بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221].
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، يعني: ولا تتزوجوا المؤمنات عابدات الأوثان حتى يدخلن في الإسلام، واعلموا أن امرأة مملوكة لا مال لها ولا حسب لكنها مؤمنة بالله خير من امرأة مشركة وإن أعجبتكم تلك المشركة الحرة كما قال بعض المفسرين باعتبار أن الأمة هي المملوكة، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.
وبعضهم يقول: إن الأمة هنا بمعنى المرأة، فالناس إماء الله -تبارك وتعالى، وَلَأَمَةٌ يعني: امرأة مؤمنة، خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تزوجوا نساءكم المؤمنات سواء كن من الإيماء أو الحرائر للمشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله ﷺ، واعلموا أن عبدًا مؤمنًا مع فقره خير من مشرك وإن أعجبكم المشرك، أولئك يعني المتصفين بالشرك رجالاً ونساء يدعون إلى النار، يدعون من يُخالطهم ويُعاشرهم أو يُصغي إليهم يدعونه إلى النار وما يؤدي إليها، والله -تبارك وتعالى- يدعوا عباده إلى دينه الحق وطاعته وما يؤدي بهم إلى الجنة ومغفرة الذنوب بإذنه، ويُبين آياته وأحكامه للناس؛ لكي يتذكروا فيعتبروا.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، هذا نهي والنهي يدل على التحريم، أنه لا يجوز تزوج المشركة، وأرجح أقوال المفسرين والفقهاء أن هذه الآية المشركات أل للجنس أنها مُخصصة بآية المائدة، وذلك أن الله أحل نكاح الكتابيات، نساء الذين أوتوا الكتاب، فهي مُخصصة لهذه الآية، والعموم فيها مع العلم بأن الكتابيات من جملة المشركات، فالكتابيات هن اليهوديات أو النصرانيات، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة:30]، فهم مشركون ولكن قد يُطلق الإشراك والمشركون ويُراد به عبدة الأوثان خاصة، فسواء قيل: المراد بذلك عبدة الأوثان خاصة بهذا الإطلاق أنه من العام المراد به الخصوص، أو قيل: إنه من العام المخصوص يعني المخصوص بغيره وذلك في آية المائدة، هذا الذي عليه الجمهور من أهل العلم، إلا قول من قال بأن هذه الآية من سورة البقرة ناسخة لما ورد في آية المائدة وهذا بعيد، فإن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، وسورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، ولهذا قالوا: ليس فيها منسوخ مع أن هذا ليس على إطلاقه.
وبعضهم يقول: إن آية المائدة نسخت هذه الآية، والواقع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال فليس هنا ناسخ ولا منسوخ وإنما عام وخاص -والله تعالى أعلم.
وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، فالغاية هنا هي الإيمان، والحكم المعلق بعلة يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجد الإيمان وجد الحِل، ومتى انتفى الإيمان انتفى الحِل.
وكذلك أيضًا هنا قال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، سواء قيل: بأن الأمة هنا المقصود بها المملوكة، أو قيل: بأن المقصود بها المرأة عمومًا، فالمؤمنة خير من المشركة ولو أعجبتكم، فهذا عام في المؤمنات سواء كانت مملوكة أو كانت حُرة فهي خير من المشركة ولو أعجبتكم، ولو أعجبتكم في أوصافها بحسبها ونسبها ومالها، وجمالها، وقدراتها، وإمكاناتها، وحذقها، وعقلها، وذكاءها، أو لما لها من الملكات من حُسن تدبير، أو حُسن صوت، أو غير ذلك، فهذا كله ليس بشيء أمام هذا الوصف المعتبر الذي هو الإيمان.
فهذا كلام الله -تبارك وتعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، ولو أعجبتكم بمواصفاتها المتنوعة المختلفة التي يتمايز بها الناس، وتجذبهم، وهذا كما يُقال في باب الزواج إلا أنه يؤخذ أيضًا من العموم في قوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، أن يُقال هذا في غيره أيضًا، فإذا أراد الإنسان أن يأتي بعاملة تعمل عنده في بيته مثلاً فكثير من الناس ربما يؤثر المشركة ويقول إنها أكثر اجتهادًا وعملاً وبذلاً وتفانيًا بل لربما قال: وأمانة من المسلمة.
وهذا الكلام غير مقبول، وغير صحيح، يوجد في المسلمين وفي غيرهم من التقصير لكن أولئك لا ذمة لهم، ولا أمانة، ولا خوف من الله -تبارك وتعالى- فهي تفعل كل شيء من الفواحش، والسحر، والقتل والسرقة؛ لأنها لا تخاف الله، ثم ومهما يكن فإن هذه المؤمنة التي آمنت بالله ورسوله مع ما يوجد عندها من التقصير فهي أفضل من ملأ الأرض من تلك الحاذقة التي لا تعرف الله -تبارك وتعالى، فالمعيار والمقياس والميزان عند الله هو المنصوص في هذه الآية الكريمة، وقل مثل ذلك فيمن يأتي بمرضات أو فيما يُناط به من التكاليف والأعمال قد يؤثر الكافرة على المؤمنة بحجة أو بأخرى، فيكفي في ذلك قول الله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، فهذا هو الواجب.
وكذلك أيضًا هنا قال الله -تبارك وتعالى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، قال قبله: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، ففي نكاح المشركات قال: وَلا تَنكِحُوا، لأن الرجل هو الذي يتزوج وهو الذي يملك أمره وأما المرأة فلما كانت لابد من ولي في نكاحها والنبي ﷺ يقول: أيا ما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[1]، لهذا لم يقل: ولا تنكحن المشركين حتى يؤمنوا، هناك في الرجال قال: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، هنا لا، هنا قال: وَلا تَنكِحُوا، ولا تُنكِحوا أيها الأولياء، ولا تنكحوا المشركين يعني لا تزوجوا المشركين حتى يؤمنوا، فالمرأة المسلمة لا يجوز بحال من الأحوال أن يتزوجها المشرك، وكذلك أيضًا الكتابي لا يجوز أن يتزوج المرأة المسلمة؛ لأنه ليس بكفؤ لها، والكفاءة في الدين معتبرة، والله -تبارك وتعالى- قد قطع هذا السبيل وهذا النكاح وقال: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [سورة الممتحنة:10]، هذا بالنسبة للمشركات التي تحت يده مع أن القاعدة أن الاستدامة أسهل من الابتداء، يعني: كونه ينكح مشركة ابتداء لا يجوز، ومن كان تحت يده مشركة أسلم وتحت يده مشركة يؤمر بمفارقتها إلا أن تكون كتابية، فهنا لا يُقال: إن الاستدامة أسهل من الابتداء فهذا خارج عن هذه القاعدة لوجود النص.
وكذلك أيضًا المُهاجرات التي يأتين من المشركين أمر الله بامتحانهن: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة:10]، وجاء بها بهذه الصيغة من الجهتين، أنها لا تحل له وكذلك هو لا يحل لها، فهذا كله سواء كان في أهل الكتاب أو في غيرهم المرأة المسلمة لا يجوز أن يتزوجها غير المسلم أيًا كان دينه.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية عمومًا أن المؤمن خير من المشرك وهذا أمر لا إشكال فيه ولو كان في المشرك من الأوصاف من العقل والفطنة والاختراع والقوة البدنية وغير ذلك ولو كان فيه ما فيه، ولو كان هذا المؤمن من أضعف الناس عقلاً وتدبيرًا ومن أفقرهم وممن لا يملك مهارات ولا قدرات ولا قوى ولا غير ذلك، فالعبرة أولاً بالإيمان وبه يحصل التفاضل، كذلك أيضًا كما قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [سورة المائدة:100]، فلا شك أن المؤمن طيب وأن المشرك خبيث.
وكذلك أيضًا تفاضل الناس في أحوالهم أيضًا: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.
وكذلك أيضًا يؤخذ من تنكير الأمة والعبد: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، فهذا فيه مُبالغة في النهي عن تزويج المشركين، أو تزوج المشركات وهذه اللام تفيد التوكيد وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ، تُشبه لام القسم.
ثم بين العِلة في ذلك قال: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، يدعون إلى النار بأقوالهم وبأفعالهم وبأحوالهم فمخالطتهم من يُخالطهم كما يقول الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله[2] على خطر منهم، فهم يوجهون إليه الدعوة مُباشرة، وكذلك أيضًا أفعالهم وأحوالهم وتصرفاتهم كل ذلك يدعوا إلى النار، وهذا خطر أخروي، ويؤدي إلى الشقاء الأبدي.
ويؤخذ من هذا التعليل من هذه الآية كما يقول الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- النهي عن مخالطة أهل الإشراك والبِدع، والمقصود بذلك المُعاشرة؛ لأن الزواج هو أعظم العِشرة فإذا لم يجز التزوج مع ما فيه من المصالح المختلفة فالخُلطة من غير ذلك من باب أولى، يقول: "وخصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المُشرك ونحوه على المسلم[3].
والمقصود أن هذه الآية يؤخذ منها أنه ينبغي أن تُعاد الأمور إلى نصابها وأن تكون الموازين موازين شرعية كما قرر الله -تبارك وتعالى، وكذلك يكون المؤمن دائمًا على حذر مما يضر آخرته، ليست القضية أن يبحث عن مصالح دنيوية ويغفل عن الخطر الذي يرجع على دينه من مخالطة هؤلاء المشركين، ومن إيثار هؤلاء أهل الإشراك على أهل الإيمان، فهؤلاء يكفي أنهم يدعون إلى النار، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:221]، فهذا من بيانه -تبارك وتعالى، وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221]، فيعقلون عن الله -تبارك وتعالى- ما ينفعهم ويرفعهم، ويحصل لهم التذكر وترتفع عنهم سُحب الغفلة.
هذا -والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وأحمد في المسند، برقم (24372)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة، وهو عبد الله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1817).
- انظر: تفسير السعدي (ص:99).
- تفسير السعدي (ص:99).