الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(254) قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا..} الآية:286
تاريخ النشر: ٢٥ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 818
مرات الإستماع: 1185

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما شهد الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان بالإذعان والتسليم بما يجب الإيمان به، وما كان منهم من السمع والطاعة والاستجابة لله -جل جلاله، وتقدست أسماءه- جاءت الألطاف الربانية، جاء التخفيف والعفو والبيان كما قال الله -تبارك وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286]، هذا بعد قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، فجاء: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

والمعنى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، بمعنى أن الله لا يُطالب عباده ولا يُحملهم ما لا يدخل تحت طاقتهم، أو يشق عليهم مشقة كبيرة، وإنما خفف الله على عباده في هذه الشريعة؛ فمن فعل خيرًا جازاه الله به، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وهكذا جناياته تكون عليه يتحملها، ويتحمل تبعات جرائرها.

لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده كيف يقولون بعدم المؤاخذة والمعاقبة في حال النسيان، نسيان ما افترضه الله عليهم، أو وقع الخطأ بشيء نهاهم الله -تبارك وتعالى- عن مواقعته.

كذلك أيضًا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا وهي الأعمال الشاقة التي جعل الله من قبلنا من بني إسرائيل من الآصار والتكاليف الشاقة: فحرم عليهم أشياء، وأمرهم بأشياء، فكان التطهر من النجاسات مثلاً عند اليهود بقطع الثوب بدلاً من غسله، وهكذا حينما تابوا من عبادة العجل كان من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54]، يعني: أن يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل: إنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، هذه التوبة، بينما التوبة في هذه الأمة يندم، ويعزم أن لا يعود، ويُفارق المنكر، فإن كان من قبيل المظالم ردها على أهلها، والحمد لله، مع غاية الترغيب في التوبة، أما أولئك فلا، الغنائم كانت تحرُم عليهم، كانت تأتي نار من السماء فتحرقها، تُجمع في مكان مهما كانت ضخامتها وكثرتها فتأتي نار من السماء فتحرقها، فأُحلت لهذه الأمة، وهكذا في ألوان العبادات ليس في شيء منها حرج وضيق على المُكلفين.

وهكذا أيضًا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، يعني: من التكاليف التي لا نستطيعها ولا نقوم ولا ننهض بها؛ لشدتها، وثِقلها، أو لكثرتها، أو نحو ذلك.

وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، العفو محو الذنب فلا يبقى له أثر، والغفر ستر وعدم مؤاخذة، لا يكون هناك تبعة للذنب، كالمغفر الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه يقيه ضرب السلاح، فهو يستر رأسه ويقيه، فالغفر ستر ووقاية، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا الرحمة قدر زائد، الرحمة بها يدخلون الجنة، لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته[1]، فالغفر والعفو من باب التخلية، والرحمة من باب التحلية، فسألوا هذا وهذا كما سيأتي؛ لأن ذلك يحتاج إليه العبد، فيكون في هذا الدعاء من محو الذنوب وستر العيوب فلا يفتضح في الدنيا، ولا يفتضح في الآخرة، مع الإحسان إليهم في الدنيا والآخرة، وذلك من مقتضيات رحمته، أَنْتَ مَوْلانَا تملك أمرنا، وتُدبر شؤونا وتنصرنا.

فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أظهرنا عليهم في ميدان الحجة وفي ميدان المعركة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد -وهي آخر آية في هذه السورة سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لاحِظ لا يُكَلِّفُ لفظ التكليف هنا جاء منفيًا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "بأن ذلك لم يرد إلا في سياق النفي"[2]، وهو يُشير هنا إلى ما يكثُر على ألسنة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين وغيرهم من تسمية الشرائع بالتكاليف، فكلمة تكليف تدل على ثِقل واستثقال أيضًا، العبد الذي يُقبل على العبادة بمحبة ويعلم أن الله قد شرع له ذلك وهو العليم الخبير، وأن ذلك لمصلحته مصلحة العبد يُقبل عليها بمحبة ورغبة.

ولذلك ذكر الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات[3] في الكلام على المقاصد وهو من أشهر من تكلم على المقاصد مقاصد الشريعة، ذكر في جملة المقاصد أن يُقبل العبد على العبادة بنفس رضية مُحبة مُستشرفة، لا يُقدم عليها باستثقال، وحمل على هذا النصوص الواردة في أن يأخذ العبد من الأعمال ما يُطيق يعني غير الفرائض، حديث: فإن الله لا يمل حتى تملوا[4]، وأن العبد قد يعمل بعض التطوعات بسورة يحمل نفسه عليها تشق عليه جدًا فيكره العبادة، فيقول: هذا غير مُراد؛ لأن ذلك أولاً مؤذنٍ بالانقطاع ومن مقاصد الشريعة الاستمرار والدوام أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل[5].

وكذلك أيضًا أن يُقبل عليها بنفس رضية، مثل ماذا؟ لو أن أحدًا مثلاً أراد أن يختم القرآن كل ليلة في النهاية سيؤدي إلى استثقال وسيؤدي إلى إرهاق، سيتعطل عن أشغاله وعن أعماله فيتحول إلى عبء -خاصة مع تقدم السن- والمراد الاستمرار بالعمل، فإذا ضعُف أصبح الليل يُمثل بالنسبة إليه ثِقلاً، لو أن أحدًا مثلاً أراد أن يذهب إلى صلاة الجمعة من بعد صلاة الفجر يُدرك الساعة الأولى من بعد طلوع الشمس، هذا جيد ومطلوب، لكن الناس يتفاوتون في هذا، فمن الناس من يفعل هذا ولا يجد في ذلك غضاضة بل محبة وانشراح.

وبعض العلماء ذكروا في تراجمهم أو ذُكر عنهم أنهم كانوا يتسارعون ويتسابقون يوم الجمعة من الساعة الأولى، وكان الواحد منهم يختم قبل أن يصعد الخطيب المنبر ختمة كاملة، هذا ذُكر عن مجموعة من العلماء من المعاصرين، فهذا بصرف النظر عن الختم في يوم واحد والنبي ﷺ قال: لا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث[6]، وما محملهم لهذا؟ وكيف فهموه؟ هذه موضوع آخر ليس لنا علاقة به الآن، أنا أتحدث عن كون الإنسان يتحمل من الأعباء أو الأعمال والعبادات التطوعات التي تشق عليه مشقة تجعله يكره العبادة.

مثلاً، لو أراد الإنسان أن يُدرك يقول أفضل عمل نقضي به العشر من ذي الحجة هو الحج من واحد ذي الحجة سأكون إن شاء الله في مكة أُلبي بالحج، وربما يعتقد أن الإفراد أفضل ويبقى على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر، هذا فيه مشقة، لو أراد أن يفعل هذا كل سنة، إن كان يُقبل عليه بنفس رضية مستشرفة ونحو ذلك هذا جيد، لكن قد يثقل عليه ذلك ويشق مشقة كبيرة فيكره العبادة، فإذا قرُب الحج أصبح هذا يتراءى له يراه في النوم، لا داعي، اذهب يوم سبعة ثمانية وارفق بنفسك من أجل أن تستمر، هكذا.

لو أن أحدًا من الناس أراد أن يصوم يومًا ويفطر يومًا هذا أفضل الصيام صيام داود [7]، لكن الناس يتفاوتون، إنسان يشق عليه صيام ست من شوال أو يوم عرفة أو يوم عاشوراء، ويريد أن يصوم يومًا ويفطر يومًا طول السنة، هذا جيد إن فُتح عليه فيه، لكن قد لا يُفتح، فيحمل نفسه على هذا فيتحمل، ينام عن الفرائض، يتعطل عن عمله، يتعطل عن واجباته في حقوق أهله وأولاده، صائم لا يتكلم مع أحد إذا صام، ويُصبح هذا الصوم عبئًا ثقيلاً وتترحل هناءته وسعادته وراحته ولذته، والشريعة ما جاءت لهذا، طه ۝ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [سورة طه:1، 2]، الشريعة ما جاءت بالشقاء، راحة وسعادة ونعيم وعبادة.

وبالمناسبة أنا أسألكم الآن هذا الصوم -الذي وفق الله لصيامه وهدى- نحن في آخر الشهر ليلة الثامن والعشرين هل الآن تجدون عبئًا ومشقة وثِقلاً في الصوم، هل تجدون ذلك؟ أو تجدون استرواحًا، هو هكذا العبادة، لكن قد يخف ذلك على الإنسان إذا كان مع المجموع وفي شهر كرمضان، لكن لو أراد أن يصوم لوحده بمفرده يصوم يومًا ويُفطر يومًا، من الناس من يوفق لهذا، فهذا طيب، لكن من يثقل عليه بحيث يكره الصوم بعدها فهنا يُقال: لا، صم ما تُطيق، صم الاثنين والخميس، صم ثلاثة أيام من كل شهر، وقل مثل ذلك في الأعمال التي يزاولها الإنسان.

فهنا لاحظ شيخ الإسلام يقول: "لم يرد تسمية العبادة كما يُسمي كثير من الفقهاء وأهل الكلام -يعني من الأصوليين ونحوهم يسمونها تكاليف، يقول: هذا لم يرد عن الشارع تسمية الشرائع والعبادات التكاليف أبدًا، وإنما جاء في سياق النفي لا يُكَلِّفُ فقط"[8]، ولذلك فإن بعضهم له ملحظ هو الذي أشار إليه شيخ الإسلام أن تسميتها تكاليف كأنه يُشعر باستثقال، والعبد ما يستثقل تشريع الله وما فيه نفعه ورفعه وسعادته في الدنيا والآخرة.

فهذه ناحية مُفيدة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ثم أيضًا إذا كان لا يُكلف نفسًا إلا وسعها ماذا كلفنا؟ هذه العبادات الصلوات الخمس مثلاً هي ميسورة، لكن ما هي المشكلة؟

المشكلة هو سر المسألة أن من لا يُصلي يعتقد أنه من العظائم أن ينقطع من عمله وخمس مرات أتردد إلى المسجد إذًا ليس لي شغل إلا المسجد، نقول له: الأمر ليس كذلك، نحن نصلي ولا نشعر إلا بالحمد لله، وبدون هذه الصلاة لا نتصور أننا نعيش أصلاً، ولو جمعنا بين صلاتين في مطر أو نحو ذلك لجاء وقت الصلاة الثانية أنكرنا أنفسنا شيء غير عادي اليوم، شيء يجعل الإنسان يشعر أنه نقصه شيء، مع أن هذا الجمع مشروع، لكن لأن نفسه اعتادت على هذا، لكن الذي لم يعتد الصلاة أصلاً هو يشعر أنه أمر فوق طاقته أن يذهب إلى المسجد خمس مرات في اليوم.

دورة علمية نُقيم فيها ثلاثة دروس مثلاً في اليوم، أسبوع واحد، أكثر الناس لا يحضرون، طلاب العلم ما يحضرون، والذين يحضرون يحضر الإنسان وهو يشعر أنه في كبد ومجاهدة، هذا الأسبوع متى ينتهي، هذا اليوم الأول الثاني الثالث ويشعر أنه على ملّة، طيب نحن نسأل، طول السنة أليس الطلاب يدرسون من الساعة السابعة صباحًا إلى الواحدة ظهرًا أو بعد ذلك؟! كل يوم أقل شيء خمس محاضرات، أليس هذا هو الواقع، كل يوم خمس أقل شيء خمس، والأمور ماشية، يذهب الصغير والكبير وهذا يسحب حقيبته أكبر منه، طفل في أولى ابتدائي، وهذا في المتوسطة، وهذا في الثانوية، وهذا في الجامعة، الكل يذهب، هل هذه صارت بالنسبة لهم إذا جاء فهو لا يستطيع أن يحرك يده ولا رجله ولا يتنفس، خمس محاضرات كل يوم طول السنة، وسنوات حتى يتخرج من الجامعة سبعة عشرة سنة، الأمر طبيعي جزء من الحياة، هكذا اعتادت النفس عليه، لكن إذا كان لم يعتد حضور مجالس العلم فإذا كان يحضر مجلسًا واحدًا استطاله، من الذي يحضر درسًا في كل يوم، هي النفس أين وضعتها؟!

بعض الناس إذا أراد أن يصوم يومًا تطوعًا مثلاً يصوم الخميس، بعضهم يقول: يوم الأربعاء قبل حينما كانت الإجازة الخميس والجمعة يقول: يوم الأربعاء هو أجمل الأيام؛ لأن بعده إجازة، يقول: إذا أردت أن أصوم الخميس أصبح يوم الأربعاء يُصبح في حال من الكآبة هم، ما صام إلى الآن الصوم غدًا هو يحمل همًا؛ لأنه يستثقل العبادة، ما اعتاد عليها، لكن لو اعتاد مثل ما قلنا في رمضان يصوم شهرًا كاملاً ولا يجد غضاضة في ذلك، وهكذا صلاة الليل الذي لم يعتد يثقل عليه أن يوتر بركعة واحدة، والذي اعتاد أن يُصلي ثلاث ساعات مثلاً، لو أنه استيقظ في يوم لم يبق على الفجر إلا ساعة بكى.

ذُكر في تراجم بعض المعاصرين، بعض أهل العلم من المعاصرين ذُكر في ترجمته توفي -رحمه الله- كل هؤلاء توفوا؛ لأن كُتبت تراجمهم بعد وفاتهم، أنه يبكي كالطفل لأنه بقي على الفجر ساعة؛ لأنه اعتاد على هذا، هذا ليس لأهل العلم حتى العامة، وقد أخبرني بعضهم في سياق يصح أن يُذكر في هذا يعني الرجل بعيد عن هذه الأمور فقال: منذ خمسين سنة ما أذكر أني تركت قيام الليل في يوم واحد، ذكر في سياق يصح أن يُذكر في هذا، هذا رجل من كبار السن من العامة ليس من طلاب العلم، يقول: منذ خمسين سنة ما أذكر أني تركت قيام الليل، وهو رجل أسأل الله أن يُبارك له من أهل الثراء، يعني: ليس بإنسان جالس ما عنده شغل، لا، خمسين سنة.

وزوجة آخر بعد ما توفي تقول منذ تزوجته حتى ليلة الزواج -هذا عامي ليس من طلاب العلم- تقول: منذ تزوجته لا أعلم يومًا حتى ليلة الزواج أنه ترك قيام الليل، فالذي لم يعتد يعتقد أن هذا أمر صعب؛ ولذلك الذي ما اعتاد للقيام -حتى نُقرب الصورة- لصلاة الفجر هذه عنده مُعضلة، وتسمع عن بعضهم من المحاولات ووضع الساعات في قدور من أجل أن الصوت يملأ المكان ومع ذلك لا يستيقظ؛ لأنه ما اعتاد، هو يشعر أن هذا أمر في غاية الصعوبة، ويبلغ الخمسين والستين وهو لا يصلي الفجر في المسجد، لا يُصليها إلا بعد طلوع الشمس؛ لماذا الآخرون الذين اعتادوا على هذا يستيقظون بدون ساعة ويأتون وهم في غاية الهمة والنشاط والرغبة، هل كلفنا الله ما لا نُطيق؟! والله يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

فهذا فقه في التعامل مع النفوس يحتاج العبد إليه، وإلا فالنفس إذا انقاد الإنسان معها هبطت فيستثقل ذكر الله على لسانه، يستثقل قول: لا إله إلا الله أو سبحان الله والحمد لله، ولذلك تجد بعض الناس الذي لم يعتاد الذكر إذا سلم من الصلاة لا يصبر حتى يقول الأذكار، ينطلق مباشرة ليس عنده صبر ولا وقت بزعمه، لكن الذي اعتادها، شيخ الإسلام كان يجلس من بعد الفجر كما قال ابن القيم إلى قريب من الظهر كل يوم يذكر الله، ويقول: "هذه زادي ولو لم أفعل ما نهضت قواي"[9]، يقول بدونها لا أستطيع أن أنهض، إمام الدنيا في زمانه جبل أشم -رحمه الله، تحمل الكثير، ووقف في وجه التتر، وسيرته مشهودة، ما الذي جعله يصبر ويثبت هذا الثبات؟النفس لها زاد قوي، لها صلة، الذي بينه وبين الله عامر فعندئذ نفسه تقوى وتنهض.

تَدَبرُ القرآن كما يقول ابن حزم -رحمه الله، الله طالبنا به، وأمرنا به: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29]، فلا يُقال: هذا غير مقدور، نحن نقرأ القرآن للبركة والأجر فقط، لو كان في غير طاقة الإنسان لم يكن في وسعه ولم يأمر الله به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ولهذا من الخطأ أن يعتقد أحد أن التدبر للعلماء فقط، الله خاطب الجميع بل قال للمنافقين: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، وفي خطاب آخر وهو الرابع للكفار: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68]، هذا للمشركين.

وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، والذكر هنا يشمل القراءة والحفظ والتدبر والفهم والمعاني، كل هذه المعاني داخلة تحته: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، لكن هذا التدبر أبواب كون الإنسان يدخل في أبواب تحتاج إلى خلفية، تحتاج إلى آلة من فهم اللغة والبلاغة والنحو أو الفقه والأصول وقواعد التفسير ونحو ذلك، هذا يحتاج أنه يدرس هذه الأشياء من أجل أن يغوص ويستخرج الدقائق واللطائف والمعاني، لكن التدبر الذي يُرقق به قلبه، ويتعرف على أوصاف الله ، وحقائق الآخرة، يعرف الطريق الموصل إلى الله، أوصاف الجنة، أوصاف النار، أوصاف المؤمنين، أوصاف الكفار، أوصاف المنافقين، الأمور التي يحبها الله، هل هذه تحتاج إلى عالم؟ هو يقرأها ويجدها في القرآن ويسمعها في قراءة الإمام، هذا يحتاج تدبر.

إذًا الإمام يقرأ لمن! ويجهر لمن! إذا كانت القلوب مُغلقة، وإنما يطرق الأسماع دون أن يصل إلى القلوب، ولهذا قال النبي ﷺ في صفة الخوارج: أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم[10]، ومما فُسر به قوله: لا يجاوز حناجرهم قيل: لا يصل إلى القلوب فتتأثر به.

وبعضهم يقول: لا يصل إلى القلوب فتفقه عن الله، لا فقه لهم.

وبعضهم قال: لا يجاوز حناجرهم يعني لا يُرفع هي مجرد قراءة لا تتجاوز الأوتار الصوتية.

كذلك يؤخذ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، يؤخذ منها الرُخص، الترخص فإن الله يُحب أن تؤتى رُخصه كما يُحب أن تؤتى عزائمه، فإذا كان الإنسان في حال مرض أو سفر أفطر في رمضان، إذا سافر قصر الصلاة، له أن يجمع بين الصلاتين، وهكذا، فهذا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، فإذا أفضى به ذلك إلى مشقة كبيرة بسبب السفر أو المرض ربما يجب عليه الفطر.

بعض الناس يمرض ويتمسك بالصوم ولو كان يُنازع الموت وعند نفسه أنه يتقرب إلى الله بهذا، والواقع أن ذلك على خلاف ما يظن، يجب عليه أن يُفطر.

وهكذا أيضًا يؤخذ منه العزائم، إذا كان لا يُكلف نفسًا إلا وسعها فمعنى ذلك أن العزائم وهي ما شرعه لعباده غير الرخص، أن يُصلي خمس صلوات في اليوم والليلة الظهر أربعًا في الحضر، وهكذا العشاء أربعًا، فهذه يُصليها كما شرعها الله -تبارك وتعالى، إذا كان في الحضر وهو غير مريض فإنه يصوم وجوبًا، فهذا عزائم؛ يقول: أنا أتعب في الصوم، الصوم أعطش وأجوع لكنها مشقة محتملة فيُقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، تصوم، فهذا من العزائم من أجل أن ترتاض النفس وتتهذب.

وهكذا أيضًا يؤخذ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فهناك: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، كل للغائب، وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: آمنوا، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، كل هذا للغائب، ثم هنا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ المُتكلم، هذا يُسمى التفات انتقال بالخطاب لتنشيط السامع.

وهكذا أيضًا فإن هذه التكاليف: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، هي في وسعهم كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "بأن الله أمر بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه"[11]، يعني: ما يطيقونه ما هو في وسعهم، وأعطاهم من الزرق ما يسعهم"، الأعمال التي كلفهم بها هي في وسعهم، والأرزاق تسع هؤلاء جميعًا وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6]، ما من دابة، أقوى صيغة من صيغ العموم النفي والاستثناء "ما من" وسُبقت النكرة هنا دابة بمن بسياق النفي إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فهذا الذي يرزقه وهو في بطن أمه وقد جعل له الفم سيرزقه إذا خرج من بطن أمه، لن يضيع ولن يُنسى.

فالشاهد أن شيخ الإسلام يقول: "فتكليفهم يسعونه يستطيعونه في وسعهم وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره وسعوا أمره ووسعهم رزقه، يقول: ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول: بأنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يُطيقونه، ثم يُعذبهم على ما لا يعملونه"[12]، فرق بين ما يسع العبد لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وما يسعه العبد، ما يسعه العبد قد يسعه لكن بمشقة كبيرة جدًا بتكليف باهظ فهنا كلفهم ما يكون في وسعهم إِلَّا وُسْعَهَا ما يسعهم فيقول: "فرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد"، وهذا ظاهر -والله أعلم.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).
  2. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 25).
  3. انظر: الموافقات (2/ 356)، و(3/ 519).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، برقم (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم (782).
  5. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2818).
  6. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن، برقم (5051).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر، برقم (1976)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، برقم (1159).
  8. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 25).
  9. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:42)، ولفظه: "هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي".
  10. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063).
  11. مجموع الفتاوى (14/ 137).
  12. مجموع الفتاوى (14/ 137).

مواد ذات صلة