بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من هذه الآية الكريمة التي هي أعظم آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- وهي آية الكرسي.
لما قال الله -تبارك وتعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، قال بعدها: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255]، فالقلوب متعلقة بمن يرزقها ويحقق مطالبها، فذكر أن ما في السماوات وما في الأرض له، فهذا الذي ينبغي أن يُعبد ويوحد ويُطاع ويُتقرب إليه بأنواع القربات.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فالإله هو الرب فإن الإلهية متضمنة لجميع صفات الكمال، وهذا الاسم الكريم "الله" ترجع إليه جميع الأسماء الحسنى لفظًا ومعنى، فهي تعود إليه وترتبط به فالمألوه هو الذي بيده النفع والضر، والعطاء، والمنع، والرزق هو الرب هو الخالق والبارئ والمصور كل ذلك من أوصاف المعبود المألوه كما في قول إبراهيم : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة العنكبوت:17]، فدلهم على العبودية من هذه الجهة أن مطالبكم أن فقركم وحاجتكم إنما هي عند هذا الإله الذي ينبغي أن يُعبد دون سواه.
وقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بعد قوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255]، له ما في السماوات فهذا عام فكل ما في السماوات والأرض فهو له، ومن جملة ملكه -تبارك وتعالى، وكل من في السماوات والأرض فهم عبيده وخلقه، ومن ثَم فكيف يتوجه العبد إلى عبدٍ مثله يعبده ويتقرب إليه سواء كان إنسانًا أو شجرًا أو حجرًا أو ملكًا أو غير ذلك، كل ما في هذا الكون فهم ملك لله، وهم عبيده، لا يصلحون لأن يعبدوا غيره.
تأمل وأنت تسمع قول الله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أوسع ما يمكن من الأملاك لأهل الأرض، أغنى الناس ماذا يمكن أن يملك من المساحات من الأراضي من الزروع أغنى الناس، ما هي المساحة التي يملكها؟! فالله له ما في السماوات وما في الأرض، السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأفلاك كل ذلك لله -تبارك وتعالى، فملكه واسع لا يمكن للبشر أن يحيطوا به، وسلطانه السماوات والأرض والدنيا والآخرة، وما في أيدي الخلق إنما هو عارية مستردة فهو الذي أعطاهم واستخلفهم في ذلك، ثم بعد ذلك يرث الله -تبارك وتعالى- الأرض ومن عليها، وهذا كله يجعل القلوب متوجهة إليه متعلقة به، مرتبطة به، فيكون خوفها ورجاءها ومحبتها وتوكلها كل ذلك إلى الله -تبارك وتعالى.
وفي قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ تسلية للإنسان فيما قد يفوته من موت محبوب أو ذهاب مال أو نحو ذلك فكل ما في السماوات وما في الأرض هو ملك لله ، كل ما نشاهده وما لا نشاهده هو ملك له، فإن شاء أخذه واسترده، لا معُقب لحكمه ولا راد لقضائه، فالولد عارية، والمال عارية، فإذا أخذه المالك فعندئذ يتسلى الإنسان، ويكون ذلك أدعى لصبره.
كذلك في قوله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، يدخل في جملة ذلك أفعال العباد، فهي مخلوقة لله تعالى بخلاف قول بعض أهل البدع بأن العبد يخلق فعله.
وإذا كان لله ما في السماوات والأرض فينبغي أن يكون شرعه هو المهيمن على العباد فيكون هو المرجع لهم.
وكذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، الشفاعة معروفة يكون بها الفرد شفعًا يعني تقوى بغيره لينال مطلوبه، لجلب نفعٍ أو دفع ضر، فالشفاعة التي تكون عند المخلوقين هذه لا تكون بإذن والمشفوع عنده قد يقبل هذه الشفاعة إما محبة للشافع وإكرامًا له أو يكون ذلك ردًا لبعض صنائعه وأفضاله عليه أو يكون ذلك من باب رد غوائله فيخشى أنه إن رد شفاعته أن يصل إليه منه إساءة فيقبل الشفاعة دفعًا لأذى هذا الشافع، وقد يكون ذلك لرغبة، أو بسبب حياء أو بسبب مودة أو غير ذلك، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[1]، أما الله -تبارك وتعالى- فكل ذلك لا يرد عليه؛ لأن قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يدل على الغنى المطلق، المخلوق لفقره وضعفه وحاجته قد يقبل شفاعة هذا وهذا؛ لأنه قد يحتاج إليهم في يوم ما، أو لأنهم أحسنوا إليه في يوم ما، أو لرد شرهم وكف آذاهم ونحو ذلك، الله له الغنى المُطلق لا يحتاج إلى أحد، والخلق جميعًا في غاية الافتقار إليه، فهنا لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه فهذا يدل على أنه الغني كامل الغنى، العزيز كامل العز.
وفي هذا أيضًا إثبات الشفاعة والرد على نفاتها من أهل الأهواء والبدع كالوعيدية من الخوارج والمعتزلة الذين ينفون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار.
وقوله -تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فهنا هذا الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، وبوقت الشفاعة، فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله -تبارك وتعالى، وفيما أذن الله فيه، فالله يقول: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، وقال: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [سورة يونس:3].
وتأمل قوله -تبارك وتعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [سورة البقرة:255]، هذا فيه رد على غُلاة القدرية الذين ينفون علم الله -تبارك وتعالى- بالأشياء قبل وقوعها، وهذا المذهب أهل العلم يقولون إنه قد انقرض، يعني: القدرية الأوائل كانوا ينفون العلم يقولون الله لا يعلم بوجود الأشياء قبل وقوعها.
فقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ هذا فيه إثبات عموم العلم لله -تبارك وتعالى- فهو يعلم أفعال العباد وأحوالهم وما يصدر عنهم مما كان وما يكون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، و"ما" هذه تفيد العموم بمعنى أنه يعلم كل ذلك مما يكون في السر وما يكون في العلانية وهذا يبعث الإنسان على مراقبة الله -تبارك وتعالى- والخوف منه، ومحاسبة النفس، فلا يصدر عنه من قول ولا فعل ولا حركة إلا وهو مُلاحظ لذلك؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية.
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [سورة البقرة:255]، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وفي الوقت نفسه هم في غاية الجهل فهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فشيء هنا نكرة في سياق النفي: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ يعني لا قليل ولا كثير إلا بما شاء بما أطلعهم عليه وأعلمهم به، فهذا يقتضي أن ربنا -تبارك وتعالى- هو الذي يمُن على من شاء من عباده بالعلم وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [سورة النحل:78].
وقال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:85]، فالذي آتانا هو الله وهذا كله منه ، والملائكة قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، فإذا كان هذا قول الملائكة فمن دونهم من باب أولى، فالله هو المنفرد بالتعليم والهداية، لا يعلم أحد إن لم يُعلمه الله إياه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2].
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، الضمير في قوله مِنْ عِلْمِهِ يحتمل أن يرجع إلى ما ذُكر قبله، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255]، أي: من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذا بضع علم الله .
ويحتمل أن يعود إلى الله: يَعْلَمُ، أي الله، مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] أي: بشيء من علم الله، وبين المعنيين ملازمة، فإذا كان لا يحيطون بشيء من علم الله فمن جملة علم الله علم ما بين أيديهم وما خلفهم.
وكذلك حينما يقال: بأن ذلك يرجع إلى علم ما بين أيديهم وما خلفهم فمن باب أولى أنهم لا يحيطون إذًا بشيء من علم الله ، وهكذا أيضًا في قوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وما قال: بعلمه، فهم لا يحيطون بعلمه ولا بشيء من علمه بل هم إن علموه فإنما يعلمونه من وجه دون وجه بغير إحاطة، كما يقول ابن جزي -رحمه الله[3].
كذلك دل هذا الموضع من هذه الآية الكريمة على أن الله -تبارك وتعالى- لا يُحاط به علما، ولا يُحاط به سمعا، ولا بصر، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103]، وقال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]، فكل ذلك منفي عنهم.
أسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، اللهم ارحم موتنا، واشفي مرضانا، وعافي مبتلانا، واجعل آخرتنا خير من دنيانا -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- انظر: مجموع الفتاوى (27/ 73).
- الصفدية (2/ 65).
- تفسير ابن جزي (التسهيل لعلوم التنزيل) (2/ 15).