بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث عن قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، هذه الآية في ختم هذه السورة الكريمة يؤخذ منها من الهدايات:
أولاً: ما يتعلق بالمناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، ذكرت في بعض المناسبات أن المقصود بالمناسبة وجه الارتباط، قلنا بين الآية والآية، وبين المقطع والمقطع، وبين مضمون الآية وموضوع الآية مع ختمها ختم الآية، وبين الجملة والجملة، وكذلك من يعتبرون المناسبات بين السور، بين السورة والسورة يقولون مثلاً: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:1-5]، لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [سورة قريش:1]، يعني: فعل بهم ذلك، فعل بأصحاب الفيل لماذا؟ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [سورة قريش:1]، هذا وجه الارتباط والمناسبة بين السورة والسورة.
وهكذا عند من يعتبر المناسبة، وهذا مبناه على أن ترتيب السور بتوقيف من النبي ﷺ والمسألة فيها خلاف معروف، ترتيب الآيات بهذه التي نراها على المصحف هذا لا شك أنه كما أرشد إليه النبي ﷺ بوحي من الله، وإلا فقد يكون النزول فيه متأخرا؛ قد تتأخر الآية ثم يقول النبي ﷺ ضعوها في مكان كذا، وفي موضع كذا مثلاً سورة كذا، لكن ترتيب الآيات بتوقيف من النبي ﷺ وأما ترتيب السور ففيه خلاف هل هو اجتهاد من الصحابة في زمن عثمان ، أو أن ذلك كان بتوقيف.
فهنا نوع من المناسبات وهو العلاقة ووجه الارتباط بين فاتحة السورة وخاتمتها، لاحظ في أول السورة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، هذه أول صفة، والغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الكتاب، الوحي، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الكتب السابقة، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4]، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5].
هنا في آخر السورة آمَنَ الرَّسُولُ، هناك يُخبر عن المتقين الذين يكون الكتاب هدى لهم، من هؤلاء؟ قال: آمَنَ الرَّسُولُ، هؤلاء الذين حققوا هذا الوصف، ذكرهم في آخرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، بكل ما أُنزل إليه، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ في أول السورة.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فهذا كله داخل في الغيب، وكذلك: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4]، فمدح في أولها المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ثم فصّل صفتهم في آخرها بأنهم النبي ﷺ ومن معه، فذكر هذه الأوصاف والاستجابة، والانقياد، سمعنا وأطعنا، وذكر في أولها أنهم بالآخرة يوقنون، وفي آخرها: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ المصير المرجع والمآب في الآخرة، فهذا وجه من المناسبة، هذا مثال على المناسبة، كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:1]، وفي آخرها: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [سورة المؤمنون:117].
لاحظ فهذا تجد التسبيح مثلاً في أول سورة الحشر سَبَّحَ لِلَّهِ [سورة الحشر:1]، وفي آخرها تجد التسبيح: يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:24]، فهذا كله لون من ألوان المناسبات المعروفة بالمناسبة بين مطلع السورة وخاتمتها.
كذلك في قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، فلم يقل: آمن الرسول والمؤمنون بما أُنزل إليهم، وإنما قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، ثم ذكر المؤمنين بعد فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ، والتقدير والمؤمنون آمنوا، فصار إيمانهم تبعًا للنبي ﷺ فذكر إيمانه أولاً -عليه الصلاة والسلام، فذلك أنهم تبع له وأنه لا يصح منهم إيمان ولا عمل إلا إذا كان موافقًا، قد تابعوا فيه رسول الله ﷺ، وهو القدوة وهو المُقدم -عليه الصلاة والسلام، فهم لا يستقلون بإيمان دونه ولا بشرع غير شرعه، وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ آمنوا، حينما ذكر إيمان المؤمنين بعد إيمان النبي ﷺ "والمؤمنون" فدل ذلك على -أو يؤخذ من ذلك- أنه بقدر اتباعهم للنبي ﷺ واقتدائهم به يكون لهم ما لهم من الإيمان، "والمؤمنون" فهم تبع له -عليه الصلاة والسلام- فإن تابعوه في كل ما آتاهم من ربه -تبارك وتعالى- كانوا أكمل إيمانا، فإن نقص اتباعهم كان ذلك نقصًا في إيمانهم بحسب ما نقصوا.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فهذه الأشياء المرتبة: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، فذكر الإيمان بالله أولاً؛ لأنه الأصل والأساس، ثم ذكر بعد ذلك الإيمان بالملائكة؛ لأنهم الواسطة بين الله -تبارك وتعالى- في الوحي وبين الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ثم ذكر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من البشر؛ لأن هؤلاء الملائكة يتنزلون عليهم بالوحي وهم يُبلغون عن الله -تبارك وتعالى، ثم ذكر الإيمان بالكتب، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فذكر الكتب، هؤلاء الملائكة يأتون بالرسالة الألوكة، فهذه الرسالة هي الكتب، هي ما تضمنته الكتب، يأتون بها للرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يُبلغون الناس هذه الرسالة فذكره بهذا الترتيب -والله تعالى أعلم.
كذلك يؤخذ من هذه الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، كأن هذا خُلاصة لما تضمنته السورة بكاملها التي هي أطول سور القرآن، وقد اشتملت على حقائق كثيرة، فاشتملت على قضايا من الإيمان وأوصاف الله -تبارك وتعالى- وأنواع التوحيد، واشتملت على الرسالات والنبوات، واشتملت على حقائق كثيرة من الإيمان بالغيب واليوم الآخر، وكذلك اشتملت على شرائع الإيمان، وأركان الإسلام الخمسة مُضمنة في هذه السورة، إلى غير ذلك مما تحدثنا عنه كثير من العبادات والمعاملات.
فهي سورة قد اشتملت على جُل حقائق الإيمان، ولذلك كان من حفظ البقرة وآل عمران جد في أعينهم، يعني: بمعنى أنه يكون له منزلة باعتبار أنهم كانوا يحفظون ويتعلمون الأحكام والهدايات والمعاني لا يحفظون حفظًا مجردًا، فمن ألم بما في هذه السورة، وعرف ما تضمنته من الأحكام والهدايات وشرائع الإيمان لا شك أنه حصّل خيرًا عظيمًا وعلمًا جمًا، فهنا جاء في ختمها كالخلاصة بعد تلك الجولة الواسعة في الإيمان وأنواعه وشرائعه، جاء الكلام على هذا موجزًا مختصرًا وذلك بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، إلى آخر ما قال.
وكذلك أيضًا هذا يُشعر بأن الإيمان بما ذُكر في ثنايا هذه السورة إنما يكون بالانقياد والإذعان والسمع والطاعة، انقياد القلب وانقياد الجوارح: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285]، ليس لأحد أن يقول كما قال المشركون: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فجاء الجواب عن مقالتهم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، هنا: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285].
كذلك في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، فقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حديث عن الغائب، ثم قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، لا نُفرق فهذا بضمير المتكلم، فهذا يُسمى التفات انتقال في الخطاب، انتقال الكلام من الغيبة إلى المُتكلم، لا نُفَرِّقُ هذا على قول الأشهر بأن ذلك من جملة مقالتهم، إلا عند من يقول بأن ذلك من كلام الله كالجملة المعترضة بين كلامهم، يعني: أن الله يقول لا نُفرق يُخبر عن نفسه: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، لكن هذا بعيد.
وهكذا أيضًا في قوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة:285]، بعد قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ، يدل على أن الإيمان الحقيقي هو الذي يتبعه الانقياد والعمل والاستجابة والإذعان، أما دعوى الإيمان وحدها بعيدًا عن العمل، بعيدًا عن الامتثال فهذه تحتاج إلى إثبات، تحتاج إلى تصديق.
كذلك في قوله -تبارك وتعالى: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فهذا السمع سمع استجابة: سَمِعْنَا، وهذا أمر لابد منه في الإيمان فهو أصل فيه، ليس مجرد السمع الذي يحصل به الإدراك فيطُرق الكلام مسامع الإنسان دون أن ينقاد، فالمشركون سمعوا كلام النبي ﷺ وسمعوا القرآن لكنهم لم ينفعهم ذلك، واليهود حينما قالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:46]، فكان ذلك من أعظم الكفر "سمعنا وعصينا".
فهنا السمع سمع الاستجابة، هكذا يكون أهل الإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36]، ليس له اختيار، ليس للإنسان اختيار بل عليه الإذعان فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51]، وجاء بصيغة الحصر إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ليس هناك شيء آخر، لماذا؟ أنك غير مقتنع، اعرض هذا على عقلك أولاً، هذا الكلام لا مجال له هنا، فإنه لا يمكن أن تثبت قاعدة الإسلام إلا على التسليم، فهذا أصل كبير يؤخذ من هذه الآية.
كذلك الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد، هناك سماع قبول إذعان لا تعترض، ولا تتوقف، ولا تتشكك إنما الانقياد والاستجابة، ثم العمل بذلك نفّذ، ولا يسع المسلم غير هذا، وبهذا نعلم بطلان ما يُشاع ويُذاع ويُغرر بالناس أو بكثير من الناس بسببه من هذه الدعايات المُضللة اعرض على عقلك، لا تؤجر عقلك، تعرض على عقلك كلام الله، تعرض على عقلك كلام الوحي من أجل أن يقبل ما شاء ويرد ما شاء، ما مبلغ هذا العقل الذي لا يُدرك ما بداخل الإنسان من أعضاء وكيف تعمل، ولا يعرف ما وراء هذا الجدار، اعرض على عقلك، الوحي يُعرض على العقل فيأخذ العقل ما شاء ويترك ما شاء، فيكون العقل حاكمًا على النقل؟!
هذا لا يكون أبدًا، فهذه خطيرة، ويُصدق بها من يُصدق، ويغتر من يغتر، ويريد أن يعرض النصوص على عقله ويقول: أنا غير مقتنع بحكم الربا، أنا غير مقتنع بكون المرأة نصف دية الرجل، أنا غير مقتنع أن المرأة لها نصف الميراث، غير مقتنع، طبعًا هذا إن استطعت أن تُجيبه تحتاج معه إلى مساحة واسعة طويلة أن يكون هناك قاعدة أساس مُنطلق للحوار للنقاش، المشكلة المُنطلق مفقود؛ لأن هذا ليس عنده أساسيات، تتحدث مع إنسان ما عنده شيء، ما عنده خلفية، تُناقش من هنا، ويأتيك من هنا، ويقفز من هنا، ويظهر من هناك، مشكلة، وهذا مُجرب ومُشاهد، فيحتاج إلى أن يتعلم أشياء كثيرة حتى تقف معه على قاعدة على أرضية تكون منطلقًا للحوار، لكن حوار ليس له أرضية يكون عبثًا.
ولهذا تجد الحافظ ابن القيم على سبيل المثال في كتابه "إعلام الموقعين" وهو من أعظم كتبه وأجلّها، انظروا في هذا الكتاب جاء بأشياء كثيرة جدًا من النصوص عن النبي ﷺ فضلاً عن القرآن التي قال بعض من قال بأنها تُخالف القياس، وأنها على خلاف القياس، وتكلم بكلام متين على كل واحدة عشرات الأمثلة، كلام قوي، وبيّن أنها على وفق القياس.
وذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه كـ"درء تعارض العقل والنقل" وهو مطبوع في إحدى عشر مجلدًا، وكتابه الثاني الذي هو "شرح العقيدة الأصفهانية" وهو مطبوع في مجلدين ذكر كلامًا يرد على هؤلاء الذين يزعمون أنهم يُعملون الأصول والقواعد والمقررات العقلية ويردون بها النصوص، ويقولون: إنها تُعارضها وتخالفها فتكلم على هذه وبيّن أن هذه المقررات التي قرروها، وقالوا: إنها قواعد قطعية بيّن أنها باطلة وفاسدة وكسرها -رحمه الله- لم يُبق ولم يذر، وبيّن أنها قواعد فاسدة، وأنهم بنوا على أصل فاسد ظنوا أنه قاعدة صحيحة، ثم يُبين أن هذا الذي اعتقدوا أنه يُخالف العقل بيّن أنه على وفق العقل، بل قال أكثر من هذا، قال: ليس نصوص الكتاب والسنة يعني ما صح منها، قال: "كل ما نُقل وصح عن الصحابة فإنه موافق للمعقول غاية الموافقة"[1].
وقال ابن القيم -رحمه الله- يقول: لو أُعمل النظر الصحيح وطُرق الدلالة في استخراج الأحكام لم يُحتج إلى القياس أبدًا، يقول: ولكنه قد يُقصر من يُقصر في استخراج ذلك من النصوص بطرق دقيقة فيُضطر إلى القياس، وقد يصل إلى الحكم الصحيح بالقياس، لكن يقول: يمكن أن يتوصل إليه بالنص نفسه من الكتاب أو السنة بدون القياس من غير القياس[2]، هذا ذكره في "إعلام الموقعين"، كلام متين تقرأ في مثل هذا الكلام والتأصيل وتتمنى تقول: يا ليت قومي يعلمون، يا ليت هؤلاء الشباب الذين يُضللون يطلعون على هذا الكلام ويعرفون أن في الزوايا خبايا، وأن هؤلاء الذين يقدمون لهم مثل هذه المواد المُضللة المُشككة لا يقودونهم إلى غير، ولكنهم وجدوا من يستمع وهو خالي الوِفاض قليل العلم فيحصل بسبب ذلك فتنة، ونسأل الله الهداية للجميع.
كذلك أيضًا في قوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، كما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يقول: هذه أمة اتباع وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، هذا وصفهم، وهذا لا شك أنه كمال؛ لأن هذا هو الاستجابة الحقيقية لله ولرسوله ﷺ، فإذا آتاهم الله العقل الدال على صدق النبي ﷺ وصحة الكتاب الذي جاء به فإن ذلك لا يُعارض أفراد الأدلة، يعني: العقل هداهم إلى أن ما جاء به الرسول حق، وأن الرسول حق فلا يمكن أن يُعارض هذا العقل بأفراد الأدلة، وهذه العقول تتفاوت، ولذلك انظروا إلى أكثر الناس تقديسًا للعقل المعتزلة، والمعتزلة انقسموا لفرق -اثني عشر فرقة- يُكفر بعضهم بعضًا، أصحاب عقول ومقاييس عقلية، كيف اختلفوا؟ كيف صار يُضلل بعضهم بعضا؟ أكثر من يُقدس العقل، والآن أتباع المعتزلة في العصر الحديث ممن يُسمون بالعقلانيين، وبالتنويرين، وما أشبه ذلك ممن يُقدسون المعتزلة.
أقول: ينبغي أن ينظروا في حال المعتزلة بماذا أفضى إليه فتجد أنه يُكفر بعضهم بعضا، أبو علي الجُبائي عنده فرقة من فرق المعتزلة هو زعيمها، وابنه أبو هاشم عنده فرقة، الأب يُكفر الابن وأتباع الابن، والابن يُكفر الأب وأتباع الأب، كلهم معتزلة عقلانيون، يقولون: العقل هو الأصل والنقل تبع له، فعكسوا القضية، النقل تبع، ويقولون المقاييس العقلية قطعية ودلالة النصوص ظنية، فردوا النصوص، هل وصلوا إلى نتائج سليمة؟
الجواب: أبدًا، لم يصلوا إلى نتائج وإنما وصلوا إلى الشك، ولذلك تجد طوائف المتكلمين كانوا في حال من الحيرة، ومن جاء بعدهم من الأشاعرة كبار هؤلاء الأشاعرة، أبو حامد الغزالي كما قيل دخل في بطن الفلسفة وما استطاع أن يخرج منها ثم ماذا كان حاله ومآله في نهاية العمر اعتزل كل شيء ومات وصحيح البخاري على صدره، هذه النهاية.
أبو المعالي الجويني إمام كبير من أئمة المتكلمين العقلانيين له مدرسة كبيرة عند هؤلاء المتكلمين من الأشاعرة كان يقول: "لقد خُضت البحر الخِضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم وها أنا أرجع إلى عقيدة عجائز نيسابور"[3]، ويقول: "عليكم بدين العجائز" يعني الفطرة، هذا جبل الجبال هؤلاء الواحد منهم مثل الجويني يقول: "قرأت درس يعني خمسمائة في خمسمائة اضرب من الكتب مخطوطة مجلدات خمسمائة في خمسمائة ليست خمسمائة مطوية أو تغريده، لا مجلدات كتب ضخمة، خمسمائة في خمسمائة، وخليت أهل الإسلام وعلومهم وها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور".
والثاني عند الاحتضار عند الموت يأتيه من يعوده فيسأله يقول: كيف تجدك هل أنت مُطمئن، هذا المُحتضر يسأل الثاني؟ قال: نعم، يعني مطمئن بإيمانك، قال: نعم، قال: أما إني والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، ثم بكى"[4]، هذا جبل، والآخر الذي كان يقول: "أضع الملحفة على وجهي وأقارن بين أقوال هؤلاء وهؤلاء من العقلانيين وأُصابح الصبح ولم أخرج بشيء"[5]، يعني ما أخرج بنتيجة، يعني: خرجوا بالحيرة، والأبيات التي تروى عن الشهرستاني، والواقع أنها قيلت قبله يُعبر عن حيرته وهذا من أئمتهم الكبار، يقول:
نهاية إقدام العقول عقال | وغاية سعي العالمين ضلال |
وأرواحنا في وحشة من جُسومنا | وغاية دنيانا أذى ووبال |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا |
فكم من جبال على شُرفاتها | رجال فزالوا والجبال جبال[6] |
هذا يُعبر عن الحيرة بهذه الأبيات، إذا كان هؤلاء الأساطير الذين قدسوا العقل ولم يحصل منهم مثل هذه الاستجابة سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، منذ البداية، وذُكر أن الشهرستاني تاب، وكذا الجويني، والغزالي مات وصحيح البخاري على صدره[7]، والرازي له وصية مكتوبة لأولاده ظاهرها التوبة من هذه العلوم.
وقيل: بأن ابن سيناء وهو كبير الفلاسفة من الإسلاميين كما يقال يعني الفلاسفة المسلمين ليس أفلاطون وأرسطو من القدماء من اليونان، لا، من المنتسبين إلى الإسلام ابن سيناء يُذكر أنه عند موته أو قبل موته أعتق مماليكه لعله تاب من الفلسفة.
فالشاهد أن هذه المصائب وهذه البلايا وهذه الرزايا تأتي من معارضة الوحي، لا تعترض سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا هو ثبت في الكتاب والسنة خلاص انتهى الانقياد الكامل.
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا قدم السمع على الطاعة؛ لأن السمع أول ما يكون استجابة القلب ثم الانقياد، ثم ذكر طلب المغفرة فهذا كالوسيلة سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ اغفر لنا، ثم إنه قد يحصل تقصير، قد يحصل غفلة، قد يحصل شيء من الفتور والضعف والخطأ، غفرانك، وقد لا تكون الاستجابة كما ينبغي، قد لا يكون العمل كما ينبغي فيطلب الإنسان المغفرة، وهكذا شأن المؤمن دائمًا، يخرج من الخلاء -أعزكم الله- يقول: غفرانك.
بعضهم يقول: غفرانك من أجل أنه انقطع عن الذكر هذه المدة الوجيزة.
وبعضهم يقول: غفرانك يعني أنه لا يوفي هذه النعمة حيث خرج ذلك منه ولو بقي في جسده محتبسًا لهلك فهو لا يوفي شكر هذه النعمة، وهنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا كما قال الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات[8]: دعاء الأنبياء ربنا فهذا مناسب في الربوبية؛ لأن من معاني الرب: السيد والمالك المتصرف المُدبر، ومن معاني الربوبية: العطاء والمنع واستجابة الدعاء، فالذي يُعطيهم الحاجات هو الرب -تبارك وتعالى، فتقول: يا رب، فالرب هو السيد، وهو المُدبر وهو المُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة.
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ هنا الحاجة إلى المغفرة؛ لأنه سيكون الرجوع إلى الله، فتحتاج أن يُغفر لك قبل أن توافي بالخطايا والسيئات، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فهؤلاء علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[9]، ما وفوه حقه مع الطاعة والانقياد فسألوه المغفرة لتحصل لهم كمال السعادة، ويحصل لهم المراد والمطلوب إذا وافوا ربهم -تبارك وتعالى.
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهذا يدل على تواضع، يعني: الإنسان قد يُعجب بعمله، والأعراب أتوا إلى النبي ﷺ وقالوا: احمد ربك نحن آمنا من غير قتال، غيرنا بقتال وحرب وحريب، ونحن أتيناك منقادين بسهولة، يمنون على النبي ﷺ، قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14]، إلى أن قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17]، فهذا هو اللائق.
وفي قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، ولم يقل: كلهم آمنوا، ليتنزل على كل فرد؛ لأن قضية الإيمان مُطالب فيها كل واحد على سبيل الاستقلال -والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- درء تعارض العقل والنقل (1/ 4).
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 174) وما بعدها.
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 73)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 616).
- انظر: مجموع الفتاوى (9/ 228)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 557).
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 28)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 165)، والصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 842).
- انظر: مجموع الفتاوى (5/ 10).
- انظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 842).
- انظر: الموافقات (5/ 312).
- مجموع الفتاوى (14/ 136).