أكبر وأعظم، كما هو مشاهد فهم يعيشون من أجلها، والله يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا متاع الدنيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14] والمتاع هو الشيء الذي يُتمتع به، لكنه لا يدوم، ولا يبقى؛ ولهذا سمى الله هذه الدار بالمتاع، مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] يغتر بها من لا بصر له، فتأسره بما فيها من البهرج والزينة، وقد مثَّل الله -تبارك وتعالى- ذلك بالماء الذي ينزل من السماء، ثم بعد ذلك يختلط به نبات الأرض، ثم بعد ذلك يتحول إلى هشيم، وهذا الربيع الذي نشاهده، ويستهوي الكثيرين فيه عبرة وآية، فهو ما يلبث أن يضمحل ويتلاشى، ثم بعد ذلك يكون هشيمًا، تذروه الرياح.

ثم تأمَّل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ هكذا بالفعل الماضي لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فهذا يدل على أن ذلك قد رُكز في نفوسهم، وثبت واستقر، فهو شيء متحقق؛ لأن التعبير عنه بالماضي يدل على رسوخه وتحققه، وفي السخرية عبر بالمضارع وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا  والفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، فالسخرية مستمرة في وقت نزول القرآن، وقبل نزول القرآن، والأنبياء قبل النبي ﷺ كانوا يواجهون بالسخرية والاستهزاء، ونوح ومن بعده من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كان قومهم يسخرون منهم، يقولون لنوح : كنت نبيًّا، ثم أصبحتَ نجارًا، وسخروا من هود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم -عليهم السلام، لكن ذلك لم ينفعهم، ولم يغن عنهم شيئًا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأهل الإيمان حينما يواجهون بالسخرية من قبل الكفار، فإن هذا أمر لا يُستغرب، بل هو ديدنهم وعادتهم وسجيتهم، وهو الفعل المتوقع منهم، هذا بناءً على أن الدنيا قد زُينت لهؤلاء الكفار، وحببت إلى نفوسهم، والعاقل لا يسخر من الناس، وموسى لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] فكما سبق في موضعه من هذه السورة: أن الذي يسخر من الناس، ويستهزئ بهم أنه من الجاهلين، فليس ذلك من أفعال العقلاء.

ثم إن في هذا الإخبار عن هؤلاء الكفار أنهم يسخرون من الذين آمنوا: تلطف بأهل الإيمان، حيث إن الله -تبارك وتعالى- أخبرهم عما يكون من هؤلاء الكفار، من أجل ألا يثقل ذلك عليهم، وألا تشتد وطأته على نفوسهم، فتكون نفوسهم قد تهيأت لمثل هذا الأذى، فهو شيء قد عرفوه وتوقعوه، فهم ينتظرونه، وصارت نفوسهم مستعدة لتلقيه.

ويُؤخذ منه أن هؤلاء الكفار قد جعلوا شغلهم الوقيعة في أهل الإيمان، يسخرون منهم وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [سورة المطففين:30] فهم يسخرون منهم بحركات، وإشارات، وعبارات، كل ذلك لما يجدونه في نفوسهم، والناس أسرى لأفكارهم وعقائدهم، فهذه المخالفة في الأهداف والغايات والاهتمامات والعقائد تجعل من هؤلاء حربًا على أهل الإيمان، فهم لا يكتفون بالإعراض والاشتغال بدنياهم، بل إن ذلك يحركهم إلى السخرية من المؤمنين، كيف يصدقون بيوم آخر وبالجزاء والحساب، ويطوعون أنفسهم للعمل في مرضاة الله وعبادته؟!

وقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة البقرة:212] جاء بهذه النتيجة؛ لأن العبرة بكمال النهايات، قد يكون أهل الإيمان في حال من الضعف والاستضعاف، ولكن في النهاية هم فوق الكفار يوم القيامة، مهما كان هذا الكافر في عتوه وجبروته وثرائه وقوته، فإن أهل الإيمان فوقه، أضعف أهل الإيمان في الدنيا فوق أقوى أهل الكفر في الآخرة، والمعيار في الآخرة ليس كما هو الحال في هذه الحياة الدنيا.

ولاحظ هنا المغايرة في العبارة وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فلم يقل: وهم فوقهم يوم القيامة، ولم يقل: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة، فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار؛ لفائدة مضافة، وهو أن وصف التقوى هو الذي يعلو به الإنسان ويرتفع، فهؤلاء من أهل الإيمان متحققون بتقوى الله -تبارك وتعالى، فالتقوى هي التي ينال بها العبد الدرجات العالية، فتعلو مرتبته، ويسمو، ويكون له من العزة في الدنيا، والرفعة في الآخرة، والدرجات العلى من الجنة، فالناس إنما يتفاضلون بهذا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  فالنجاة والخلاص والسعادة لا تحصل إلا بالإيمان والتقوى، والتقوى عرفنا أنها فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فبحسب مراعاة العبد لهذا، وقيامه به ظاهرًا وباطنًا يكون تحققه بالتقوى.

ولاحظ أن التعبير جاء هنا بالجملة الاسمية وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وهناك في التزيين بالفعل الماضي وبالسخرية وَيَسْخَرُونَ كل ذلك عُبّر عنه بالفعل، لكن هنا عبر بالاسم، فالفعل يدل على الحدوث، والاسم يدل على الثبوت وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فهذا أمر ثابت لا يتبدل ولا يتغير، أما السخرية فهي في الدنيا، وهذا التزيين الذي يحصل لهم فيحصل على أبصارهم وبصائرهم من الغشاوة، بحيث يكون لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179] هذا يكون في الدنيا، لكن حينما تحق الحقائق فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22] تنجلي عنهم تلك الغشاوة، ثم بعد ذلك يكون النعيم المقيم الثابت، والسعادة الأبدية لأهل الإيمان وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ويكفي في بيان حقارة هذه الحياة الدنيا أنها سميت بـ(الدنيا) لدنو مرتبتها وانحطاطها، فهي لا تستحق أن تكون غاية المطالب، وأن تكون هي الهدف الأسمى للإنسان، لكنه يعمر هذه الحياة على وفق شرع الله -تبارك وتعالى، دون أن يتهافت عليها، ويحول هذه الحياة إلى غاية من أجلها، فهذا غير صحيح، وإنما هي قنطرة وبلغة يتوصل بها إلى الآخرة، وإلا فالهدف هناك، والعمل لتلك الدار، والمدخرات يرسلها إلى آخرته، فمتى ما رحل وجد ذلك عند الله -تبارك وتعالى، هذا مَن فتح الله بصيرته، وعرف الأمور على حقيقتها كما هي.

وهذا يُبيّن لنا -أيها الأحبة- خطورة التزيين، قد يزين للإنسان شهوة، أو معصية، وقد يزين له النفاق، أو اشتغال يلهيه عن طاعة الله ويصرفه عن مرضاته، فتتحول بصيرته فلا يرى ما في ذلك من العيب والنقص والانحراف والضلال، وقد يراه أكمل ما يكون، ويرى أن المعرضين عنه والمشتغلين بغيره أنهم مخطئون، وضالون عن الصواب، هكذا يزين للإنسان، تزين له أمور ثم بعد ذلك تستهويه، فلا يسمع، ولا يبصر، وهذا في غاية الخطورة، وقد يقع للإنسان هذا بصورة متدرجة دون أن يشعر، إذا نقص من إيمانه، وأكب على الشهوات والمعاصي، وقلت عبادته وطاعته، صار بعد ذلك التحول التدريجي كالضعف في البصر يكون ضعفًا في البصيرة، فلم تعد تلك البصيرة ترى الأشياء على حقائقها، فتتغير وتتبدل وتتحول، فهذا الذي كان ربما في غاية الإقبال والحرص على طاعة الله والغيرة على دينه، يتحول إلى شيء آخر، فتتحول اهتماماته، ويتغير منطقه، وتتغير نظرته للأمور، وقياسه للأشياء، فهذا خطير، فلم يعد ذلك الإنسان الذي تعرفه، وكنت تسمع كلامه وتستحسن رأيه -نسأل الله العافية- فهكذا يكون الانحراف غالبًا.

هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

مواد ذات صلة