بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:217].
يسألك أصحابك عن الشهر الحرام قتال فيه، هل يحل فيه القتال؟ وبعضهم يقول إن السائل هم المشركون على سبيل التهكم والسخرية؛ وذلك أن هذه الآية نزلت على سبب وذلك ما جاء في جُندب بن عبد الله [1]: بأن النبي ﷺ أرسل سرية وأمر عليهم عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابًا وأمره أن ينظر في هذا الكتاب حتى يبلغ موضعًا معينًا، فلما سار وبلغ ذلك فتح الكتاب وقرأه على أصحابه، وخيرهم، كان النبي ﷺ أمره أن يُخيرهم بأن المسير إلى نخلة بين مكة والطائف؛ ليأتوه بخبر قريش، فخيرهم بين المُضي أو الرجوع إلى المدينة فلما بلغوا ذلك الموضع في طريقهم إلى نخلة مرت بهم عير لقريش، وفيها جماعة منهم ابن الحضرمي، وكان أصحاب النبي ﷺ لم يستبينوا الشهر"، كانوا يظنون أنه آخر يوم من جُمادى الثانية وإذا به قد دخل شهر رجب، اليوم الأول من شهر رجب وهو شهر حرام، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:217]، الأشهر الحرم هي رجب الفرد، ثم ثلاثة على التوالي وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه أربعة أشهر كما قال الله -تبارك وتعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ[سورة التوبة:36]، "فلما قتلوه وأخذوا العير، وفر أولئك الرجال الذين كانوا يصحبونها، وأسروا منهم رجلين وجاءوا بذلك جميعًا إلى المدينة، فأتوا النبي ﷺ فنزلت هذه الآية".
وقد قال رجال من المسلمين: إنهم إن سلموا من الوزر فليس لهم أجر فأنزل الله الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:218]"[2].
فالمقصود أن هذا السؤال متوجه من قِبل المسلمين على قول أكثر أهل العلم عن الشهر الحرام هل يحل القتال فيه أو لا يحل.
وبعضهم يقول: هذا السؤال كان من قِبل المشركين على سبيل الاستهزاء والسخرية، هل يُقاتل في الشهر الحرام وأنتم تدعون أنكم على ملة إبراهيم ثم تستحلون الأشهر الحُرم، فجاء هذا الجواب القتال في الشهر الحرام كبير عظيم عند الله -تبارك وتعالى، هذا هو الجواب.
المشركون استغلوا هذا الخطأ وأرادوا أن يُرجفوا بأهل الإيمان وأن يُشنعوا عليهم، فجاء هذا الجواب قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، ثم تحول الخطاب إلى المشركين فلما يمنحهم فرصة لاستغلال الحدث من أجل الطعن في الإسلام وأهله، وهذه طريقة القرآن في الرد على المُبطلين، هؤلاء أصحاب باطل ليسوا بأصحاب حق، فحول الخطاب إليهم، قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، قال: القتال في الشهر الحرام كبير عظيم، ولكن ما تفعلونه أنتم معاشر المشركين أعظم وأشد وأشنع من الصد عن سبيل الله، منع الناس من الدخول في الإسلام.
وكذلك أيضًا الكفر بالله -تبارك وتعالى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، ضيقوا على النبي ﷺ وعلى أصحابه حتى اضطروهم إلى الهجرة، فيقول: هذا الفعل منكم أعظم من هذه الجناية التي حصلت من استحلال الشهر الحرام.
ثم قال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، الفتنة هنا فُسرت بمعنى الكفر على قول أكثر المفسرين الكفر أعظم من القتل، ما وقع من القتل هذا جُرم ولكن الفتنة الكفر الذي تتلبسون به أعظم من هذا الجرم.
وفسره بعضهم بأن الفتنة أكبر من القتل، أي: فتن الناس عن دينهم أعظم من قتلهم، على الأول: أن كفركم يا معاشر المشركين من قريش أعظم ممن وقع على هذا من القتل.
المعنى الثاني: أن الفتنة فتن الناس عن الدين صد الناس عن الحق امتحان الناس من أجل أن يرجعوا عن دينهم بالأذى الشديد، والنكال هذا أشد من القتل، أشد من القتل الذي وقع عليكم، أو على القول الآخر أيضًا أشد من قتلكم لهم، يعني: أن يُفتن الإنسان في دينه فينحرف ويكفر بالله أعظم من أن يُقتل؛ لأنه إن قُتل وهو على حق وإيمان فإنه يصير إلى الجنة، لكنه إن صُرف عن دينه فإنه يشقى في الدنيا والآخرة.
ثم قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، يعني: هم مستمرون على قتالكم لا ينتهون عن هذا أبدا حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا تحقيق ذلك، ومن استجاب لهم وأطاعهم وخضع لهم فترك دينه وارتد عنه فمات على الكفر فقد ذهب عمله وحبط، وبطل، وصار من المُلازمين للنار لا يخرجون منها.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، باعتبار أن السائل هم الصحابة ، فالسؤال متوجه إلى النبي ﷺ لأنه مُشرع فهو لا ينطق عن الهوى بل بوحي الله -تبارك وتعالى- إليه، فهكذا معرفة الحلال من الحرام، معرفة التشريع ونحو ذلك لا يُرجع فيها إلى الأذواق، أو العقول وإنما يُرجع فيها إلى الشرع، إلى كلام الله وكلام رسول الله ﷺ وبفهم السلف الصالح وإنما يستنبط ذلك فيما يحتاج إلى استنباط العلماء الراسخون وليس ذلك لكل أحد.
هنا يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، يسألونك عن القتال فيه، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، الشهر الحرام هل يجوز القتال فيه أو لا يجوز؟
الجمهور على أن ذلك منسوخ، الجمهور من المفسرين والفقهاء وإن اختلفوا في ناسخه هل هو قوله -تبارك وتعالى- في آية براءة وهي الآية الخامسة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، قد يُشكل هذا لأنه قال: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ، قالوا: المقصود بالأشهر الحُرم هي التي حُددت: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [سورة التوبة:2]، في الحجة التي حجها أبو بكر في السنة التاسعة للهجرة، حدد لهم أربعة أشهر ومن له عهد فإلى عهده: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [سورة التوبة:4]، هؤلاء أصحاب العهد، من لا عهد له أربعة أشهر ثم بعد ذلك تنتهي المُهلة، فهكذا قالوا.
وقال بعضهم: إنها منسوخة بقوله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [سورة التوبة:36]، فالعموم قالوا يشمل الأوقات الزمان وغير الزمان، وهذا وإن قال به أكثر أهل العلم أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ كقتال النبي ﷺ في حنين والطائف فإن ذلك كان بعضه في ذي القعدة.
والأقرب -والله أعلم- أن الأشهر الحُرم لم يُنسخ القتال فيها فهو لا يجوز، ولكن إن بدأ المشركون القتال فيها قوتلوا، فالذي وقع في حُنين هو أن النبي ﷺ لما فتح مكة في رمضان تجهز إليه المشركون من هوازن ومن جاء معهم من أهل الطائف، فجاءوا إلى وادي حُنين بين مكة والطائف، واجتمعوا لقتال النبي ﷺ فخرج إليهم، ولم يكن النبي ﷺ هو الذي بدأ ذلك، فهذا لا إشكال فيه، فالأقرب أنها لم تُنسخ -والله تعالى أعلم.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [سورة البقرة:217]، الله يخلق ما يشاء ويختار، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في مقدمته البديعة لكتابه: "زاد المعاد في هدي خير العباد"، وهو من أنفس كتبه وأنفعها ذكر في مقدمته كلامًا جميلاً جعله مدخلاً للحديث عن النبي ﷺ انطلاقًا من قوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، فهذا الخلق بعده الاختيار، فذكر الاختيار من البِقاع حيث اختار الله مكة وشرفها على سائر البِقاع، وذكر الاختيار في الأزمنة فاختار الأشهر الحُرم على غيرها، واختار يوم الجمعة على أيام الأسبوع، واختار رمضان على سائر الشهور، واختار العشر الأواخر منه، واختار ليلة القدر من بين سائر لياليه، وكذلك تحدث عن الاختيار في الأشخاص، فالله يصطفي من الملائكة رُسلاً ومن الناس.
ثم ذكر الاصطفاء من هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن الله اصطفى منهم أولي العزم، واصطفى من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام، وأن اصطفى نبيه ﷺ على سائر الأنبياء والمرسلين ثم بدأ يتحدث عن هديه وسيرته وشمائله ونسبه وما إلى ذلك[3].
فالمقصود أن الله -تبارك وتعالى- اختار هذه الأشهر وجعل لها مزية، وذلك أن الأعمال تعظم فيها من الطاعات، وكذلك أيضًا السيئات ولذلك قال الله : مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [سورة التوبة:36].
كذلك أيضًا هنا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لم يقل يسألونك الشهر الحرام، والسؤال هو عن القتال، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، فقدم الشهر الحرام؛ لأن المنع من القتال إنما علته حُرمة الشهر الحرام، الأشهر الحُرم، فقدم ذلك؛ لأنه كالعلة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، هو علة المنع؛ لأنه شهر حرام فقدمه.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، إلى أن قال: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، هذا يدل على أن الذنوب والجرائم والمعاصي تتفاوت، فهي ليست على مرتبة واحدة.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إلى آخره، نستفيد منها طريقة المحاجة والرد على المبطلين، يعني: من كان غرضه الطعن في الحق وأهل الحق والثلب في الإسلام وأهله كما يُذيعه أعداء الله -تبارك وتعالى- قديمًا وحديثًا، لكن مع وسائل الإعلام في هذا العصر ازدادت الفتنة بذلك، فهؤلاء الكفار يستغلون ما يقع من انحرافات، أو جرائم، أو جرائر، أو عدوان من بعض المسلمين فيشنعون على الإسلام، وأهل الإسلام ويستغلون ذلك أبشع استغلال.
فالواجب هو قطع الطريق عليهم، فالإسلام لا يُقر هذا يُبين أن هذا باطل هذا الذي وقع لا يُقر ولكن لا نسترسل معهم في هذا فنُخرب بيوتنا بأيدينا، ونعود على أنفسنا باللطم والنقض، والنكث لما بنيناه في عقود متطاولة، وإنما يُرد على هؤلاء بما يليق بهم، يُقال: هذا الذي وقع لا يُقر، هذا خطأ، هذا انحراف، هذا ضلال، يُبين حجمه، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، لكن ما أنتم فيه من الضلال والكفر والإجرام والصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى، وما أنتم فيه من الفساد والإفساد في الأرض، وما إلى ذلك أعظم من القتل، فإنما يصدر عن هؤلاء الكفار لا شك أنه بكل المقاييس يُعتبر من الجرائم العظام وهي بمعاييرهم ومقاييسهم لو حوسبوا عليها لكانت جرائم حرب، فيُقطع عليهم الطريق ولا نسترسل معهم.
وللأسف أصبح المسلمون يُعانون من بعض بني جلدتهم فهم يسبقون الكفار في الطعن والثلب في دين الله وفي البلد وأهله، يقولون: للكفار بمجموع كلام هؤلاء الذين هم من جلدتنا بما حاصله أن هذا الذي وقع وهذا الخطأ، وهذا الإجرام وهذا الانحراف الذي حصل ليس مختصًا بهذا الذي فعله بل إن ذلك يرجع إلى البلد برُمتها بمناهجها التعليمة وعلماءها ومفكريها ودعاتها وكل ذلك، وهذا لا شك أنه جريمة في حق الدين وأهله، جريمة في حق البلد بكاملها، سواء كان ذلك على مستوى القيادة، أو على مستوى القيادة الإدارية، أو العلمية الشرعية العلماء، أو كان ذلك لعموم الناس، حينما يُضاف ذلك إليهم يُقال: هذا لا يُختص بذلك الذي فعله، وإنما ذلك يرجع إلى، يعني: كأنهم يقولون لهؤلاء الأعداء: إن هذا يرجع إلى بيئة حاضنة لهذا الانحراف، وهذا خطير أن يُضاف ذلك إلى المسلمين وإلى بلادهم، فهؤلاء الذين يقعون في هذا الخطأ، هؤلاء الذين يقعون، قد يكون هؤلاء أصلاً ممن يحمل فكرًا منحرفًا لا يُمثل الأمة، وإنما هو فكر شاذ نشاز يُمثل فئة منحرفة عبر التاريخ.
الخوارج لا يمثلون أهل السنة والجماعة، ولا يمثلون الإسلام الصحيح، وقد يكون ذلك وقع من غيرهم على سبيل الخطأ والعدوان، فيُرد ذلك على فاعله كائنًا من كان، لكن أن يُضاف ذلك إلى الأمة، أن يُضاف إلى مناهجها، أن يُضاف إلى علماءها، أن يُضاف إلى دينها وليس فقط في الأحياء وإنما حتى في الأموات، حينما يُقال: بأن أول من جاء بهذا هو أبو بكر الصديق ، أو حينما يُقال بأن أول من جاء بهذا هو الإمام أحمد -رحمه الله، أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحم الله الجميع، هؤلاء الأئمة الأعلام كيف يُضاف إليه ذلك، القرآن تشبثت به جميع الفِرق المنحرفة حتى النصارى احتجوا بآيات من القرآن على التثليث على أن الله ثالث ثلاثة، احتجوا بآيات من القرآن، المُبطل لا يكون عادمًا لشيء يتمسك به، لكن ليست العبرة بهذا، فكيف لا يجد المُبطل كلامًا لبعض أهل العلم من المُتشابه ويتشبث به ويحتج به على باطله، فهل معنى ذلك أن هذا العالم الذي احتج هذا المُبطل بكلامه أنه على انحراف؟ ويؤيد هذه الضلالات والانحرافات؟!
فهذا منهج قرآني في الرد، ينبغي: أن يُعتبر وأن يُستفاد منه، وألا تكون الأمة ميدانًا يوجه إليها كل عدو مُتربص في الداخل أو في الخارج سهامه ليهدم ويُصيب في مقتل فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال ولا يُقبل، وهؤلاء الذين في كل مرة يصوبون سهامهم إلى الإسلام وأهله وهم من بني جلدتنا ويُسابقون الكفار ليقولوا: نعم نحن مصدر هذه الانحرافات وهذا الغلو ونحو ذلك من العبارات والألقاب التي يلوكونها فهذا الكلام لا يُمكن أن يُقروا عليه، ولا يمكن أن يُقبل سواء كان ذلك في قنوات، أو غير ذلك، أو كان ذلك عبر كتابات فبأي وسيلة كان فإن هذا الاستغلال مرفوض، ومردود عليهم، وينبغي أن لا ننساق أبدًا مع مثل هؤلاء الأعداء من الداخل، أو من الخارج، وإنما نُبين حقائق الدين ثم نرد على هؤلاء بطريقة لا يمكن أن يستغلوا معها هذا الذي وقع -والله المستعان.
وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى، اليهود لما شنعوا على المسلمين في الحصار حيث قُطع بعض النخيل فقال الله لما قالوا ما هذا الإفساد وأنتم تتدعون الصلاح والإصلاح: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5]، انظر إلى طريقة الرد.
وهكذا في مسألة الربا لما جاء المشركون يجادلون فيه وكابروا وقلبوا القياس فجعلوا الأصل فرعًا والفرع أصلاً: قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، يعني: الأصل في العرض القياس أن يُلحق المختلف فيه بالأصل المتفق عليه، إنما يقول إنما الربا مثل البيع المتفق عليه على جوازه وحله، لكنهم قلبوا لمُكابرتهم وشدة استحلالهم للربا فقالوا: قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، ألحقوا البيع المتفق عليه بالربا المختلف بين المسلمين والكفار فيه، فماذا قال الله في الرد؟ لم يأت بطرق وحُجج عقلية وإقناع مرتب على طُرق منطقية أو غير ذلك، لا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، هذا الرد: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275]، الرد جاء مُلخصًا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، ثم جاء هذا التذييل والتكميل: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].
إذًا هؤلاء لما كانوا يقولون هذا على سبيل المُكابرة جاء الرد موجزًا، الله أحل البيع وحرم الربا، وهو الرب المُشرع الذي يُرجع إليه في ذلك كله، فهذا حُكمه.
هذا -والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده، برقم (1534)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (17745).
- تفسير الطبري (3/ 668)، وتفسير ابن كثير (1/ 577).
- انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 53-54).