السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(175) قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ..} الآية:219
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 1008
مرات الإستماع: 1318

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:219، 220].

يسألك المؤمنون عن الخمر والميسر، تعاطي ذلك فيما يتصل بالخمر بالشرب والبيع والشراء، وكذلك أيضًا الميسر وذلك هو القمار مما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم، ويدخل في ذلك ألوان المغالبات التي يكون فيها العِوض من الطرفين مما يكون من قبيل القِمار، والنبي ﷺ يقول: لا سبق إلا في خف، أو في حافر، أو نصل[1]، وإن اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في تفاصيل اشتراط المُحلل وهو الطرف الثالث الذي يدفع أو عدم الاشتراط، فهم يسألون عن الخمر والميسر، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا الإثم الكبير مما يكون من الأوزار لكن باعتبار أن هذه الآية قبل التحريم فلا وزر، وإنما يكون ذلك كما يقول بعض أهل العلم في التبعة والأثر كما يقول ذلك أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله[2]، يعني ما يترتب عليهما، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ من ذهاب العقل، وما يصدر عن هذا السكران من الأقوال والأفعال التي قد تصل إلى أحوال كالقتل وما إلى ذلك، العدوان على النفوس والأموال والأعراض.

كذلك أيضًا الميسر بأخذ أموال الناس بالباطل، وما يحصل بسبب ذلك من العداوات والشحناء بين الناس، وأما المنافع فإن ذلك كما قيل من كون الخمر يحصل بشربها شجاعة للجبان، وبذل وجود للبخيل، وما يحصل بسبب ذلك من اللذة المُطربة ونحو ذلك مما قد يحصل من بيعها وألوان ما كانوا ينتفعون به، وهكذا بالنسبة للميسر يحصل له مال من غير كد ولا تعب، كما يحصل له لذة من جهة الظفر، يعني يشعر أنه قد انتصر وفاز وحقق كسبًا هذه منافع ضئيلة وغير مُعتبرة إزاء تلك المفاسد من الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وما إلى ذلك من المفاسد المتنوعة.

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فهذه الآية بعض أهل العلم يقولون: إنها دالة على تحريم الخمر والميسر، والجمهور على أن هذه أول آية نزلت في الخمر، ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنها تدل على التحريم، واحتجوا بأن الله ذكر فيها علة التحريم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فالإثم لا يجوز مقاربته من جهة، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فقاعدة الشريعة أن ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة فإنه يكون حرامًا، فهنا قال: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، والذين قالوا: إن هذه ليست للتحريم وإنما هي توطئة للتحريم احتجوا أيضًا بأدلة وأجابوا عن مثل هذا فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، بعضهم قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، هذا بعد التحريم.

وبعضهم قال: بأن ذلك الإثم الكبير باعتبار الأثر المترتب من قتل أو انتهاك عرض، أو أخذ مال أو نحوذ لك، وكذلك في قوله: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، بعضهم يقول: هذا باعتبار الآثار، وبعضهم يقول هذا بعد التحريم، والذي يظهر -والله أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك للناس توطئة؛ لتتهيأ نفوسهم لما بعده مما ذكره الله -تبارك وتعالى- في الآيتين من سورة النساء والمائدة، ففي الآية الثانية التي جاء فيها الحديث عن الخمر وهي آية النساء وذلك قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43]، فحد من شُربها بحيث إنهم يحتاجون في هذه الحال إلى أن يشربوها في وقتين فقط، إما أن يشرب بعد الفجر من أجل أن يُفيق قبل الظهر، أو أن يشرب بعد العشاء من أجل أن يُفيق قبل الفجر، فصار تعاطيها محصورًا.

كذلك أيضًا نزلت آية المائدة وهي آخر ما نزل في الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90]، فهنا أمر باجتنابه فذلك نص صريح في المنع، ويدل على هذا التدريج وأن هذه الآية ليست للتحريم أن عمر قال: "اللهم بين لنا في الخمر فنزلت هذه الآية من سورة البقرة، فلم يفهم منها عمر التحريم، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة النساء، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في سورة المائدة، فقال: انتهينا انتهينا"[3]، ففهم منها التحريم.

كذلك أيضًا صح: "أنه كان يُنادي منادي رسول الله ﷺ بالصلاة بعد ما نزلت الآية التي في سورة النساء: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، إذا نادي المنادي المؤذن يذكر في أذانه أن لا يقرب الصلاة سكران"[4]، فلو كانت محرمة آنذاك وآية النساء نازلة بعد هذه لما كان ذلك في الأذان لاستجاب الناس وما احتاج المجتمع المؤمن في ذلك الوقت مجتمع الصحابة إلى أن يُقال في الأذان في شيء محرم أصلاً أن يُقال لا يقرب الصلاة سكران، فهو ليس مجتمع سُكارى بل هو مجتمع إيمان وطُهر ونزاهة ونظافة فلما نزل التحريم في آية المائدة قالوا: انتهينا انتهينا، حتى جاء في حديث أنس : "أنه كان يسقي ساقي القوم في مجلس أبي طلحة فلما سمعوا المنادي على أن الخمر قد حُرمت"، هذا ما حصل إلا بعد نزول آية المائدة، فأمره أبو طلحة أن يقوم إلى تلك الدِنان دِنان الخمر وأن يُريقها أو يشقها، فسالت الطرقات في المدينة بالخمر"[5]، هذا لم يحصل قبل آية المائدة فلو كانت محرمة لكان ذلك من أول الأمر.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۝ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة البقرة:219، 220]، يسألونك ماذا ينفقون، ظاهر الجواب قُلِ الْعَفْوَ، أن السؤال كان عن القدر المُنفق، هل ينفقون جميع ما في أيديهم، أو ينفقون بعضه وما مقدار هذا المُخرج، فقال: الْعَفْوَ، والعفو المقصود به ما عفى يعني القدر الزائد عن الحاجة، وظاهر من هذا أن المقصود بذلك غير الزكاة، أن يُخرج الإنسان ما فاض عن حاجته وحاجة أولاده فذلك هو الذي يُنفقه ولا يترك أهله في حال من الحاجة والمسغبة ويتصدق بماله، كذلك البيان والإيضاح يُبين الله لكم الآيات في أحكام الدين والشريعة من أجل أن تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد في قوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، حرص الصحابة على الفقه في الدين، كذلك في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، وهذه الخمر كانت لربما من أشد الأشياء علوقًا في نفوسهم، كانت نفوسهم متعلقة بالخمر فكانت في مجالسهم تُدار، وتجد في أشعارهم وفي منثورهم من الكلام ما يذكرون فيه هذه الخمر بأسمائها المختلفة، وأوصافها المتنوعة مما يعتبرونه نخوة، ومما يعتزون به ويتفاخرون، فكانت قهوة المجالس كما يُقال، وأُنس تلك المجالس ومع ذلك سألوا عنها، فهذا يدل على شدة حرصهم على مرضاة الله -تبارك وتعالى.

ثم أيضًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قلنا: بأن الميسر هو القِمار، وقد ذكر الإمام مالك -رحمه الله[6] أن الميسر ميسران:

النوع الأول: ميسر اللهو وأدخل فيه جميع أنواع اللهو واللعب؛ لأن ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة يعني ولو كان من غير عِوض.

والنوع الثاني: وهو ميسر القِمار وذلك ما يكون فيه معاوضة أو ما يكون فيه مُغالبة ومُقامرة ونحو ذلك بالعِوض، فأدخل الفقهاء -رحمهم الله- في الميسر أنواعًا من المُغالبات التي يكون فيها العِوض إلا ما اُستثني بالحديث، وما ألحقوا به على سبيل القياس مما يكون به قوة الأمة وعزها ومنعتها، وما عدا ذلك فإنه غير داخل فيه، لقوله ﷺ: لا سَبَق، هكذا بفتح أوله وثانيه، سبق يعني العِوض والجائزة، وضبطه بعضهم: لا سبْق بفتح أوله والسكون على الباء يعني المُسابقة إلا في ثلاث: النصل، يعني: الرمي بالسهام والسباق بالإبل؛ لأنه ذكر الخُف، وكذلك الحافر على الخيل.

فهذا يحصل فيه قوة للأمة ولا شك أنه يكون مما يحصل به عزتها وإعدادها لعدوها، ألحق فيه بعض الفقهاء المسابقات في الحديث والقرآن ونحو ذلك، أما المُغالبات الأخرى التي لا تورث قوة ولا نفعًا فإن ذلك لا يصح فيه العِوض، أما ما يورث العداوة والبغضاء والشحناء فإنه لا يجوز ولو كان من غير عِوض، بهذا التفصيل.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- هو شأن جميع المحرمات يعني أن فيها الإثم الكبير وأن الإثم فيها أكثر من النفع، يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة، فهذا يُربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة"[7]، يعني: هذه المحرمات كالخمر وغيره كالدُخان ونحو ذلك كالحشيش والمُخدرات وسائر المحرمات، وأكل الميتة أكل السِباع، هذا يؤثر في بدن الإنسان، فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام في شأن جميع المحرمات يقول: "فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة"، يعني: أكل الحرام سواء كان ذلك من المكاسب المحرمة كالربا والرُشى ونحو ذلك، أو هذا المُحرم لكسبه، وكذلك المحرم لوصفه كالميتة والخمر والخنزير والسِباع ونحو ذلك، هذا يؤثر في القلب ويؤثر في البدن، يعني قد يكون هذا الإنسان من أهل الغواية يؤثر الضلال على الهدى لا ينتفع بالموعظة، هذا أثر في القلب، الزيغ.

وكذلك أيضًا الأثر في البدن من الأمراض والعِلل والأسقام ولهذا قال النبي ﷺ بأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليه[8]، فبعض الناس يتحدثون عن أشياء من التداوي بأنواع من المحرمات فالجواب هو هذا أن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها.

إذًا هذه المحرمات بجميع أنواعها لا يوجد فيها شفاء ولو قال ذلك قائلون، فهذا كلام المعصوم -عليه الصلاة والسلام.

ثم هنا ذكر المعيار في باب الحلال والحرام في غير ما ورد فيه النص، أنه يُنظر في المنافع والمضار، ولا يوجد كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في هذه الحياة الدنيا منفعة ولذة خالصة من كل وجه[9]، يعني: لا يشوبها مفسدة، كما أنه لا يوجد مفسدة خالصة من كل وجه، وإنما يوجد منافع يشوبها شيء من المضار لكن العبرة بما غلب، على سبيل المثال اللحوم الأطباء يقولون: حينما يُكثر الإنسان من اللحوم يوجد شيء من الأثر والضرر سواء كانت اللحوم الحمراء أو غير ذلك، لكن هل هذا يعني أنها محرمة؟

الجواب: لا، فإن المنافع التي فيها غالبة، وهكذا ما ذكره صاحب المراقي في العِنب قد يزرعها بعضهم من أجل الخمر يأخذ العنب من أجل أن يُخمر، وكذلك الفواكه، فما حُرمت من أجل هذا؛ لأن هذه مفسدة محصورة محدودة في مُقابل الانتفاع الكبير الواسع لهذه الفواكه.

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغربِ[10]

يعني: ما أفتى العلماء بالتحريم، تحريم العنب مثلاً مع أنه يُعصر منه الخمر، فالعبرة بما غلب.

وهكذا ذكروا أمثلة قالوا: اختلاط الرجال والنساء في البلد الواحد، قد يحصل أن هذه تلقى هذا ولربما تكون علاقة محرمة معه هذه مفسدة، لكن ما قال أحد من أهل العلم في عصر من العصور بأنه يجب عزل الرجال عن النساء في البلد الواحد، بمعنى: أن الرجال يسكنون وحدهم والنساء يسكن وحدهن، ويوضع حصن على النساء لا يصل إليهن أحد، ما أحد قال هذا؛ لأن تلك المفسدة المتوقعة محصورة محدودة في مقابل المنافع العظيمة التي تحصل من اجتماع الرجل بأهله وذويه من محارمه ونحو هذا، فهذا مع أهله وهذا مع أهله وهذا مع أهله وهكذا يكّون المجتمع، فهنا أُهدرت المفسدة القليلة المُحتملة، فما لم يرد فيه النص يُنظر فيه إلى ما غلب، فإذا غلبت المفسدة فإن ذلك يُقال: إنه محرم، وما غلبت فيه المنفعة والمصلحة فإنه يكون مُباحًا فإذا استوت المصلحة والمفسدة كان ذلك موضع اجتهاد.

كذلك أيضًا في قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، هذا من حيث الجملة لكن ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله، أنه إذا لم يجتمع التمييز واللذة فهو إما صحو بلا لذة[11]، تمييز العقل يعني، وإما لذة بلا عقل، ففي هذه الحال بالنسبة لأهل الإيمان أن المُترجح هو التمييز والعقل على تلك اللذة التي في الخمر، فيقول أهل الإيمان: العقل والصحو هو المصلحة في حقهم، لكنه ذكر الكفار الذين يقتلون النفوس ويأخذون الأموال وينتهكون الأعراض يقول هؤلاء اللذة وذهاب العقل بالنسبة إليهم أفضل من الصحو؛ لأن هؤلاء إذا صحوا قتلوا النفوس وأخذوا الأموال، ولهذا مر -رحمه الله- مع طائفة من أصحابه على قوم من التتر يشربون الخمر، فوقف بعض أصحابه يُريد الإنكار فأمرهم شيخ الإسلام -رحمه الله- أن يمضوا وقال: " إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم"[12]، لا لأن الخمر مُباحة ولكن باعتبار النظر في ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما.

فأحيانًا قد يكون إنكار المُنكر سببًا لمفسدة أعظم فيُترك إن لم يمكن نقله إلى المعروف فيُترك على حاله، مثلاً: هذا الإنسان الذي لربما يقضي وقته في أمور تُضيع عليه الزمان وقد تورث الشحناء والبغضاء بلعب الورق ونحو ذلك يقضي ليلاً طويلاً حتى فروع الصبح فمثل هذا إذا ترك ذلك أين سيذهب وبماذا سيقضي وقته، فإذا كان سيقضي وقته بمفاسد وأذى الناس وتتبع أعراض الناس والعدوان عليهم فمثل هذا يُقال: الإنكار عليه غلط، فهو يشتغل بهذا أفضل من أن يذهب ويُفسد في الأرض، فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرأ المفاسد.

ويؤخذ من هذه الآية: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، والتعبير بـ"في" يدل على أن الإثم متوغل في الخمر والميسر، فهو مُتغلغل فيهما، هو داخل فيهما دخولاً بحيث لا ينفك عنهما بحال من الأحوال، وهذا يدل على شدة تعلق الإثم بهما، فذلك من التعبير بالظرفية "في" حرف يدل على الظرفية.

كذلك أيضًا تنكير الإثم: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ، فهذا يدل على شدته وعِظمه وفداحته ووصفه أيضًا بالكبير، فدل على أن هذا الأمر من شرب الخمر والمُقامرات بجميع أنواعها أن هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية العناية بباب المصالح والمفاسد فهذا هو حقيقة الفقه في الدين، فليس الفقيه هو الذي يعرف الحلال من الحرام من غير تمييز بين المصالح والمفاسد، وإنما الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين عند التزاحم وشر الشرين، يعني: حتى قاعدة درأ المفاسد مُقدم على جلب المصالح هذه ليست على إطلاقها، أحيانًا تُقدم المصالح على درأ المفاسد، وذلك أن المفاسد والمصالح المتعلقة بالضرورات والحاجيات والتحسينيات مُتدرجة، يعني: أعلى الضروريات وهي خمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، بهذا التدريج.

فإذا كانت المصلحة تتعلق بالدين والمفسدة تتعلق بالمال مثلاً وكل ذلك من الضروري فهنا لا نقول: درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة، نقول: جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله تذهب فيه النفوس وتُبذل في سبيله الأموال، فهذا ذهاب للنفوس والأموال ويكون شهيدًا، وتُبذل الأموال في هذا السبيل وتكون نفقة في سبيل الله وهي من أنفع وأجل وأعظم النفقة، فذهاب النفوس والأموال في سبيل تحقيق مصلحة وهي إعلاء كلمة الله فصار جلب المصلحة مقدم على دفع المفسدة، فهذه القاعدة: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، صحيحة في حالتين: فيما إذا استوت في المرتبة المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أعلى درجة من المصلحة، -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق، برقم (2574)، والترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرهان والسبق، برقم (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب السبق، برقم (3585)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7498).
  2. تفسير الطبري (3/ 676).
  3. تفسير ابن كثير (2/ 308).
  4. تفسير ابن كثير (2/ 309).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر والبسر والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980).
  6. تفسير القرطبي (3/ 52).
  7. مجموع الفتاوى (21/ 570).
  8. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (7509)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (9714)، وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (7/ 110)، كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (10/ 79)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 175).
  9. انظر: الموافقات (2/ 360).
  10. نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266).
  11. الاستقامة (2/ 165).
  12. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 13)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 207).

مواد ذات صلة