الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
(212) تتمة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ..} الآية:258
تاريخ النشر: ٢٢ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 1196
مرات الإستماع: 1883

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً فيما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258].

مما يؤخذ من الهدايات من هذه الآية الكريمة هنا: طريقة العرض أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فهذا فيه من جذب الأفهام، وفيه من التشويق وذلك أيضًا يدل على أهمية ما يُذكر بعده؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد ساقه بطريقة تُثير انتباه المخاطب، فهذه من طرق الخطاب التي ينبغي أن تُراعى في مخاطبات الناس وذلك أن العرب تستعمل من الأساليب في كل مقام بحسب ما يليق بذلك المقام، والقرآن قد جاء على معهود العرب في الخطاب، فالعرب من شأنها إذا أرادت جذب الانتباه وإثارة الاهتمام أن تُعبر بمثل هذا.

كذلك أيضًا: حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، هذا الرجل يُحاج في ربوبية الله ؛ لأنه يدعي أنه يُحيي ويُميت، مثل هذا يُنازع في الربوبية، فهذا يدل على أنه وجد من يُنازع في توحيد الربوبية من كان في زمن إبراهيم ، يعني: منذ القِدم، نعم أكثر النزاع بين الرسل وأتباعهم كان في توحيد الإلهية توحيد العبادة أن الله واحد، لكن يوجد بعض المنحرفين من كان يُنازع في توحيد الربوبية أيضًا مثل هذا، يعني: قضية الإحياء والإماتة هي من معاني توحيد الربوبية، هي مما يدخل في توحيد الربوبية وليس ذلك في توحيد الإلهية، توحيد الإلهية هو في توحيد القصد والطلب والوجِهة بتوجيه جميع الرغبة والرهبة والعمل والطاعة إلى معبود واحد، أن نتوجه بجميع أعمالنا التي نتقرب بها إلى الله، هذا توحيد الإلهية توحيد العبادة أن لا نعبد سواه، فلا نصلي إلا له، ولا ندعوا سواه ولا نعبد غيره، توحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله هو، توحيد الإلهية أن توحده بأفعالك أنت، ما هي أفعالك؟ الصلاة، الصوم، النذر، الحج، الصدقة، الذكر، الدعاء، الطواف، هذه أفعال العبد التي يتقرب بها، ينبغي أن يوحد الوجِهة فيها.

فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ أعني سبيل الحق والإيمانِ[1].

هذا توحيد الإلهية، توحيد الربوبية أن توحد الله بأفعاله هو فتقول: لا خالق إلا الله، لا رزاق إلا الله، لا نافع إلا الله، لا ضار إلا الله، لا معطي إلا الله، لا محيي إلا الله، لا مميت إلا الله، هذا توحيد الربوبية.

هذا الذي كان يُجادل إبراهيم كان يدعي أنه هو يحيي ويميت، أنه يُدبر مع الله، ولذلك جاء الحجر الذي فلغ فاه وهو فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، هو يدعي أنه يُدبر هذا الكون.

كذلك فرعون، فرعون كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، فادعى الربوبية كما ادعى الإلهية قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38]، فالانحراف في هذين التوحيدين كان منذ القِدم، لكن في الغالب أن النزاع كان في توحيد الإلهية، وهذا الرجل المنازع لإبراهيم في التوحيد وقعت منه هذه المنازعة؛ لأن الله أعطاه وأولاه ووهبه الملك طغى فكان ذلك سببًا لهذه الدعاوى العريضة وهذا الكفر، أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، وقد تكلمنا على قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، وأن الإنسان قد يُمنع من مال أو ولاية رحمة به فلا تجزع، إذا فاتك من ذلك شيء فلا تجزع.

ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، أن الذي يؤتي الملك هو الله -تبارك وتعالى، أَنْ آتَاهُ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [سورة آل عمران:26]، فالعز من الله، والذل من الله، يُذل من يشاء ويُعز من يشاء، يُعطي الملك من شاء وينزع الملك ممن يشاء، فالملك الحقيقي من الله -تبارك وتعالى، فإذا كان الملك من الله فينبغي أن يكون ذلك الملك فما دونه من الولايات أن يكون ذلك سببًا للشكر وتسخير ذلك فيما يُرضي الله -تبارك وتعالى- ويُقرب إليه، فلا يصح بحال من الأحوال أن الإنسان إذا صارت له ولاية وتحته من يرأسهم ويُدريهم ويُدبرهم أن يكون ذلك سببًا للتعاظم والتعالي فينسى ربه وينسى ما يجب عليه من القيام على هؤلاء على الوجه الذي يُرضي الله -تبارك وتعالى، وقد صح عن النبي ﷺ: أنه ما من أحد يلي عشرة فما فوق إلا وجاء وهو مقيد بذلك بعمله هذا فإما أن يعتقه عمله وإما أن يوبقه[2].

فالحرص على الولاية، الحرص على الرئاسات، المنافسة فيها، هذا أمر لا يُحمد، ولهذا قال النبي ﷺ: فنعم المرضعة وبئست الفاطمة[3]، فسره جمع من الشُراح بأن المُرضعة هي الولاية، كذلك أيضًا قال النبي ﷺ أحاديث في هذا الباب وأنها تكون في يوم القيامة حسرة وندامة[4] إلا من أخذ ذلك بالعدل وقام بالحق، فهذا الحرص وهذا التنافس على تحصيل الولايات هذا أمر لا يُحمد، ولذلك لا يصح أن نُنشأ الناشئة على طلب الرئاسات، منذ أن يكون الطفل صغيرًا نقول له: إن شاء الله تكون كذا وتكون كذا وتكون كذا، فنعلق قلوبهم بهذا، يصير الإنسان في حال من الصراع والعراك ويحمل الأحقاد، منافسات غير شريفة من أجل أن يصل إلى هذا الهدف، هذا غير صحيح، ولذلك مثل هذا الإنسان الذي يحصل له ذلك يُدعى له بالإعانة والتوفيق والسداد والمقام ليس مقام تهنئة، يُهنئ على ماذا؟! هذه أمانة كبيرة وحِمل عظيم، هو بحاجة إلى دعاء بأن يُسدد وأن يُهدى وأن يُوفق وأن يُعان، وإلا فإذا أُسلم العبد إلى نفسه ضاع.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية حينما قال إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، هذا مثال يؤخذ منه أن الله -تبارك وتعالى- هو المنفرد بجميع أنواع التدبير والتصرف في هذا الكون، لا يُشاركه معه غيره، فهو الذي يملك النفع والضر وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [سورة الأنعام:17]، لا يمكن أن يملك لا طبيب ولا غني ولا حكيم ولا غير ذلك النفع لأحد واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك[5]، فهذا أمر قد فُرغ منه.

وهنا في هذا اللفظ الذي وقع فيه إظهار في موضع يصح فيه الإضمار، لما قال إبراهيم ، وذكرنا هذا أنه من قبيل الانتقال وأن ذلك مُكمل للاحتجاج الأول وأنه كالمقدمة الأول للثاني كما قال ابن القيم -رحمه الله: " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فلما كابر في هذا أعطاه الثاني الذي لا يستطيع المكابرة معه فكان ذلك التدرج بالاحتجاج"[6].

الشاهد هنا أن الله قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، الحوار بين إبراهيم وهذا الذي يُحاجه قال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، لم يقل: فبُهت وإنما قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فإبراز هذا الوصف الكفر مقصود هنا ولذلك جاء به مُظهرًا فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، ولم يقل: فبُهت ذلك الملك، وإنما جاء بهذا الوصف الذي يُبين فيه عن سبب هذه المحاجة في ربوبية الله -تبارك وتعالى، وأن ذلك هو العلة الباعثة له على هذا الجدال فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وفي ذلك من التبكيت له والوضع من حاله ومرتبته ومنزلته فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، هذا فيه ذم له بذكر هذا الوصف الذي هو أقبح الأوصاف الكفر فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.

وهكذا فإن كل من يُحاج في الله -تبارك وتعالى- يريد إبطال الحق وإظهار الباطل فإن حاله ومآله إلى هذا إلى انقطاع، فهؤلاء حجتهم داحضة ليس عندهم شيء من الدلائل الصحيحة والبراهين، وإنما سماها الله -تبارك وتعالى- حجة: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِم [سورة الشورى:16]، باعتبار مراعاة حال هؤلاء إذ إنهم يعتبرون أن هذه حُجج وهي في الواقع ليست بُحجج هي أباطيل تُراهات، فمن الخطاب القرآني نوع يخرج فيه الخطاب بحسب حال المُخاطب فيكون مراعًا فيه، هم يعتبرونها حُجج فقال: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِم [سورة الشورى:16]، وإلا هي ليست بحُجج وليست من الحُجج لا في قليل ولا في كثير، فكل مُحاج في الباطل فحجته داحضة، لماذا؟ لأن الباطل لا يمكن أن يُصحح، ولا يمكن أن يعلو، ولا يمكن أن يتحول إلى حق، الباطل باطل، والباطل معناه في اللغة الذاهب الزائل المُضمحل هذا معنى الباطل، ولهذا يُقال البطل، بأي اعتبار؟ يُقال: باعتبار أنه لفرط إقدامه كأنه أبطل دمه لا يُبالي فقيل له بطل، فكل استعمالات هذه الكلمة الباء والطاء واللام ترجع إلى هذا المعنى، الشيء الذاهب الزائل، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء:81].

فسواء كانت هذه المحاجة في توحيد الإلهية أو في توحيد الربوبية أو في أحكام الله وشرعه فهي باطلة على كل حال، كل محتج بالباطل فحجته داحضة سواء كان ذلك في الأصول الكبار، أو كان ذلك في تفاصيل الشريعة، تسمع وأسمع وتسمعون وقد سمعت هذا اليوم من يتكلمون بطريقة هي في غاية البطلان ولو خشية إشاعة بعض الباطل الذي هو من أبطل الباطل لقرأت عليكم إحدى هذه الرسائل، كيف يُلبسون على الناس، وكيف يلتبس هذا على بعض من لا بصر له، وكيف يسمون الأشياء بغير حقائقها تلبيسًا، وكيف ينقلون بعض النقولات من بعض العلماء المقبولين الثقات ويقحمون هذه النقولات في شيء لا يمت إلى هذا الذي يريدون التوصل إليه لا من قريب ولا من بعيد، ولولا كراهة نشر الباطل لأعطيتكم هذا النموذج في التلبيس.

فهذا باطل لا يمكن أن ينهض ويقوم ولو حاولوا تدعيمه بنقولات من هنا وهناك لا علاقة لها بهذا الإفك المُفترى، هو إفك لا حقيقة له، ولا يوجد في دين الإسلام أصلاً، ويأتون بأسماء في أمور تتعلق في زواجات باطلة، لا أساس لها ولا توجد في الشريعة أصلاً أو في غير ذلك.

وهكذا هذا الذي يحتج على بعض الناس حينما يقول له مثلاً شيخ الإسلام قال كذا يقول: لماذا تأخذ قول شيخ الإسلام، بناء على ماذا أسلمت له عقلك؟ بناء على ماذا، مثل هذا بكل بساطة نستطيع أن نحتج معه حينما يوجه هذا الكلام نحن يمكن أن نوجه إليه نقول: لا بأس دعك من شيخ الإسلام -رحمه الله، والشافعي، وأحمد، ومالك، والليث، والأوزاعي، والأئمة الكبار، الإنسان إما أن يكون من أهل النظر والاجتهاد فلديه الأهلية من معرفة النصوص من الكتاب والسنة ومواضع الإجماع والاختلاف والأصول التي يُبنى عليها الاستدلال مع الملكة والفهم الصحيح على فهم السلف الصالح فيكون له من البصر في اللغة، والأصول والقواعد مع معرفة الأدلة والإجماع، والاختلاف، والأقوال والآيات والأحاديث وأقوال السلف، وأقوال الصحابة ونحو ذلك.

نختبر هذا الإنسان الذي يقول هذا وهو ما قرأ إلا بضعة تغريدات ولا يحفظ لربما حديثًا واحدًا، وقد لا يُحسن قراءة الفاتحة، فنقول: هات نختبر هذا الإنسان في هذه النصوص من الكتاب والسنة ونختبره في القواعد والأصول، ونختبره في اللغة العربية وما أشبه ذلك، ونقول هات البضاعة لتكون من أئمة الاجتهاد تكون مؤهلاً فإن كنت على أهلية فلا أقل، نحن نقول: لا تطالب الآخرين ليتحولوا إلى مجتهدين فكل من قال لك هذا قال به فلان تقول: لماذا تؤجر له عقلك، نبدأ بك أنت الآن نريد أن نعرف هل أنت مؤهل للاجتهاد أو لا؟

لأن الإنسان إما أن يكون مؤهلاً للاجتهاد والاستنباط فيجتهد وإما أن لا يكون كذلك فالله -تبارك تعالى- يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة الأنبياء:7]، إذا مرض أين يذهب؟ يذهب إلى الحداد! أو إلى النجار! أو يقول: أنا عندي عقل ولا أؤجر عقلي للأطباء، أنا أُعالج نفسي وأمراضي وعللي بنفسي، ولا يمكن أنقاد! لا، هو يذهب إلى الطبيب ويعمل بدقة بما يقال له، كل اثنا عشر ساعة تستعمل هذا الدواء، وتترك الشيء الفلاني وتفعل الشيء الفلاني، ويفعله بحذافيره، لماذا تؤجر عقلك لهذا الطبيب وهو يصيب ويُخطأ والطب من أوله إلى آخره مبناه على التجربة بإجماع الأطباء مبناه على التجربة، هي أمور تجارب تُصيب وتُخطأ وقد توافق لبعض الناس وقد لا توافق لآخرين، أليس كذلك؟! فلماذا يؤجر عقله للطبيب.

إذا أراد أن يبني دارًا أليس يذهب إلى مكتب هندسي ويعملون له مخطط ويبني عليه حذو القُذة بالقُذة، نقول: لماذا تفعل هذا وتؤجر عقلك للمكتب الهندسي ويؤخذون مالك يا أخي خُط برجلك وابتني دارًا أنت ولا شأن لك بهؤلاء فلك عقل ولهم عقل وهم رجال وأنت رجل، فأنت الطبيب، وأنت المكتب الهندسي، وأنت ابن أنت، فأنت أبوك وجدك أنت، لا تحتاج إلى أحد، ولا تحتاج إلى خبرات ولا تحتاج إلى الآخرين؛ لأنك لا تؤجر عقلك لأحد فأنت وحدك الكامل من كل وجه بزعمه، فهو لا يقبل نصوص الوحي، لا يقبل نصوص الكتاب والسنة، لا يقبل كلام الصحابة، لا يقبل بحجة أنه لا يُسلم عقله لأحد، فأرنا مادة الاجتهاد عندك، وأرنا الآلة التي تنطلق منها في الفهم والاستنباط حتى نعرف أنت أهل أو لا، بضاعته بضع تغريدات قرأها هنا وهناك، ويقول: لا تؤجر عقلك، هذا كلام!

إذا جاء الفقه في الدين والعلم بما أنزل الله على رسوله ﷺ قيل هذا الكلام، وإذا أتينا إلى الأمور المادية الدنيوية، ذهب يبحث هنا وهناك ويسأل، ويقرأ، ويستشير ويذهب إلى أهل الاختصاص، فلماذا الشريعة هي الجدار القصير يتصوره كل بطال؟! فهذا إضاعة لحدود الله وللدين وللإيمان.

على كل حال فهنا بُهت كل محتج بالباطل فهو إلى انقطاع وبُهت لأن الباطل باطل، فلا يغرنكم ولا يهولنكم هؤلاء المبطلين الذين يُلبسون على الناس دينهم، ولهذا فإنه يؤخذ من هذا الموضع أن الحق لا يمكن أن يُجادل فيه، لا يمكن للحق أن يُبطل؛ لأنه حق والحق معناه الثابت، معنى كلمة حق مدارها في اللغة على معنى الثبات، ومعنى كلمة باطل مدارها في كل اللغة على الزوال والذهاب والاضمحلال.

كذلك أيضًا في قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فهنا رتب الحكم نفي الهداية على وصف وهو الظلم، فدل على أن الظلم يكون سببًا للحرمان، حرمان الهداية، فمن أراد الهداية عليه أن يتحقق بالعدل، وأول العدل التوحيد، كذلك أن يعدل في قوله في حكمه وما ولي أولاده في زوجته بين زوجاته، بين تلاميذه، وهكذا في كل شأن من شؤونه، أن يعدل في أقواله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [سورة الأنعام:152]، ليكون ذلك سببًا لهدايته، وكذلك من ابتُلي بالحكم بين الناس القاضي فهو بحاجة إلى العدل، ومجانبة الظلم من أجل أن يهديه الله -تبارك وتعالى- وأن يوفقه للصواب.

كذلك أيضًا: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا كما سبق لظلمهم فالله -تبارك وتعالى- لا يهديهم عدلاً منه -تبارك وتعالى، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، فهم المتسببون بذلك لظلمهم حرموا الهداية.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص: 219).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (22300)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5718).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، برقم (7148).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، برقم (1825).
  5. أخرجه الترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2516)، وأحمد في المسند، برقم (2669)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7957).
  6. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/490).

مواد ذات صلة