الأحد 15 / جمادى الأولى / 1446 - 17 / نوفمبر 2024
(174) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ..} الآية:218
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 956
مرات الإستماع: 1256

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:218]، إن الذين آمنوا: أقروا وأذعنوا وصدقوا وانقادوا بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم، والذين هاجروا: بمفارقة ديارهم لله، وفي الله، وجاهدوا في سبيل الله: لإعلاء كلمته ونصر دينه، أولئك يرجون رحمة الله: أولئك يطمعون في رحمة الله -تبارك وتعالى- وفضله وثوابه، والله غفور رحيم: غفور لذنوب العباد يسترها، وهو الذي يقي العباد من تبعاتها وجرائرها، وهو رحيم يُنزل ألطافه ويُدخلهم جنته ويرزقهم رزقًا حسنًا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:218]، هنا لم يقل: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فلم يأت بالعطف مُجردًا وإنما أعاد الموصول مع الأوصاف المذكورة بعد الإيمان، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:218]، فهذا يُفيد معنى وهو تعظيم هذه الأعمال، حيث لم يذكرها معطوفة على الإيمان بمجرد العطف وإنما أعاد الموصول معها، وَالَّذِينَ هَاجَرُوا، فهذه الأعمال لعِظمها ومنزلتها كأنها تستقل في تحقيق الرجاء، أو يُقال بأن ذلك باعتبار أن الإيمان هو الأصل وهذه فروع عنه فأعاد الموصول ثانية -والله تعالى أعلم.

كذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى- بعد هذه الأوصاف: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: أُوْلَئِكَ [سورة البقرة:218]، أشار إليهم بالبعيد لعلو مرتبتهم ورفعة منزلتهم.

كذلك أيضًا ذكر الرجاء بعد هذه الأوصاف العظيمة الكاملة: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:218]، فكما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله[1] بأن من رجا شيئًا استلزم رجاءه ثلاثة أمور:

الأول: محبة ما يرجوه.

الثاني: الخوف من فواته.

الثالث: السعي في تحصيله بقدر الإمكان.

أما الرجاء الذي لا يُقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، رجاء ليس معه حرص ولا بذل جهد، ولا محبة تحقيق هذا المطلوب المرجو، ولا الخوف من فواته، ومن غير سعي في طلبه وتحصيله، فهذا يعتبر مجرد أماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، والواقع أن كل راجٍ فهو خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات، الإنسان يرجو أن يُدرك مطلوبًا فسافر إليه وهو يخشى أن يفوت هذا المطلوب فهو يُسرع ويحث السير، وهو حريص غاية الحرص على تحققه وحصوله، فتأمل كيف جعل رجاءهم بالإتيان بهذه الأعمال الجليلة، الإيمان والهجرة والجهاد، وبهذا نعلم أن الرجاء وحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- إنما يكون مع الإتيان بالأسباب المطلوبة أسباب النجاة فيأتي العبد بها، ويسعى جاهدًا في تحقيقها، ثم بعد ذلك هو يُحسن الظن بربه -تبارك وتعالى- ويرجوه أن لا يكله إلى شيء منها وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ويصرف عنه ما يُعارضها ويُبطل أثرها كما يقول الحافظ ابن القيم في "الجواب الكافي"[2].

فهذا هو الرجاء مع حسن الظن، الإنسان يُحسن الظن بربه إذا أحسن العمل، أما إذا أساء وضيع حقوق الله -تبارك وتعالى، وانتهك حدوده فهذا لا محل لإحسان الظن معه.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية من قوله: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:218]، بعد هذه الأعمال الثلاثة العظيمة أن العبد لا يجزم بقبول عمله، أو أن يحكم بنجاته، وإنما يعمل ويجد ويجتهد ثم يكون بعد ذلك راجيًا ويُحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- أنه لا يُضيع عمله وسعيه وطاعته وإيمانه، أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ، فهذا يدل على أن هؤلاء أبعد ما يكون الواحد منهم من العُجب بالعمل، ومن أيضًا المقاصد السيئة الرياء والسمعة ونحو ذلك.

كذلك أيضًا أن هؤلاء لا يغترون بأعمالهم الصالحة، كما أنهم غير مُدلين على الله -تبارك وتعالى- بها، يعني: الواحد منهم لا يستشعر أنه مُتفضل على ربه بالاستقامة والطاعة، وإنما يستشعر فقره وحاجته، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي هداه ووفقه وأعانه على ذلك كله، فيرجو أن يقبل الله -تبارك وتعالى- ذلك منه، وفي هذا أيضًا أن العبد مهما عمل من الأعمال الصالحة وبذل في مرضاة الله -تبارك وتعالى- فإنه لا ينبغي أن يعتمد عليها، لا يعتمد على هذا فالنبي ﷺ أخبرنا: إنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته[3]، فالعمل الصالح سبب، ولكن لا يستقل هذا السبب بدخول الجنة، فيكون العبد مع الجد والاجتهاد والعمل الصالح راجيًا للقبول ومغفرة الذنوب، وستر العيوب.

كذلك أيضًا هذا الثناء عليهم والوصف الذي وصفهم به أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:218]، مع أنه أثنى عليهم ومدحهم بالإيمان والهجرة والجهاد، فيبقى بعد ذلك الرجاء وذلك أن الإنسان لا يدري بما يُختم له، وإنما الأعمال بالخواتيم، وكذلك أيضًا: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ، من أجل ألا يتكل الإنسان على عمله وطاعته وعبادته فهذا كله يؤخذ من هذه الآية الكريمة.

وإذا كان هذا يعني أصحاب هذه الأعمال الجليلة يقول: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:218]، فماذا يقول المُضيع المُفرط الذي يجد ويجتهد في معاصي الله -تبارك وتعالى- ومساخطه ماذا يرجو مثل هؤلاء، إذا كان هؤلاء أصحاب الأعمال العظيمة يرجون رحمة الله، يعني: هؤلاء هم أصحاب الرجاء الصحيح، وليس الواحد منهم بجازم بمصيره ونهايته وقبول عمله مع هذه الأعمال، كما قال الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60]، ويخاف أن لا يُقبل منه، فأين هذا من ذاك الذي قد أيقن أنه قد قُبل عمله وأنه قد تحققت فيه الهداية فهو يتساءل من الحاجة لصيام مثلاً عاشوراء وقد صام عرفة وهو يُكفر سنة ماضية وسنة آتية، عرفة يُكفر سنتين[4].

إذن لماذا نصوم عاشوراء، هذا خلاف هذه الآية تمامًا، هذا قد جزم وأيقن أنه قُبل، وأنه قد تحقق الأثر أيضًا من غفران الذنوب الماضية والمتقدمة في سنة آتية، لكن هؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- ليسوا كذلك إطلاقًا، وبهذا تعرف الجواب عن مثل هذا الإيراد والسؤال بأن هذا السؤال في غير موضعه إنما يصدر عن نفس مغترة بالعمل قد ضمن النجاة في زعمه، وذلك قد يكون سببًا لحصول ووقوع ما لا يحتسب عند الله -تبارك وتعالى، فالعبد دائمًا يبقى بين الخوف والرجاء، بل قال كثير من أهل العلم: أنه في حال الصحة والقوة والعافية والنشاط يُغلب جانب الخوف ليكون الخوف رادعًا له عن مُقارفة ما لا يليق، فإذا كان في حال الاحتضار فإن يُغلب جانب الرجاء من أجل أن يموت وهو مُحسن الظن بربه -جل جلاله وتقدست أسمائه.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، والختم فيها جاء هكذا وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ما قال: والله يغفر لهؤلاء وإنما ذكر هذين الاسمين الكريمين إشارة إلى أن هؤلاء أهل المغفرة والرحمة، وأنهم قريبون منها، قريبون من مغفرة الله ورحمته -والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:39).
  2. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:39).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (1162).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، برقم (1162).

مواد ذات صلة