بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من هذه الآية الكريمة التي هي أعظم آي القرآن وهي آية الكرسي.
فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة البقرة:255]، هذا مخلوق وليس هو أكبر المخلوقات، فالعرش أكبر من الكرسي، ومع ذلك هذا المخلوق وسع السماوات والأرض، السماوات السبع الطباق ولا يمكن للبشر أن يتصوروا مدى ذلك وسعته، فهم لا يحيطون بالسماء الدنيا، ولم يبلغوا ذلك فكيف بالسماوات فوقها؟! وهكذا فإن الأرضين السبع داخلة في قوله: وَالْأَرْضَ فالأرض جنس يشمل ذلك كله.
فإذا كان هذا مخلوق بهذه المثابة والعِظم والسِعة فما بال الخالق : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]، فالله أعظم وأجل من أن تحيط به عقول المخلوقين، وهو أعظم من كل ما يمكن أن يتصوره الخلق، فهو العظيم الأعظم، هذه مخلوقاته تدل على عظمته، فهذا الإله هذا المعبود هذا الرب ينبغي أن يُخاف، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُعظم، وأن تُعظم حرماته، وأن يُراقبه العبد في أحواله كلها، يكون مراقبًا لربه -تبارك وتعالى، فإذا غاب عن الناس تذكر نظر الله إليه.
كذلك أيضًا في قوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255]، حفظ السماوات والأرض لا يثقله، ولا يُعجزه حفظ هذه السماوات والأرض على ضخامتها، وكثرة المخلوقات فيها، فذلك لا يُعجزه، ولا يُضعفه، ولا يُثقله فهذا يدل على كمال علمه؛ لأنه قد أحاط بها إحاطة كاملة، وعلى كمال قدرته، وعلى كمال قوته، وعلى كمال عزته، وعلى كمال غناه، فهو الذي يرزق هذه المخلوقات جميعًا، يعطيها، ويوليها، وهكذا أيضًا سائر أوصاف الكمال: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا، الإنسان قد يعجز عن حفظ بيته فكيف بما هو أكبر من ذلك، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يحفظ هذه المخلوقات من كل وجه: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السماوات وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا لا تضطرب، ولا تتحرك، أقامها بلا عمد نراها: وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا [سورة فاطر:41]، يعني: "إن" هنا نافية، يعني: لا يوجد من يمسكهما من بعده -تبارك وتعالى.
الخلق في غاية الضعف لا يستطيعون دفع الغبار عنهم، لا يستطيعون دفع الحر ولا البرد، لا يستطيعون دفع المطر أو ما دون ذلك.
وقوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا يدل على أن السماوات مفتقرتان إلى الحفظ وإلا لحصل الاضطراب، فمن الذين يمسك السماوات والأرض والناس قارّون على هذه الأرض منذ دهور متطاولة يقيمون معايشهم وزروعهم وحروثهم، يمشون عليها وتمشي أنعامهم، وكذلك أيضًا هذه السماء فوقهم لا تسقط، ولا تميد، ولا تضطرب، ولا تتشقق مع تطاول الزمان، لا يوجد فتور ولا فتوق، ولا شقوق، ولا خلل في هذا البناء المحكم مهما فعل الناس من إحكام البناء فله مدة زمنية.
هذه الأبنية التي يبنيها الناس لو سألنا أحدًا من المقاولين كم العمر الافتراضي لهذه المباني؟ يقول: عشرون سنة.
يجمع الإنسان الأموال ويبذلها من أجل أن يبني له دارًا والعمر الافتراضي عشرون سنة، يعني: لو أراد أن يبيع هذه الدار تُشترى الأرض فقط، لا يقيمون وزنًا لهذا البناء باعتبار أنه انتهى، وقد يظهر فيه الشقوق والخلل من أول سنة، بل لربما من أول شهر هذا خلق الله -تبارك وتعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:3، 4]، يُجري هذه الأفلاك بسير دائب في غاية الدقة والإحكام، ويُجري هذا السحاب ويسوقه حيث شاء وينزل فتنبت الأرض فيأكل الناس والأنعام فتقوم المعايش والمصالح فهذا تدبير العليم الحكيم.
وهكذا أيضًا حينما قال: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا لم يقل: ولا يؤده حفظ من فيهما؛ لأن ذلك تبع لهما فهو داخل في جملة ذلك إدارة هؤلاء المخلوقين، يقول بعض أهل العلم: بأنه خص السماوات والأرض: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ولم يذكر الكرسي ولا يؤده حفظه باعتبار أن الناس يشاهدون السماء والأرض.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة:255] دخول "ال" وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، هذا يُشعر بالحصر، فهو وحده العلي الذي له العلو المطلق علو الذات، علو القدر، وعلو القهر، وعلو المنزلة، جميع أنواع العلو ثابتة لله -تبارك وتعالى، والعظيم عظيم في ذاته، عظيم في سلطانه، عظيم في صفاته وتقدست أسمائه، وإذا أيقن العبد بأن الله هو العلي العظيم فإنه لا يمكن أن يترفع على المخلوقين ويتعاظم ويتكبر ويتعدى طوره، وإنما يكون في غاية الإخبات والتواضع لله : كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، فنوازع الطغيان موجودة في نفس الإنسان إذا وجد ما يُحركها، فإن نفس الإنسان لربما تربوا وتتعاظم، وكلام أهل العلم في ذلك كثير.
فيتذكر العبد علو الله -تبارك وتعالى- وعظمته فيتواضع له.
وقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ رد على نفاة العلو من طوائف المتكلمين، ورد أيضًا على الملاحدة من أهل الحلول والاتحاد الذين يقولون: بأن الله حل في خلقه تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فهو العلي فوق سماواته، فوق عرشه.
فهنا في هذه الآية الكريمة التي هي أعظم آية افتتحت بأعظم أسماء الله الحسنى، وهو الاسم الأعظم عند جمهور أهل العلم، وهذا خير ما يُفتتح به: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255].
ثم أيضًا: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [سورة البقرة:255]، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فجاء هنا تأكيد الخبر باسمية الجملة، ونفي الألوهية بما سوى الله بأقوى صيغة من صيغ الحصر: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.
فقوله: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، ولم يقل: ما تأخذه سِنة ونوم؛ لئلا يُفهم أن المقصود نفي ذلك مجتمعًا السِنة والنوم، لكن حينما قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فهذا نفي لها على سبيل الاستقلال، وَلَا نَوْمٌ على سبيل الاستقلال؛ لأنه قد تقع السِنة ولا يقع النوم، وقد يقع النوم ولا تقع السِنة، والسِنة هي مقدمة النوم، فسرها أكثرهم بالنُعاس.
وبعضهم يقول: السِنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255] أن "ما" هذه للعموم واللام للملك، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فهذا لا يخرج منه شيء.
وكذلك أيضًا الحصر بهذه الصيغة: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ولم يقل: ما في السماوات فهو لله، قال: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، يعني: ليس لغيره، فالملك الحقيقي هو لله وحده، وأما ما في أيدينا فهو عارية مستردة ستُرد في يوم من الأيام، وانظر إلى أغنى الناس، وأكثر الناس جمعًا إذا فارق الحياة خرج بلا شيء من هذا الجمع وهذا الحطام الذي قضى عمره في تحصيله.
وكذلك أيضًا هنا في قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [سورة البقرة:255]، هذا حينما قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] قائم على شؤون الخلائق، كامل الحياة، لا يتطرق إليه النوم ولا السِنة، له ما في السماوات وما في الأرض، يعلم ما بين أيديهم، فهم مماليكه، وهو أيضًا يعلم كل شيء يتعلق بهم من الماضي والمستقبل، لا يخفى عليه خافية على كثرة الخلق وتنوعهم، وكثرة ما يصدر عنهم، فكل ذلك يدل على سعة علمه -تبارك وتعالى، هو الذي خلق هذا الخلق ولم يتركه هملاً ولم يُضيعه بل حفظه، وأحاط علمًا به، هذه تُربي في نفس المؤمن التوجه إلى الله في كل الحالات، ولا يمكن أن يُرائي في عمله، ويتزين للآخرين، ويهتم بكلامهم، ومدحهم وثناءهم، أو أن يُراقب المخلوقين ويتزين لهم ولكنه إذا خلا بمحارم الله -تبارك وتعالى- انتهكها، لا، لا، يبقى الإنسان على حال من الاستقامة، أن تكون حاله في السر مثل حاله في العلانية تمامًا يستوي، هذه التقوى الحقيقية، وهذه هي التربية الإيمانية.
هكذا أيضًا هذه الجُمل أشرنا إلى ما تضمنته من المعاني العظيمة وترتيبها هذا في غاية الدقة.
وكذلك أيضًا هذا العطف بهذه الجُمل: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ هذه جملة وهذه جملة، هنا تقرير أن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهنا نفي العلم عن المخلوقين، لا يحيطون بشيء من ذلك فهم في غاية الجهل، ومن ثَم كيف يمكن للإنسان أن يغتر بالعلم، وما ناله منه أيًّا كان هذا العلم فهو لا شيء بالنسبة لعلم الله -تبارك وتعالى، والذي أعطاه هذا العلم هو الله فينبغي أن يزيده قربًا وخوفًا وخشية وإخباتًا، العلم إذا ما كان يُقرب إلى الله، ويدل عليه ويزيد الإنسان تواضعًا وعبادة فلا خير في هذا العلم، ولذلك ينبغي على الإنسان إذا تعلم شيئًا أن يُرى أثره في سمته، وهديه، وخلقه، وعمله، وحاله، وإلا فما الفائدة من الاستكثار من العلم إذا كان لا يدل على ذلك.
وهكذا أيضًا فإن هذه الآية مع إيجازها تضمنت هذه المعاني العظيمة، وتضمنت سبعة عشر موضعًا فيها اسم الله مُصرحًا به أو مُكنى عنه بالضمير.
وبعضهم أوصل ذلك إلى واحد وعشرين موضعًا، واشتملت هذه الآية على أسماء لله -تبارك وتعالى- وأوصاف كاملة ومن ثَم جاء في فضلها ما جاء، فهي تُقرأ بعد الصلوات، وعند النوم إلى غير ذلك مما ورد.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفي مرضانا، وعافي مبتلانا، واجعل آخرتنا خير من دنيانا -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.