الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(256) تتمة قوله تعالى لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .. الآية 286
تاريخ النشر: ٢٧ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 880
مرات الإستماع: 1176

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث في الكلام على هذه الآية الأخيرة من سورة البقرة، وقد تحدثنا عن صدرها.

بعدما قرر الله تبارك وتعالى أنه لا يُكلف نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، جاء بعدها تسع دعوات، يُعلم الله تبارك وتعالى عباده كيف يدعونه ويسألونه، جاء ذلك بعد التخفيف عنهم، فقال الله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، هذا تعليم من الله لعباده كيف يدعونه رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286]، هذه سبع دعوات، فهنا جاء الدعاء باسم الرب (ربنا) وقد ذكرت في مناسبة سابقة أن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة الدعاء في القرآن بهذا الاسم الكريم (ربنا) "رب" دعاء الكبار، آدم عليه الصلاة والسلام، ومن بعده من الأنبياء هذا التعليم الذي يُعلم الله عباده، كبير الأنبياء إبراهيم ﷺ أبو الأنبياء كان يدعو بهذا الاسم؛ وذلك أن من معاني الرب المُدبر الذي يُصرف خلقه كيف شاء، المُعطي، المانع، فهذه من معاني ربوبيته فيسألونه "ربنا".

ومن معاني الربوبية التربيب والتربية "ربنا"، فهذا العطاء الذي يحصل لهم مما يحصل به غذاء الأرواح وما يحصل به نعيم الأبدان، وما يحصل به سعادة الأرواح والأبدان في الدنيا والآخرة، كل ذلك من ألطافه، فالرب هو الذي يُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة.

فيسألونه أنت سيدنا، وأنت مربينا، تُربينا بالنِعم، وأنت الذي منك العطاء والمنع لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت [1] فأعطنا أكرمنا تفضل علينا، فهكذا ينبغي أن يدعوا المؤمن، وهذا الدعاء باسم الرب يصلح في جميع الأمور، وقد ذكرنا في مجالس الأسماء الحسنى بأن الله تبارك وتعالى يُدعى في كل مقام بما يُناسب من هذه الأسماء ولا منافاة، فإذا أراد أن يدعو بدعاء أخص فيمكن أن يقول: يا غني يا رزّاق يا رازق ارزقني، وهكذا حينما يقول: يا عزيز يا قوي عليك بأعداء الملة والدين، وهكذا يا نصير انصرنا.

كذلك أيضاً رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا جمع هنا بين ترك المأمور، ومواقعة المحظور إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فالنسيان يُطلق على معنيين في لغة العرب وجاء ذلك في القرآن:

الأول: الذهول عن المعلوم، تقول: نسيت حقيبتي، نسيت الكتاب، نسيت المسألة، نسيت الدليل، ذهول عن المعلوم، فهذا النسيان.

والخطأ الوقوع في المخالفة بغير قصد، مواقعة المحظور من غير قصد، فبعض أهل العلم يقول: إن قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا هذا بالنسبة للمأمورات، إن تركنا شيئاً من المأمورات ذهولاً عنه نسي، من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها [2] قد لا يذكر هذه الصلاة إلا بعد أسبوع، ترك فرضاً، لا يؤاخذ يُصليها إذا ذكرها.

قد ينسى قضاء رمضان، يُفطر في سفر أو مرض ثم بعد ذلك ينسى أن عليه قضاء وينقضي العمر ويعيش السنوات الطِوال ولا يتذكر حتى يلقى الله، ليس عليه شيء، نسي رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا هكذا وقع له سهو في الصلاة، ترك التشهد الأول قام رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالخطأ مواقعة المحظور، مما يحصل من باب الجنايات في حق الله، أو في حق النفس، أو في حق الخلق إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

الرجل الذي الحديث الذي ذكره النبي ﷺ في التوبة فقد راحلته انفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح [3] مثل هذا، هذا الكلام كفر، لكنه وقع على سبيل الخطأ، فهذا لا يؤاخذ الإنسان به، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الإنسان قد يُخطئ، قد يُخطئ في قراءة آية، قد يُخطئ يقلب المعنى تماماً، أحد الفضلاء من أهل العلم سمع قارئاً يقرأ: "والوالدات يرضعن أزواجهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة" فيقول: فعجبت، وقلت في نفسي كيف يقع هذا الخطأ، أحد يُخطئ في هذا؟ (والوالدات يُرضعن أزواجهن)، الآية: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة: 233]، وهذا الرجل يُصلي بمسجد، له منزلة في قلوب المسلمين، يقول: فقرأتها بالخطأ في ذلك الموضع، (والوالدات يُرضعن أزواجهن حولين كاملين).

هذا مثل ما ذكرنا: لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك [4] مع أنه ما تكلم قالها في نفسه، وهذا يجده الإنسان في نفسه كثيراً، أحياناً الإنسان يقول في نفسه مثلاً: أنا ما سهوت في الصلاة، أو منذ زمن بعيد ما سهوت، فيقع له في الفروض الخمسة سهو؛ ليُعلمه الله.

فالشاهد أن الخطأ لا يؤاخذ الإنسان عليه فهو معفو، لو أنه حصل له حادث، فمات إنسان خطأ، فهذا عليه الكفارة والدية، ولكن ليس عليه إثم؛ لأنه أخطأ، صائم فشرب ناسياً، أو أكل فهذا ليس عليه شيء، تمضمض فوصل الماء إلى جوفه بالخطأ، من غير مُبالغة منه خطأ لا يؤاخذ وصومه صحيح إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

وقد يكون هذا الخطأ بتأويل تأويل فاسد، أخطأ فيه تأول فلا يؤاخذ فيه، كما ذكرنا من حال الصحابة رعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جُنب ولما سأله النبي ﷺ عن هذا؟ احتج بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، فتبسم النبي ﷺ[5] هذا تأويل أخطأ فيه.

كذلك أيضاً : عمار بن ياسر لما تمعّك تمعك الدابة[6]. ما كان يعرف التيمم، فهذا لا يؤاخذ به، كذلك جاء عن بعض الصحابة أنه كان يعتقد أن أكل البرد لا يُفطر.

وفي قوله تبارك وتعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] أن عدي بن حاتم لربما وضع الواحد عقالاً، أو ربط الإبهام إبهام القدم بخيط أبيض والإبهام بخيط أسود وينظر ويأكل، يعتقد أن الخيط هو الذي ربطه أو العِقال[7].

هذا لا يُطالب بالقضاء رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا كان يعتقد بقاء الليل من غير تفريط فأكل وشرب فتبين أن الفجر قد طلع لا يؤاخذ، فهذا من رحمة الله فدعوا علمهم هذا الدعاء رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وقد جاء في صحيح مسلم: أن الله قال: قد فعلت، [8] يعني: استجاب ذلك وتحقق.

كذلك في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي ﷺ لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين، ومن سورة الفاتحة إلا أُعطي ذلك[9].

يعني: كل هذا اُستجيب، فهذا للنبي ﷺ وهو كائن للمؤمنين آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285]، فذلك يشمل الرسول ﷺ ويشمل أهل الإيمان إلى قيام الساعة.

رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وهذا أيضاً يصور حال المؤمنين، يصور علاقتهم بربهم تبارك وتعالى، فهم يُدركون ما هم فيه من الضعف، والعجز، والحاجة إلى ألطاف الله ورحمته وعفوه ومغفرته، هم بحاجة إلى مدده وعونه، غير مستغنين، فيلجئون إليه، وينتسبون إليه "ربنا" يا سيدنا، ويا مولانا، ويا مُدبر شؤوننا، ويا مربينا، فهم دائم بهذه الحال، لا يكون الواحد منهم كالمُستغني عن ربه تبارك وتعالى أبداً، وهل يستغني العبد عن ربه طرفة عين، لا يستغني مهما كانت إمكاناته وقدراته، وثرواته ومعارفه ومداركه أبداً، هو دائماً بحاجة إلى ألطاف الله، إذا نظر إلى ما عنده من المال والولد تذكر أن ذلك من الله، وأنه قد يُسلب في لحظة والتاريخ فيه شواهد من هذا، وكذلك أيضاً حينما يجلس الإنسان على ألوان الموائد، يتذكر أن الأيام قد تدور، وقد لا يجد شيئاً يُفطر عليه، قد لا يجد شيئاً يطعمه، هذه النِعم إنما تُقيد بالشكر لله لكن الكثيرين من قلّ بصره، وعلمه يعتقد أن هذه مبذولة، وأنها موجودة وأنها لن تبيد أبدا مثل الذي وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35]، فالبعض يتعامل مع النِعم بهذه الطريقة، بهذا النظر، وهذا خطير، وها نحن نُشاهد أقواماً كانوا يتقلبون في النِعم، ثم بعد ذلك تحولت حالهم إلى بؤس، نسأل الله أن يلطف بإخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يُطعم جائعهم، ويُغني فقيرهم، ويداوي جرحاهم، ويشفي مرضاهم، وأن يُغنيهم من الفقر وأن يجمع شملهم على الحق، إنه سميع مجيب.

هكذا أيضاً المؤمن حينما يقع منه الخطأ، حينما يقع منه الزلة، حينما تقع منه سبق اللسان، الهفوة، حينما يُخطئ خطأ بيّناً أو غير بيّن، ويأتي من يُنبه على الخطأ، يُذكره بالصواب، لا ينبغي أن يأنف، ويكون عنده ردود أفعال ويتشنج كما يفعل بعض الناس، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، لماذا تغضب؟! قد يرد عليك هذا الخطأ أحد التلاميذ، أستاذ في جامعة، أو في مدرسة، أو غير ذلك يُقرر مسألة، ثم يأتي أحد التلاميذ ويستدرك في خطأ بيّن، ومن الذي لا يُخطأ من الناس! البعض يتشنج ويغضب وتتغير ملامحة ويتوتر، ولربما يتخذ موقفاً من هذا الذي كان ينبغي أن يُشكر، ومن سوء التربية أن يُعلم هؤلاء الذين يتهيأون للتعليم مثلاً كيف يتخلص من مواقف كهذه محرجة دون أن يُقر على نفسه بالخطأ، أو الجهل، الصحيح أن يقول: أنا لا أعلم، ما ذكرته هو الصواب، أنا أخطأت في هذا، هذا الصحيح، وبكل صدر رحب، أحياناً يُعلم غير هذا، أحياناً يُقال له إذا سألك أحد التلاميذ مسألة لا تعرف الجواب، قل له هذا سؤال مهم ابحث المسألة وأتينا بالجواب، لا لا، قبل أن تقول ابحث المسألة، قل أنا لا أعرف، هذه مقدمة ضرورية، لكن لو تيسر لك تبحث المسألة، أو يبحث واحد منا المسألة إن كانوا مؤهلين ثم يأتينا بالجواب، أو أنا أبحث، هذا الصحيح، أو لربما يقول له هذا سؤال مهم ذكرني في آخر الدرس من أجل أن ينسى، هذه يعتبرون البعض يعتبرها مهارة تربوية، وهذا غلط، هذا جاهل يأبى ويأنف من الإقرار بالجهل.

فهنا لاحظ الخضوع ولاحظ التواضع رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا لا يوجد هنا مجال للتبجح بالخطأ.

ذكر ابن حزم رحمه الله عالم الأندلس عن أحد الشيوخ أنه أخطأ في آية، فجاء من استدرك عليه من الطلاب من التلاميذ، قالوا: الآية خطأ، فقال: لا، فأتوا له بالمصاحف، قالوا: تفضل، قال: لا، فدخل بيته وأخرج المصحف والحبر لم يجف -نسأل الله العافية- يعني غير الحبر، كانت المصاحف مكتوبة بخط اليد غيرها ليقول بأنها قرأها على الوجه الصحيح.

هذا إجرام، إلى هذا الحد المُكابرة والإصرار! ولربما جاء من يستدرك على آخر فكان ذلك سبباً لكثير من الأنفة، فكان يقول هذا لا أدري، هل صار مُضغة أو لم يكن، يعني: هو لم يُخلق خلق إنسان إلى الآن لا أدري هل صار مُضغة يعني من العلقة إلى مُضغة، حتى يستدرك عليّ، ما قال له أنت جاهل، لا، هو الآن يتسائل هل هو الأن خُلّق بصورة إنسان في بطن أمه، أو لا حتى يستدرك، هل هو مُضغة أو ليس بمُضغة؟! يعني منتهى الاحتقار، لماذا؟ لأنه استدرك مسألة، وقال له ذكرت كذا، يشمت به أمام الآخرين، ويقول انظروا لا أدري هذا مُخلّق، أو غير مُخلّق، مُضغة مُخلقة أو غير مُخلقة، إلى هذا الحد.

فهذا لا يجوز، الإنسان يعترف بالتقصير، ويعترف بالخطأ، ويعترف بالجهل، كذلك أيضاً هذا التعليم من الله من أجل أن نتخلق بذلك من أجل أن نمتثل، من أجل أن نعمل به، وهذا من لُطفه ورحمته تبارك وتعالى بنا.

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286]، هذا في التكاليف، هناك فيما يصدر عن المكلفين من الأقوال والأفعال، هنا في التكاليف وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا الإصر هو الحمل الثقيل كما عرفنا، تكاليف شاقة جداً، وهذا يدل على أن الذين من قبلنا حُملوا من الآصار والتكاليف الشاقة هذا يُفهم كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا هذا صريح بهذا.

وكذلك في قوله: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، هذا من فضل الله أن كلفنا بهذه الشريعة السهلة السمحة، وما معنى كون الدين يُسر؟ لم يُحملنا الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة التي كانت على من قبلنا، هذا من جهة، كذلك أيضاً لا يؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا، كذلك أيضاً هذه التشريعات التي شرعها رخّص للعباد في حال ضعفهم بسبب المرض، أو السفر بالرُخص، فالصلاة تُقصر وتُجمع، وكذلك أيضاً الصيام يُفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

كذلك هناك أعمال وعبادات يُنتقل منها إلى البدل، يعني: في الكفارة عتق رقبة، الوقاع مثلاً في رمضان، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا، كفارة اليمين عتق، في البداية ذكر إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، هو مُخير بين هذه الثلاثة، لكنه إن كان لا يستطيع ففي هذه الحال صيام ثلاثة أيام، ينتقل من هذه الثلاثة إلى صيام ثلاثة أيام إن عجز عن الثلاثة.

المصلي يُصلي قائماً بالنسبة لصلاة الفريضة وجوباً فإن لم يستطع صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب [10].

هناك أشياء تسقط عن العاجز بلا بدل مثل الحج من استطاع إليه سبيلا، لا يستطيع الحج يسقط، العمرة واجبة على الأرجح في العُمر مرة على المستطيع، إذا كان لا يستطيع تسقط عنه، زكاة الفطر واجبة، الذي لا يستطيع ما عنده شيء يُخرج تسقط، هل يوجد بدل؟ لا يوجد بدل، يعني: هل يصوم مثلاً ثلاثة أيام؟ الجواب: لا، هل يصوم يوماً؟ لا، تسقط إلى غير بدل، فهناك أشياء تسقط إلى بدل، وهناك أشياء تسقط إلى غير بدل.

وهكذا أيضاً رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286].

لاحظ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يسأل العافية، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ بعض الناس يبحث عن المشقة جهلاً منه فيجد أنه يتحراها، في الصوم مثلاً الأسباب مهيأة للراحة توجد مكيفات، يجلس في مكانٍ في وقت الحر الشديد، بلا مروحة، ولا مكيف، ويقول: أريد أن أشعر بالصوم والمشقة، هذا لا يجوز.

ولذلك الرجل الذي رآه النبي ﷺ واقفاً في الشمس، سأل، قالوا: إنه نذر أن يصوم ولا يستظل ويقف، فقال النبي ﷺ: مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه [11]

لو جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أذهب من هنا إلى مكة على الأقدام من أجل أن أشُعر بالحج، نقول: لا، المشقة لا تُقصد شرعاً، وليست بمطلوبة للشارع، لكن كما يقول النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها: إن أجرك على قدر نصبك أو - قال - نفقتك  [12]

وهذا كما قال الشاطبي رحمه الله وغيره في المشقات العارضة ليست المقصودة، ليس لأحد أن يقصد المشقة لكن فيما يعرض، إنسان حج وتعب من غير إرادة تعب أصابته الشمس، وأصابه العناء ومشى على قدميه، ولم يجد مركباً إلى آخره، وتعطلت سيارته، وأصابه عناء كثير، نقول له: الأجر على قدر المشقة، لكن أن يتقصد المشقة، ويقول: أنا أريد أن أمشي أذهب إلى مكة على الأقدام، نقول: لا، وإن اختلف العلماء في الأفضل أن يحُج ماشياً في المشاعر يعني يتنقل أو يحج راكباً، لكن الكلام في غير هذا، الكلام في إنسان يقصد المشقات، يبحث عنها يطلبها، فهذا غير مُراد، لا يتكلف شيئاً.

ولذلك جاءت هذه الشريعة سمحة، الصلاة بالنِعال مثلاً في غير الفرش إنسان في الصحراء أو في مكان غير مفروش على حاله، إن كان مُنتعلاً صلى بنعاله، إن كان غير مُنتعل لا يلبس النِعال من أجل أن يُصلي بها، ولذلك جاء الإنكار على أبي موسى الأشعري لبس نعليه حينما أراد الصلاة، فأنكر عليه غيره من أصحاب النبي ﷺأفي الوادي المُقدس أنت يا أبا موسى؟[13].

يعني: لماذا لبست النِعال، لبسها عندما أراد أن يُصلي، نقول: يُصلي على حاله، إن كان مُنتعلاً صلى بنعليه، وإن كان غير مُنتعل صلى بغير نعلين، وقل مثل ذلك في سائر الأمور، هذه الشريعة جاءت سمحة يسيرة سهلة، التوبة بين الإنسان وبين الله يندم، ويُعزم أن لا يعود، ويُقلع عن الذنب وانتهى، هذا ترجع صفحته بيضاء تماماً مهما كانت جرائمه إلا إذا بقي مظالم للعباد فإنها تُرد.

كذلك أيضاً يُعلمنا وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة: 286] العفو والغفر والرحمة هذه ثلاثة أشياء، بعض العلماء يقولون: "سؤال العفو (اعفو عنا) باعتبار أن العبد إذا مُحي عنه الذنب فهذا العفو، والغفر يكون بالستر فلا يفتضح، ووقاية شؤم وتبعة المعصية أو الذنب".

العلماء وجهوا هذا بتوجيهات مقاربة كما يقول ابن جُزي رحمه الله: "العفو إسقاط العقوبة، ثم تدرج وَاغْفِرْ لَنَا تدرج إلى المغفرة، وهي طلب الستر، يعني: عفو وزيادة من أجل أن لا يكون تكراراً، فالعفو غير الغفر، هو بزيادة الستر، فقد تسقط العقوبة ولا يُستر الذنب، ثم تدرج إلى الرحمة وهي كلمة جامعة لأنواع الخير والإحسان والألطاف الربانية"[14]

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وجه هذا بتوجيهاً أيضاً قريب: فجعل العفو فيما بين العبد وربه، ما بينه وبين الله مما يعلمه من تقصيره وزلله، والغفر فيما بينه وبين العباد، فقالوا: المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: يحتاج إلى أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفتضح بينهم، والرحمة حملها على المستقبل أن يُوقعه في المستقبل في ذنب آخر، يوفق للطاعات والاستقامة"[15] هذا توجيه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والأمر في هذا قريب.

وعلى كل حال، ينبغي للإنسان أن يسأل ربه العفو؛ لأنه لا يخلو من تقصير في المأمورات وَاعْفُ عَنَّا ويسأل المغفرة من ذنوبه أيضاً التي فعلها وَاغْفِرْ لَنَا وكذلك أيضاً يحتاج إلى رحمة يدخل بها الجنة.

يؤخذ أيضاً من هذه الآية: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنهم سألوا هذه الأمور الأربعة العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، هذه المذكورة في الآخر، يقول: "بهذه الأربعة تتم النعمة المُطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعفو متضمن لإسقاط حقه حق الله على العبد، أن يُسامحه، والمغفرة تتضمن الوقاية من شر الذنوب، وأن يُقبل عليهم، ويرضى عنهم، يقول: أما العفو المُجرد فإنه قد يحصل لكن من غير إقبال، عفى عنه لكن لا يُريد هذا العبد ولا ينظر إليه، فهذا هنا عفو مع غفر فذلك يعني أنه يرضى عن العبد، فالعفو ترك محظ، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان"، هذا توجيه دقيق من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما رأيته لغيره.

يقول: "والبر كذلك يعني هذه الرحمة يدخل فيها البر والألطاف، يقول: فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير، والنُصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه"[16].

ولاحظ التوسل في هذه الآية في الدعاء رَبَّنَا و أَنْتَ مَوْلَانَا فهذا هكذا ينبغي أن يتأدب المؤمن مع ربه تبارك وتعالى حينما يُناجيه ويدعوه أَنْتَ مَوْلَانَا فهذه تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه المتولي تبارك وتعالى لكل نعمة يصلون إليها وأنه هو المُعطي للمكارم والفضائل التي يفوزون بها، فيُظهرون ذلك في دعائهم، مثل الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ووليه، فهكذا العبد فإنه لا ينتظم شمل مهماته كما قال بعض أهل العلم إلا بإصلاح مولاه، فالله تبارك وتعالى هو القائم بإصلاح شؤون الخلق، وهو المتولي لأمورهم.

أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] جيء هنا بالفاء للتفريع كونه هو المولى، ومن معاني المولى النصير الناصر أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا ومن ينصر العباد إن لم ينصرهم الله تبارك وتعالى؟ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فهذا يدل على تأكيد الطلب طلب إجابة الدعاء بالنصر وجعلوه مفرعاً عن هذا الوصف أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وهذه الآية كما ترون في هذا الختم بهذا الدعاء والله قد فعلت، في هذه السورة العظيمة من سور القرآن، فنسأل الله في ختم هذا الشهر الكريم في آخر ليلة منه أن يعفو عنا، وأن يغفر لنا، وأن يرحمنا فهو مولانا، وأن ينصرنا على القوم الكافرين، نسأله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا وأن يُذكرنا منه ما نُسينا، وأن يُعلمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيه عنا، كما أسأله تبارك وتعالى أن يُعتقنا جميعاً من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، ووالدينا وإخواننا المسلمين.

ونحن ندعوا في نهايات هذه الدروس رجاء يكون تأمين الجمع سبباً للقبول والإجابة، وقد يوجد فيهم من هو مستجاب الدعوة؛ ولهذا انظروا في هذه الأدعية في هذه الآية الكريمة جاءت بصيغة الجمع "ربنا" فأخذ منه بعض أهل العلم أن تظافر النفوس والهمم في سؤال شيء وطلبه أن ذلك قد يكون من أسباب تحقيقه وتحصيله، وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله العالم المعروف المُفسر صاحب أضواء البيان في مجالسه في المسجد النبوي في التفسير يدعو بعد كل درس، وقد نبه على هذا المعنى، وأنه يرجو أنه يكون بهذا الجمع من يكون مستجاب الدعوة. 

فأسأل الله  أن يُحقق آمالنا، وأن لا يُخيب رجاءنا، وأن يُسدد ألسنتنا، وأن يهدي قلوبنا، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله مُلتبساً علينا فنظل. 

  1. أخرجه البخاري، باب الذكر بعد الصلاة، رقم: (844)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، رقم: (471).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها رقم: (684).
  3. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2747).
  4. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (22/53)، رقم: (127)، والأوسط، رقم: (3739).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، رقم: (334).
  6. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب: التيمم ضربة، رقم: (347)، ومسلم، باب التيمم، رقم: (368).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط ...}، رقم: (1916)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر .... رقم: (1090).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284]، رقم: (126).
  9. الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصلاة،  باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم: (806)، عن ابن عباس، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)).
  10. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، رقم: (1117).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم: (6704).
  12. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران... رقم: (1211).
  13. أخرجه أحمد (7/404)، رقم: (4397).
  14. تفسير ابن جزي (1/143).
  15. تفسير السعدي (ص: 120).
  16. مجموع الفتاوى (14/140).

مواد ذات صلة