بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات مما قصه الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة "البقرة" من خبر بني إسرائيل حيث طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله، وأنهم تراجعوا مرة بعد مرة.
قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، هؤلاء هم الخُلاصة، هم الصفوة الذين ثبتوا لما برزوا لجالوت وجنوده، ظهروا وواجهوهم ورأوا صفوف المقاتلين عيانًا عندها تضرعوا إلى الله -تبارك وتعالى- قائلين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا [سورة البقرة:250]، صُب علينا الصبر، أنزل علينا الصبر، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا في أرض المعركة فلا نفر، وَانْصُرْنَا بتأييدك على القوم الكافرين.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات ما ينبغي لأهل الإيمان من الضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- ودوام الاتصال به، فالمؤمن لا يستغني عن ربه طرفة عين، فهو بحاجة إلى ألطافه ومدده وعونه ونصره أن يقويه، أن يمده بمدد منه، وإلا فإن العبد يضيع ويصير إلى هلكة محققة وإلى زوال وتلاشى، وإذا كان في ميدان المعركة فإذا تخلى الله عنه كانت الهزيمة حليفة، والخذلان قرينه، فهنا الاتصال بالله : رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.
كذلك أيضًا فإن ذلك يعني خروج الإنسان عن حوله وطوله وقوته فلا ينظر إلى إمكانياته وقدراته ومهاراته وآلاته والعدد الذي ينظم إليه، وإنما يلجأ إلى الله يسأل ربه -تبارك وتعالى- النصر والعون والمدد وأن يُفرغ عليه الصبر، أما إذا التفت المقاتلة إلى أنفسهم وإلى قواهم وقُدرِهم وأعدادهم فإنهم ينهزمون، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [سورة التوبة:25]، لكن في المقام الآخر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123]، غير مستعدين للمعركة ليس معهم كبير سلاح وعتاد، ولا مراكب كثيرة، ولا عدد كثير وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فالنصر كما قال الله : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126]، بأقوى صيغة من صيغ الحصر، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126]، لا يكون النصر من غيره.
إذًا على الأمة أن تتحقق بأسباب النصر، أن تُراجع نفسها، تُراجع عملها، أن تُراجع النيات والمقاصد، أن يكون الناس على حال من الاستقامة والطاعة فهنا لا يقف أمامهم أحد، إذا كانوا مجتمعين كما في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103]، وكما قال الله : وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، مباشرة نتيجة التنازع هي الفشل، وذهاب الريح والقوة.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة منزلة الصبر، طلبوا ماذا؟ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، والصبر جاء هنا مُنكرًا وذلك والله أعلم يُشعر بالتعظيم، أفرغ علينا صبرًا عظيمًا يحصل بنا به الثبات والقوة والغلبة على هؤلاء الأعداء.
كذلك هذه الأمور التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- على هذا الترتيب أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، إفراغ الصبر أولاً فإن من لا يصبر لا يحصل له الثبات وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، فتثبيت الأقدام يكون نتيجة للصبر، فسألوا الصبر أولاً الذي هو الأصل والأساس، ثم بعد ذلك تثبيت الأقدام ثم بعد ذلك جاء الترقي إلى النصر؛ لأن النصر يحصل بمجموع ذلك، فلا يحصل النصر لمن لا صبر له، ولا يكون النصر حليفًا لمن لا ثبات له في أرض المعركة، وهكذا أيضًا حينما يكون المطلوب عند مواجهة الأعداء الصبر وفي سائر المقامات التي يحصل بها الضعضعة والاضطراب حينما يهتز الإنسان وهو بحاجة إلى صبر، إذا اُبتلي يحتاج إلى صبر أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.
وقد تتابع على الناس البلايا والمصائب وتأتيهم تترى في أنفسهم وأهليهم وأموالهم وما إلى ذلك، فيُكثر الإنسان من الدعاء بذلك أن يزرقه الله الصبر، فهذا رُكن ركين لابد من تحققه، وهكذا أيضًا ما يحصل به الثبات فهو مطلوب وذلك يكون سببًا من أسباب النصر وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
هذه الأمور المذكورة ينبغي أن يتذكرها المؤمن دائمًا، وأن لا يغفل عنها لاسيما في حال الشدة والحرب والقتال ونحو ذلك، في مقامات الشدة لا يذكر سوى الله -تبارك وتعالى- لم تلتفت قلوب هؤلاء يمنة ولا يسرة، لم يلجئوا إلى مخلوق فيُخذلوا وإنما ألقوا بحاجتهم وتوجهوا بفقرهم إلى ربهم ومليكهم ومولاهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، فأهل الإيمان لا يلتفتون في مثل هذه المقامات لا تتلفت قلوبهم إلى أحد من المخلوقين رَبَّنَا.
وكما ذكرنا من قبل في دعاء الأنبياء في القرآن أنه يكون بهذا الاسم الكريم رَبَّنَا غالبًا، وقلنا بأن ذلك والله أعلم من معاني الربوبية العطاء والمنع والمدد والنصر والنفع والدفع كل هذا من معاني الربوبية، ماذا تطلب ماذا تريد؟! قل يا رب، يا رب، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، أجابهم مباشرة: فَإِنِّي قَرِيبٌ، هناك إذا سألك عبادي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ لكن فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186]، يستجيبون بالطاعة والإيمان والعمل الصالح، وترك مخالفته ومعصيته.
ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، فهزموهم، لما كانوا بهذه المثابة واللجوء إلى الله والتوكل عليه وطلب المدد منه فهزموهم بإذن الله وقتل داود ملك الكفار جالوت، وأعطى الله داود بعد ذلك الملك والحكمة التي هي النبوة وعلمه مما يشاء من العلوم كما قال الله : وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [سورة الأنبياء:80]، صناعة الدروع، إلى غير ذلك من العلوم الدنيوية والعلوم الدينية.
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:251]، يُدفع بأهل الإيمان والطاعة أهل النفاق والمعصية، أهل الكفر والضلال، يُدفع هؤلاء بهؤلاء، يُدفع أهل الإيمان بأهل الإشراك، وإلا لفسدت الأرض بغلبة الكفر ولعم الكُفر والشر أرجاء المعمورة ولكن الله يُدافع هؤلاء بهؤلاء، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وتمكن الضلال وعمت الشرور: وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، بهذا الدفع وأن هيأ هؤلاء، وأن الكفر لم يعُم أرجاء الأرض.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن من صدق الله وأحسن الظن بربه -تبارك وتعالى- ولجأ إليه فالله ناصره، فهؤلاء لما قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، خرجوا من حولهم وطولهم وقوتهم، والتجأوا إلى الله وابتهلوا إليه، وتضرعوا كما تضرع النبي ﷺ في يوم بدر حتى سقط عنه رداءه يُناشد ربه[1]، وهو أكمل الأمة إيمانًا وأعظمهم يقينًا ومنزلة عند الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك بهذه الضراعة فماذا يقول غيره إذًا.
لاحظوا هنا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فالفاء هذه تدل على التعليل وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها: فَهَزَمُوهُمْ يعني: لما كانوا بهذه المثابة لما قالوا هذه المقالة هزموهم، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وهكذا أيها الأحبة فإن الركون على النفس وإلى ما يملكه الإنسان ويحويه ويحوزه من القوة وما يكون معه من العدد والعُدد وما إلى ذلك يكون سببًا إلى خذلانه، هؤلاء في البداية قالوا: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [سورة البقرة:246]، ثم بعد ذلك حصل منهم التراجع، لكن الفئة القليلة الذين قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، ولم يلتفتوا إلى شيء آخر، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:251]، فهنا أنه قدم الملك على الحكمة، والحكمة فُسرت بالنبوة والنبوة أعلى مرتبة من المُلك، وذلك كما قال بعض أهل العلم باعتبار أن ذلك للترقي، قتل داود جالوت فكان سببًا لعلو مرتبته فعُرف وذاع صيته وحصل له بسبب ذلك المُلك ثم أعطاه الله ما هو أعظم من المُلك وهي النبوة، فحصل له هذا الترقي بالتدريج بهذه الطريقة.
ثم أيضًا وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [سورة البقرة:251] هذا يدل على أن الأنبياء لا علم لهم، الملائكة قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، وهكذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فإن نوحًا قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:47]، بعد أن قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [سورة هود:45]، فبين الله له أنه ليس من أهله يعني أنه ليس من أهل الإيمان.
وكذلك أيضًا إبراهيم جاءه الأضياف من الملائكة على صورة بشر فذبح عجله، وصنع الطعام، وأتعب أهله، وجاء بالطعام ووضعه بين أيديهم فأوجس منهم خيفة حينما لم يطعموا من طعامه، وهو لا يدري أنهم ملائكة حتى أعلموه وهو خليل الرحمن، وكذلك لوط قال لهم كلامه الذي يعتذر به: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80]، حتى أعملوه فقالوا: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [سورة هود:81]، وما كان يدري أنهم ملائكة، وكان يقول لقومه: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [سورة هود:78]، فلا يعلم الغيب إلا الله، والأنبياء لا يعلمون إلا ما علمهم الله فكيف بمن دونهم ممن يُدعى لهم الولاية، فهذا لا يصح بحال من الأحوال، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم الإنسان إلا ما علمه ربه -تبارك وتعالى.
وهذا يُورث أيضًا التواضع لله، أن الإنسان كلما ازداد علمًا في أي لون من ألوان العلوم ازداد إخباتًا وتواضعًا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، أشياء مادية: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، أسماء الأشياء، كأس، وقِدر، ونحو ذلك، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33]، فهذه أسماء الأشياء كلها، الأشياء التي عرضها على الملائكة، فإذا كان الملائكة يقولون ذلك فكل صاحب علم ينبغي أن يقول ذلك: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، كيف والعلوم الشرعية التي تدل على الله وتُعرف به، تُعرف بالطريق الموصل إليه، والدار التي يصير الناس إليها، هي أولى العلوم، أن ينكسر صاحبها وأن يُخبت لله، لا أن يتكبر ويتعالى على الناس، ويتعاظم ويصيبه العُجب بسبب هذا العلم ويصير من أهل الزهو والترفع، هذا لا يليق بحال من الأحوال، كل ما ازداد علمًا ازداد تواضعًا وإخباتًا لربه وخالقه ، والله يقول: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113]، وقال: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [سورة الضحى:7]، وقال: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [سورة الشورى:52]، فالله هو الذي يمُن على عباده.
ثم أيضًا هنا هذا الخروج من الحول والطول ثم ما يعقب ذلك من النصر لهؤلاء أهل الإيمان كل ذلك يجعل المؤمن مع قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [سورة البقرة:251]، يجعل المؤمن لا يركن إلى نفسه ويثق بها الثقة المذمومة.
الثقة بالنفس نوعان: نوع تبعث الإنسان على الإقدام والمبادرة والعمل والنهوض بالمهام فلا يكون هذا الإنسان عاجزًا متوانيًا ضعيفًا جبانًا خوارًا لا يثق بنفسه فلا يستطيع أن يتكلم في مجلسه أو عند أضيافه، أو لا يستطيع أن يستقبل أحدًا ولا أن يلقى الناس فهذا غير محمود هذا ضعف، لكن الثقة الأخرى التي يذكرها بعض من يتحدثون في هذه البرامج والدورات التي يقولون: بأنها في بناء النفس، وما إلى ذلك، يتحدثون عن الثقة أحيانًا بحديث فيه مُبالغة، يعني: كأن الإنسان يُطلق العملاق فيتحول إلى إله، إلى قوة لا تُقهر، وهذا مذموم، وبعض من يتكلمون عن هذه الأشياء يذكرون هذا عن أنفسهم، ويذكرونه لغيرهم، ولو وقع لأحد منهم أدنى الأشياء لكان أعجز الناس.
ومن الطرائف أن أحدهم كان يُحدثه مُحدثه من هؤلاء بكلام طويل في مجلسه عن هذه القوة، وهذا العملاق الذي ينبغي أن يُطلق في النفس، ويقول: أنا أستطيع أن أرفع هذا البيت فلما خرج ووجد سيارته وجد الإطار قد نزل واحتاج إلى تغييره فجاء كالمعتاد بهذه الرافعة يرفع وبقوى ضعيفة، وإمكانيات ضعيفة، فقال له: أطلق العملاق وارفع السيارة وغير هذا الإطار لا تحتاج إلى رافعة ولا تحتاج إلى هذه الجهود التي يحتاج إليها ضعفاء الناس.
فهؤلاء يتكلمون في خيالات، يجعلون من الإنسان كأنه إله، قوة لا تُقهر في هذا الكون، وهذا الكلام غير صحيح، وينبغي على المؤمن أن يحذر من مثل هذا وإنما يتبرأ من حوله وطوله وقوته، كذلك أيضًا كما يقول الألوسي: "فيه فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم"[2]، ولهذا قيل الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أُس والملك حارس، وما لا أُس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.
وكذلك أيضًا في هذه الآية الخبر عن سنة كونية: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:251] فيدفع بأهل الإيمان صدور الكفار على مر الدهور، ولولا الله حيث رحم العباد فدفع هؤلاء بهؤلاء لعم الشر والفساد، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "ولو أمرنا كل ولي مقتول ألا يقتص من القاتل، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه، بل يدعه على اختياره، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم، وظلم الأقوياء الضعفاء، وفسدت الأرض"[3]، فلابد من مُدافعة بين الناس.
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، أوجدهم وخلقهم وأوجد فيهم هذه السنن فيحصل في هذا الكون من الصلاح واستقامة الأحوال ما لا يُقدر قدره فهذه من نعمه على عباده، ولهذا ذُيلت هذه الآية بعد هذه الوقائع بهذا التذييل وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، فهذا التدافع الذي يحصل بين هؤلاء إلى أن انتهى بقتل جالوت وغلبة أهل الإيمان وما إلى ذلك، ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله: "من رحمته وسنته الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها"[4].
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة البقرة:252]، تلك حُجج الله وبراهينه نقُصها عليك بالصدق وإنك لمن المرسلين الصادقين.
فهذه جملة من التأكيدات في هذه الآية: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ [سورة البقرة:252]، إن هذه تفيد التوكيد، وكذلك لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وما قال أيضًا: وإنك لرسول الله، ردًا على المُنكرين لرسالته كأنه يقول: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9]، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، أنت من جملة رُسل عِظام كرام مروا عبر التاريخ، هذا -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم (1763).
- تفسير الألوسي (روح المعاني) (1/ 564).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 105).
- تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن) (ص:109).