بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث متصلاً بما يُستخرج من الهدايات من هذه الآية الكريمة من آخر سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286]، تحدثنا في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية.
يؤخذ منها: العموم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا فالنفس هنا نكرة في سياق النفي، كل نفس، سواء كان هذا الإنسان له همة في الطاعة والعبادة، أو كان فاتر الهمة، سواء كان قويًّا في جسده أو كان ضعيفًا، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا سواء كان رجلاً أم امرأة، هذه قاعدة عامة، وأصل ينتظم جميع المكلفين.
كذلك يدل هذا الموضع من كتاب الله تعالى على أن للإنسان طاقة محددة إِلَّا وُسْعَهَا وهذا يدل على أن إمكانات الإنسان محدودة، إمكانات من الناحيتين، من ناحية القُدر العقلية والعلمية، ومن ناحية القُدر الجسدية، وهذا من رحمة الله بالعباد.
وأوضح ذلك بصورة أَبين: القُدر العلمية والإمكانات العقلية إنما يُطالب أن يُحدث الناس بقدر ما تحتمله عقولهم؛ لأن ذلك يكون فتنة لهم، ولهذا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن الإنسان لا يُخاطب فيما لا يدخل تحت قدرته العقلية، يعني القدرة الاستيعابية، لا يُخاطب في أمورٍ عقله لا يستوعبها، قدراته العقلية إمكاناته الذهنية لا تستوعب هذا الكلام فلا يُخاطب به؛ لأن ذلك يخرج عن مداركه وإمكاناته.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ومهما قيل له، ومهما شُرح، لن يفهم هذه المسألة ويفقه، ويُنزل هذه المعاني تنزيلاً صحيحًا، بل قد يحصل له ردود أفعال ويرتد عن الإسلام، أو يسوء ظنه بربه، أو يعتقد عقائد منحرفة على خلاف مراد الله -تبارك وتعالى، وهذا يُبين لنا خطأ بعض من يتجشمون أمورًا ليست مما يدخل تحت إمكاناتهم وقدراتهم العلمية والعقلية، يعني: ما تأهلوا لها.
شاب صغير وبيده دفتر، مسائل كِبار لو جُمع لها أهل بدر لربما توقف كثير منهم فيها، وهذا الشاب يريد أن يحل مشكلات الدنيا بأرجائها، يدور على هذا وهذا وهذا، في امتحان صعب وقلق يبحث عن إجابة لهذه الأسئلة التي لا تعنيه، ولن يسأله الله عنها، ولم يُكلف بها، ولم يُطالب بذلك، فهذه ليست له، وليست من شأنه؛ فيُحمل نفسه ما لا يُطيق، وقد يُخاطب بعض الناس ببعض المسائل من شرائع الإسلام ولم يتأهلوا لذلك؛ لحداثة عهدهم بالكفر مثلاً، ثم بعد ذلك يكون هذا سببًا لانتكاسةٍ ورِدّةٍ؛ لأنه لم يستوعب، فيعتقد أن الإسلام غير مُنصف، أو غير عادل مثلاً، أو غير ذلك من التصورات الفاسدة؛ لأنه غير مؤهل، لم يتأهل عقله وذهنه وقلبه لاستيعاب هذه القضايا، فلماذا نُفاتحه بها؟
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن من المسائل ما جوابه السكوت، ولا يكون ذلك كتمانًا للحق وإنما يكون ذلك تأجيلاً وتأخيرًا إلى وقت الإمكان"[1]، يعني: إلى أن يتهيأ هذا الإنسان، ويكون عنده من النُضج ما يستوعب فيه كبار المسائل؛ ولهذا في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79]، كثير من السلف فسروها: تعلمون الناس صغار العلم قبل كباره.
فمن الخطأ أن يُطالب الناس، وأن تُطرح قضايا كبار والناس بحاجة إلى قضايا دونها، يحتاجون أن يتعرفوا على المعبود معرفة صحيحة، يحتاج هؤلاء الناس أن يعرفوا كيف يتطهرون، كيف يصلون، كيف يعبدون الله ، كيف يصومون صيامًا صحيحًا، كيف يعتمرون عمرة صحيحة، حجًّا صحيحًا، فمن الخطأ أن يُمتحن الناس بقضايا كبار ليست من شأنهم.
"يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره"، فالرباني: هو الذي يُعلم الناس بقدر ما يحصل لهم، مراعيًا أحوالهم وقُدرهم، وما يصلح لمثلهم وما ينفعهم ويرفعهم.
هذا من الناحية الأولى، الإمكانات العقلية والعلمية، القُدر الاستيعابية عند هذا الإنسان، ما هي القُدر الذهنية؟
الجانب الآخر: القدرة الجسدية، قد يسأل إنسان عن مسائل لو عرفها لا يستطيع أن يقوم بها، ليس عند إمكانيات أن يُحقق ذلك، فمثل هذا هو غير مُطالب بها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لا تستطيع، لن تُسأل عن هذا، ولن تُحاسب عليه، والسؤالات في القبر ثلاثة احفظوها: من ربك، وما دينك، ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم.
لن تُسأل عن فلان وفلان، والواقعة الفلانية، والموقف من كتابة فلان ورد فلان، وكل واقعة في الدنيا ما هو الموقف منها، لن تُطالب بهذا، تتبع كل ما يجري في أرجاء المعمورة وأن يكون لك موقف وحكم في كل قضية، هذا من تحميل ما لا يُطاق، قضايا قد لا يستطيع الإنسان أن يعرف أصلاً ما لها من خلفيات وارتباطات وتعلقات حتى يُصدر الحكم الصحيح عليها، ثم بعد ذلك يُحمل نفسه شططًا، فيقع بسبب ذلك من الخلاف والجدل، ويتفرق الناس ويقع بينهم من التراشق والعداوات والتدابر والتقاطع، ما الله به عليم، والله لم يُكلف بهذا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وهذا أيضًا يدل على معنى آخر باللزوم، وهو إذا كانت قُدرات الإنسان وإمكاناته محدودة، فينبغي أن لا يتعدى طوره، الله -تبارك وتعالى- أخبر عن أعداء الرسل حينما جاءهم الرسل بالوحي من الله -تبارك وتعالى، قال: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [سورة غافر:83]، فهذا الفرح المذموم، الفرح نوعان: نوع محمود ونوع مذموم، فهذا كالفرح الذي كان عند قارون، فقال له أهل الرشاد من قومه: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76]، هذا الفرح الذي يحمل على التبختر والعلو والتجبر والخُيلاء، هذا هو المذموم، وإلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، فهذا الفرح مطلوب.
فالفرح ثلاثة أنواع:
- الأول: فرح مُباح، مثل فرح الإنسان بمال وتجارة تربح، وفرح بولد يولد له، وفرح بنجاح ونحو هذا، هذا لا إشكال فيه.
- النوع الثاني: الفرح المحمود شرعًا، الفرح بعز الإسلام وأهله، الفرح بطاعة الله ومواسم الخيرات، فهذا يؤجر الإنسان عليه.
- النوع الثالث: وهو الفرح المذموم.
فإذا عرف الإنسان أن القدرات والإمكانات عنده محدودة فإنه لا يشمخ بأنفه؛ ولهذا قال الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، أول صفة، يعني: أنه يمشي مشية سهلة ليس المقصود المتوامتة، لا، ليس فيها غطرسة، هونًا، وكذلك أيضًا وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لاحظ التعليل "إن" هنا تفيد التعليل والتوكيد، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37]، لاحظ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37]، متبخترًا، يقول: اعرف قدرك.
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37]، تخرق الأرض فُسر بمعنيين: قيل حينما يضرب برجله على الأرض مشية المُتجبر، يُقال: على هونك فهذا مثل ضرب الذرة أو النملة على الأرض لن يؤثر فيها لن يخرقها، ما هذه القدم الصغيرة الضعيفة وماذا عسى أن تؤثر في الأرض بضربها عليها إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37]، أنت أضعف من هذا.
المعنى الثاني: لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ الخرق بمعنى القطع كما قال في شواهد ابن مالك في الألفية: خاوي المخترق، وبعضهم يقول: المخترقًا، في هذا التنوين وهو الشاهد، خاوي المخترق، الشاعر يتمدح بنفسه أنه شجاع أنه يقطع الفيافي الشاسعة يخرقها، يخرقها بمعنى قطعها مثل يجوبها وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9]، ما معنى جابوا؟ قطعوه، خرقوه، يقطعونه، فتقول: فلان يجوب الأرض، يعني: يقطعها طولاً وعرضًا، جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9]، الجبال السلسلة المحيطة بهم كانوا يقطعونها ويتخذون في داخلها البيوت في الشتاء، ويتخذون القصور في السهول المرتفعة المحيطة بهم.
فلاحظ هنا لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37]، هذا حينما يضرب لن يخرق الأرض، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، حينما يرفع رأسه ويشمخ لتكبره وتجبره، ويقول: على رسلك، فالإنسان إمكاناته محدودة، قدراته محدودة، مهما كان مفتول العضلات، مهما كان كثير الخبرات، مهما كان كثير العلوم والمعارف يبقى محدودًا، فهذا الكسائي -رحمه الله- إمام الدنيا في زمانه في النحو إمام أهل الكوفة في القراءات، وله قراءة الكسائي وهي إحدى القراءات السبع، "جاء رجل وذكر له استدراكًا في مسألة إعرابية نحوية على خلاف رأيه، فبصق بمنديل، ثم قال ما عند النحاة لا يبلغ بصقتي هذه".
إمام جبل كبير مُلئ من العلم، يقول: "ما عند النحاة لا يبلغ بصقتي هذه"، ما الذي حدث؟ في مجلس هارون الرشيد الخليفة حضر هو واليزيدي الإمام المعروف، فتقدم الكسائي يُصلي المغرب فقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1] السور القصيرة فأخطأ في سورة قصيرة، إمام، ليُعلمنا الله -تبارك وتعالى- أننا مساكين نُخطئ في قِصار السور، فلما انصرف من الصلاة قال له اليزيدي: أنت إمام الكوفة ومقدمهم وتُخطئ في هذه السورة، طبعًا خلفه الخليفة هارون الرشيد، مُلكه يبلغ من سواحل المغرب إلى حدود الصين، حضرت صلاة العشاء تقدم اليزيدي، هذا أخطأ الآن الكسائي في سورة قصيرة، اليزيدي تقدم فأخطأ اليزيدي في الفاتحة، وهذا في ترجمتهما، أخطأ في الفاتحة الإمام اليزيدي، فلما انصرف من الصلاة قال له الكسائي: أقول لك فاسمع ما أقول: لا تشمت بأخيك فيُعافيه الله ويبتليك[2].
يُعرف الإنسان بقدره وإمكاناته، لماذا الإنسان ينتفش إذا صار عنده مال كثير؟ أو عنده علم في جانب من الجوانب، أو صار عنده قدرات وإمكانات حرفية ومهنية أو نحو ذلك، ويقول: أنا عندي وعندي وعندي، وحضرت مئات الدورات، وحضرت وحضرت.
الذي نعرفه أن كلام السلف يدور حول قضية في هذا الباب وهي أن: "العلم الخشية"، بمعنى: أنه كلما ازداد علمًا عرف أنه ضعيف وعاجز ومسكين، ويحتاج إلى أن يُخبت لربه ويتواضع ويُطأطأ رأسه، ولهذا قالوا: العلم ثلاثة أشبار:
الشبر الأول: يرى أنه قد حصل كل شيء، هذا أبو شبر هو المشكلة، وهو سبب المصائب والفتن والخلافات والتنقير عن المسائل التي لا تعنيه، يذهب إلى هذا وهذا، ويرد على هذا، ويرشق هذا، ويتكلم في هذا، ويعيب هذا، ولا يُحسن النقل، ولا يُحسن الفهم، ولا يُحسن السماع، أبو شبر، يشعر أنه فهم كل شيء، ويُخطئ ويصّوب ويتكلم.
والشبر الثاني يشعر أنه عالم، الشبر الثالث: يشعر أنه لا يعلم إلا قليلا، ولذلك تُعرض على الإمام مالك -رحمه الله- نحو تسعين مسألة يُجيب عن ثلاث أو أربع، والباقي يقول لا أدري، هؤلاء الكبار، "ويأتيه رجل من أهل المغرب من المغرب إلى المدينة على جمل، ويسأله عن مسألة ويقول: أنظرني أنظر فيها، ثم يتردد إليه اليوم الأول والثاني، ثم يأتي بعد ذلك براحلته، وقد حُملت يقول: أنا مُسافر، فأجبني عن مسألتي، قال: لا أعلم، قال: تقول: لا أعلم وأنت مالك إمام دار الهجرة عالم المدينة، فماذا أقول للناس: قال: قل لهم مالك لا يعلم"[3].
يقول: الذين أرسلوني بهذه المسألة ماذا أقول لهم، قال: قل لهم مالك لا يعلم، وهذا كثير يمكن أن يُجمع منه مُجلد بهذا الباب، فيما يُذكر عن العلماء من كثرة قول لا أعلم؛ ولهذا كان الإمام مالك يعيب على من يُكثر الجواب يقول: "مثل الجمل المغتلم"[4]، الجمل المغتلم: الجمل إذا صار في حال من الهدير، يقول: يتكلم في كل شيء، يعني يُجيب عن كل شيء، كل مسألة يُجيب عنها، "مثل الجمل المُغتلم" فهذا لا يُمدح ولا يُحمد، وإنما وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:85].
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ولهذا يقول الشيخ ابن سعدي -رحمه الله: بأن أصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانًا[5].
إذا أيقن العبد بهذا صار يُقبل على العبادة والتكاليف على أنها غذاء الأرواح، هي الزاد الذي يكون به قيامه وتنهض به قواه، فيُحب العبادة والطاعة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها[6]، بالصلاة، هذه التي يستثقلها بعض الناس النبي ﷺ كان يستروح بها، يجد راحة يجد طمأنينة، ولذلك انظروا إلى حال المصلين الذين ارتاضت نفوسهم بالصلاة، انظروا إليهم إلى وجوهم، وأحوالهم بعد الصلاة، ماذا ترون؟ تجد الراحة، تجد النعيم، نعيم الأرواح بعد هذه الصلاة، لكن الذي لا يصلي تجده في حال من الضيق، والله المستعان.
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286]، لَهَا مَا كَسَبَتْ لاحظ التعبير: "لها وعليها" لَهَا مَا كَسَبَتْ لها دون أن يُنقص من ذلك شيء، بل يُضاعف لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [سورة طه:112]، فيوفى إليه أجره، لَهَا مَا كَسَبَتْ يجده مرصودًا لا يضيع عند الله شيء.
ثم أيضًا: لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على أن الأعمال الصالحة كسب للإنسان ربح "لها وعليها" أن الأعمال السيئة والمعاصي أنها غُرم يحمله على ظهره، فهذا له، وهذا عليه، إذا أدركنا هذا المعنى عرفنا ما نُقدم عليه، وما ينبغي على العبد تحريه من العمل الصالح، واجتناب العمل السيء، "فـلها" جاءت في الحسنات و"عليها" في السيئات، الحسنات مما ينتفع به العبد، والسيئات؛ لأنها تضره، فقال: وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فلما كانت الحسنات مما يفرح به الإنسان ويغتبط ويطلبه، ويُسر به أُضيفت إلى ملكه "لها"، بينما السيئات أثقال وأوزار يحملها، فقال: وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فهي متحملات صعبة كما يقول القُرطبي -رحمه الله[7]، أعباء ثقيلة.
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مثل ما يُقال: لي مال وعليّ دين، عليّ غُرم، وهكذا أيضًا التفريق بين الكسب والاكتساب، في الحسنات قال: كسبت، وفي السيئات قال: اكتسبت، وقد ذكر العلماء توجيهًا لذلك حاصله: أن الكسب هو ما يحصله الإنسان من عمله المُباشر وغيره هذا الكسب، فالعبد يعمل الحسنة الواحدة ويُجزى عليها عشرًا، يهم بالحسنة فتُكتب له حسنة، ولو لم يعملها.
لكن الاكتساب يختص بما باشره الإنسان فقط، فلو عمل سيئة لم تُكتب عليه إلا واحدة لا يُضاف إليه سيئات وتُضاعف، وكذلك أيضًا حينما يهم بالسيئة فلا يعملها فإنها تُكتب حسنة لا تُكتب سيئة بمجرد الهم، فدل ذلك على أن الكسب في باب الحسنات يحصل بأدنى مُلابسة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[8]، أو كما يقول ابن جُزي الكلبي في التسهيل[9]، لكن السيئات التي تكون على النفس هذه تحتاج إلى اعتمال، تحتاج إلى مزاولة اكتساب؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، إذا زيّد في مبنى الكلمة حرف يدل على أن في هناك زيادة في معناها، كسب اكتسب، اكتسب فيها زيادة فدل على زيادة في المعنى، ما هذه الزيادة؟
أن السيئات -كما سبق- تحتاج إلى اعتمال لابد أن يُباشرها بنفسه، أنه لا يؤاخذ إلا بعمله فقط بقدره، وهذا يدل على غلبة فضل الله ورحمته -تبارك وتعالى، وأن رحمته سبقت غضبه لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، ولهذا قدم أيضًا لَهَا مَا كَسَبَتْ لأن رحمته سبقت غضبه، فهو بهذا يُخبر على كل حال أن ثمرة هذا التكليف لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ أن العائدة والغاية تعود إليكم معاشر المكلفين، أنتم المنتفعون بذلك بما يكسب العبد، وهو المُتضرر باكتسابه، ففي كسبه نفعه، وكذلك في اكتسابه للسيئات الضرر، فحينما أمرنا -تبارك وتعالى- ونهانا لم يكن ذلك لحاجة منه إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني[10]، وإنما إحسانًا إليهم ورحمة وتفضلاً وتكرمًا، ونهاهم عن ما نهاهم عنه، صيانة لهم، وحفظًا عما يؤذيهم ويضرهم، فهذا يؤخذ من هذا الموضع لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، فلاحظ هذا التقابل "لها وعليها"، "كسبت واكتسبت".
كذلك أيضًا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الصيغة هنا صيغة خبرية كما هو ظاهر، والمقصود بذلك الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.
على كل حال انتهى الوقت، بقي الدعاء الذي بعده رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، ونسأل الله لنا ولكم القبول، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من عتقاءه من النار، ويجعلنا وإياكم من المقبولين، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- المنتخب من كتب شيخ الإسلام (ص:207).
- تاريخ بغداد (13/ 345).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 61).
- الموافقات (5/ 332).
- تفسير السعدي (ص:120).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، رقم: (4985)، وأحمد (23088).
- تفسير القرطبي (3/ 431).
- مجموع الفتاوى (14/ 139).
- تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 142).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2577).