الأحد 15 / جمادى الأولى / 1446 - 17 / نوفمبر 2024
[173] تتمة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ..} الآية:217
تاريخ النشر: ٠٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1039
مرات الإستماع: 1281

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:217].

من الهدايات التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة إضافة إلى ما سبق ما في قوله -تبارك وتعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، فقتل النفوس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "إن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك"[1]، فيُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي يرد الله -تبارك وتعالى- عليهم: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أن من كان أقوم بطاعة الله -تبارك وتعالى- فهو أحق بالمسجد الحرام لقوله تعالى: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فالمشركون مُقيمون في مكة كما هو معلوم، وقد أخرجوا النبي ﷺ وأصحابه لكنهم ليسوا بأهل المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [سورة الأنفال:34].

وهكذا أيضًا في تقديم ما حقه التأخير في قوله -تبارك وتعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، فجُعل معطوفًا على صد وذلك قبل أن يستوفي صد ما تعلق به وهو المسجد الحرام، صد عن المسجد الحرام، ومُقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يُقال: وصد عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، لكنه جاء بهذا الترتيب للاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة كما قال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله[2].

فقوله: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، جاء فيه هذا الترتيب على هذا النحو بناء على الأعظم والأشد.وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، ولا يزالون يُقاتلونكم، هنا عُبر بالمضارع وهذا يدل على الاستمرار، ثم غياه بهذه الغاية: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، أن قتال الكفار للمسلمين أمر مُستمر لن يتوقف إلى غاية ذكرها الله -تبارك وتعالى- وهي: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، هذا بالنسبة للقتال، وأما ما يتعلق بالرضا فذلك في الآية الأخرى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، فجعل لتوقف القتال من قِبل هؤلاء الكفار إلى غاية: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، ولكن رضاهم أيضًا حتى مع ردة المسلمين عن دينهم لن يتحقق إلا إذا اتبعت ملتهم، ثم تتبع ملة من؟

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى [سورة البقرة:120]، وجاء بلا النافية قبل كل طائفة؛ لتأكيد النفي: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ، وجاء بأقوى صيغة من صيغ النفي "لن"، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، فجعله إلى هذه الغاية اتباع ملة هؤلاء، فإذا اتبعت ملة اليهود لن ترضى النصارى، وإذا اتبعت ملة النصارى لن ترضى اليهود، فهنا أيضًا قال: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، فجاء بالشرط إِنِ اسْتَطَاعُوا على طريق الاحتراز، حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ، وجاء بهذا الحرف "إن" الذي يدل على البُعد، فذلك لن يتحقق ولن يحصل أن المسلمين يرتدون عند دينهم لكن المقصود هنا بيان الغاية أنهم لن يدعوا قتال المسلمين حتى يرجع المسلمون عن دينهم، حتى يردوا المسلمين عن إسلامه إن استطاعوا، ثم هذا الاحتراس بهذه الطريقة والتعليق بـ"إن" يدل على بُعد ذلك وأن هذا لن يتحقق ولن يحصل من المسلمين كما يقول القائل: إن استطعت أو إن ظفرت بي، يقوله لعدوه، إن ظفرت بي فاصنع ما بدا لك، ونحو ذلك، يعني: هو واثق أنه لا يحصل هذا الظفر.

ثم انظر إلى هذا الوعيد المرتب عليه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فعبر بصيغة المُطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين، يرتدد، فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه، ومن عرف الحق لا يرجع عنه كما هو معلوم وقد ذكر هذا المعنى بعض المفسرين.

وهكذا أيضًا في قوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، لم يأت هنا مفعول ثاني حيث لم يقل: من يرتدد منكم عن دينه إلى دين كذا، إلى دين اليهود أو إلى دين النصارى؛ لأن القضية ليس الشأن في الدين الذي يتحول إليه إذا ارتد، وإنما الشأن هو في الرجوع عن الإسلام إلى أي دين كان فذلك ارتداد وتحول إلى الباطل على أي ملة كان مآله ومصيره، ولهذا ما جاء بالمفعول الثاني، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، ما قال إلى دين كذا وكذا، فالعبرة هي برجوع المسلمين عن دينهم وأن هذا لا يتحقق، وأن هذا لو حصل فذلك الوعيد حاصل لمن وقع له إلى أي دين كان، سواء كان من الأديان التي تُنسب إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقد دخلها التحريف، أو إلى وثنيات لم تأت في شيء من دين الرُسل -عليهم الصلاة والسلام.

ثم أيضًا وضع الظاهر موضع المُضمر في قوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، ما قال ومن يرتدد منكم عنه؛ لأنه قال قبل ذلك: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، فذكر الدين والضمائر للاختصار، فما قال بعده: ومن يرتدد منكم عنه فيمت وهو كافر، وإنما قال: عن دينه، فجاء بالمُظهر في موضع المُضمر؛ ليُشعر بفداحة هذا الأمر وشدة هذا المقام وفظاعة هذا الجُرم، ومن يرتدد منكم عنه، لا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، هل يرتد عن دينه الحق؟ هذا أمر عظيم كيف يكون.

ثم قال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فجاء بهذا القيد؛ لأن ما بعده مما رُتب عليه من حبوط الأعمال مُعلق بذلك، أن الأعمال أعمال الإنسان تكون حابطة إذا مات على الكفر، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فهذه الآية مُقيدة والآيات المُطلقة تُحمل على هذا المُقيد، وبناء عليه يُقال بأن من ارتد عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام ثانية فأعماله التي عملها قبل ردته هل تكون حابطة باطلة ذاهبة؟ ومن ذلك ما يذكره الفقهاء -رحمهم الله- يقولون: لو أنه حج ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام هل يُطالب بحجة أخرى باعتبار أن الأولى قد بطلت أو لا؟ قولان لأهل العلم، والأقرب أخذًا من هذه الآية أن عمله لا يحبط بل يرجع إليه عمله فيكون إسلامه على ما أسلف أسلمت على ما أسلفت من خير[3]، هذا في الابتداء حينما يدخل الكافر في الإسلام فيُقال له: أسلمت على ما أسلف، يعني: يُحسب له أعماله الطيبة في الكفر، فمن باب أولى أنه إذا ارتد ثم رجع إلى الإسلام أن أعماله الصالحة التي كانت في حال كونه على الإسلام أنها لا تحبط؛ ولذلك لا يُطالب مثلاً: بقضاء الصلوات حينما كان مُرتدًا أو بإعادة الحج السابق أو بنحو ذلك من الأعمال.

فهذا ظاهر من هذه الآية، فدلت على أن حبوط الأعمال إنما يكون بالموت على الكفر.

وهنا قال: فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، حكم ببُطلان الأعمال في الدنيا والآخرة وكذلك أيضًا بكونهم أصحاب النار، وإذا ذُكر أصحاب النار فإن المقصود من هم مخلدون ومُلازمون لها، أهل الخلود الأبدي السرمدي: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ لتقوية النسبة: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أي: باقون أبدًا بلا انقطاع، هذا جزاء الردة عن الإسلام.

فنسأل الله أن يُثبتنا وإياكم على الإيمان، وأن يحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين، وأن يُعيذنا وإياكم من مُضلات الفتن، وأن ينصر دينه وأوليائه، وأن يُعز كلمته وأن يُذل الكفر وأهله -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. مجموع الفتاوى (10/ 513).
  2. التحرير والتنوير (2/ 329).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، برقم (123).

مواد ذات صلة