الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[9] قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ..} (1)
تاريخ النشر: ٠٣ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 3568
مرات الإستماع: 2125

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة نتحدث عن أواخر هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) وما يُستخرج من ذلك من الهدايات.

فالله -تبارك وتعالى- بعد أن علمنا كيف ندعو بالهداية إلى الصراط المستقيم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] ميّز هذا الصراط بحيث لا يلتبس بغيره، فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] والمعنى: أن هذا الصراط المستقيم هو صراط المُنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من هم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] فهذا تفسير لقوله -تبارك وتعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7].

من الذين أنعم عليهم؟ هم هؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى؛ وذلك من تفسير القرآن بالقرآن، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها، كما هو معلوم، فهؤلاء هم أهل الهداية والاستقامة، وقد أضاف الصراط إليهم - كما ذكرنا في الليلة - باعتبار أنهم السالكون له، فهم أهل سلوكه، فأضافه إليهم، وأضافه إليه -تبارك وتعالى- في غير هذا الموضع، فقال: صِرَاطِ اللَّه [سورة الشورى:53] باعتبار أنه هو الذي خطه ورسمه وشرعه، وأمر بسلوكه، ولا تجعلنا يا رب ممن سلك طريق المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق، ولم يعملوا به، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، وقد صح ذلك عن رسول الله ﷺ ويدخل فيه -كما سيأتي- كل من كان على شاكلتهم، وهم الذين عرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه.

وأما الضالون في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] فهم الذين لم يعرفوا الحق أصلاً فضلوا، وهؤلاء أولى من يدخل فيهم، ويصدق عليه هذا الوصف هم النصارى، فهم أهل ضلال، ومن كان على صفتهم ومثل حالهم.

فهذا الدعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] فيه شفاء لقلب المسلم من العِلل والأوصاب ومرض الجحود والجهل والضلال.

وفيه: دلالة على أن أعظم نِعمة على الإطلاق هي نعمة الهداية، والإسلام، فمن كان أعرف للحق وأتبع له، كان أولى بالصراط المستقيم، ولا شك أن أصحاب النبي ﷺ هم أولى الناس بذلك بعد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فدلت هذه الآية على فضلهم، وعظيم منزلتهم، ورفعة مرتبتهم، وقدرهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وأولى من يدخل في وصف الصديقية، وصار بمثابة العلم بالغلبة عليه، فهو أبو بكر الصديق لكمال صدقه، وتصديقه، فإذا كان أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- من أولى من يصدق عليه هذا الوصف، فهو من الذين أنعم الله عليهم، ونحن في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] فدلّ على منزلة أبي بكر وأن اتباعه، والاقتداء به، ومحبته من دعائم ومُقومات اتباع الصراط المستقيم.

فهؤلاء هم كِبار من يسلك هذا الصراط، ونسأل ربنا -تبارك وتعالى- دائمًا أن يُلحقنا بهم، وأن يسلك بنا سبيلهم وطريقهم وصراطهم، فهل يُعقل أن أحدًا يعقل هذا المعنى، ثم يلعن أبا بكر ؟! وأن يقول عنه بأنه هو الطاغوت، أو الجِبت، وأن عمر هو الطاغوت؟! هل يُعقل من يفهم عن الله -تبارك وتعالى- ويعقل كلامه، ويُردد هذه السورة، ويقول: يا رب اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ثم يكون بعد ذلك حربًا على الحق وأهله، ويكون ذابًا عن الضلال والانحراف والكُفر والشرك بالله -تبارك وتعالى؟! فأين هذا من الهداية إلى الصراط المستقيم؟! هذا أبعد ما يكون عن الهداية.

فدلت هذه الآية على منزلة أصحاب النبي ﷺ من هذا الوجه، وعلى فضل أبي بكر الصديق على سبيل الخصوص.

فهذه هي الآيات من هذه السورة، وهذا المراد بها من جهة المعنى باختصار، أما قول القائل بعد ذلك: آمين، فهو بمعنى استجب، لكنه ليس من الفاتحة بالإجماع، وإنما هو دعاء يدعو به، ومعنى ذلك: اللهم استجب.

بعد ذلك نشرع في ذكر الفوائد:

فحينما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] حقيقة الصراط المستقيم -كما عرفنا- هو معرفة الحق، والعمل به، فقد يعرف الحق، ولكن لا يعمل به، فلا يكون من أصحاب الصراط المستقيم؛ لأن الله -تبارك وتعالى- بيّن من انحرفوا عنه، وهم أهل الغضب الذين عرفوا الحق فتركوه، وأهل الضلال الذين لم يعرفوا الحق أصلاً، فعملوا بلا علم، فصار الصراط المستقيم بمعرفة الحق معرفة صحيحة، وكذلك أيضًا اتباع هذا الحق، ولزوم الصراط المستقيم.

فلا بد لمن أراد أن يتحقق من ذلك من أمرين: لا بد له من العلم الصحيح، والعلم الصحيح لا يتنزل علينا هكذا وحيًا يوحى، وإنما الوحي للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أما غير الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- فكما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحِلم بالتحلم[1] فيحتاج المرء إلى أن يطلب العلم، ويبذل جُهده في طلبه، وأن يصبر على ذلك، فإن العلم فيه مشقة في الجلوس، ويحتاج إلى صبر، وفيه مشقة أيضًا على النفس من جهة أنه يحتاج إلى تطامن، فالماء إنما يجتمع في المطامن، ولا يجتمع في الأعالي.

فهذا الذي يجلس في مقام التلقي والتعلم يحتاج إلى شيء من التواضع، وكثير من الناس لا يوفق لهذا، ولا يُهدى إليه؛ لأن فيه نوع كِبر يترفع من أن يُرى في مجالس التلقي والأخذ والتعلم، فيحتاج الإنسان إلى صبر؛ وذلك أيضًا فيه انقطاع عن أشغال وعن شهوات وعن أمور ربما تنجذب إليها النفس، وربما يقطع الإنسان وقت راحته ونومه ونحو ذلك، ويصبر على السهر والجلوس الطويل في طلب العلم، فكما قيل: من رافق الراحة فارق الراحة في وقت الراحة، ولكن من كانت بدايته مُحرقة كانت نهايته مُشرقة، الذي تحمل وصبر وجد واجتهد، بعد ذلك تكون عاقبته مُشرقة، ويكون في حال من العلم والعمل، ويكون بذلك في منزلة عند الله -تبارك وتعالى.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] صراط الذين أنعمت عليهم هذا تصريح بعد إبهام، يعني: كأنه حينما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] قد يتساءل السامع أو القارئ: ما هو الصراط المستقيم؟ فجاء التفصيل بعد الإجمال؛ وذلك فيه ما فيه من تشويق النفوس إلى معرفته، وتهيئتها لتتلقى المُراد بهذا الصراط المُستقيم، فيكون ذلك أدعى إلى الفهم والاستيعاب لما حصل من جذب الانتباه. 

وهذا الأسلوب اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيه أيضًا تأكيد معنوي، وأيضًا فيه تقرير حقيقة هذا الصراط أنه طريق المُنعم عليهم، وكذلك هو مُجانب لطريق أهل الغضب، وأهل الضلال، فيحصل بذلك تحقيق مفهوم هذا الصراط، فيحصل ذلك المفهوم للسامع أو للقارئ مرتين؛ في المرة الأولى حينما أجمله ووصفه بالاستقامة، ثم بعد ذلك حينما أضافه إلى المُنعم عليهم، وميّزه من طريق أهل الغضب والضلال.

فقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] بدل من قوله: الصراط المستقيم، فكأنه على نية تكرار العامل، كأنه قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، فهذه الإعادة وهذا التكرار يُشعر بأهمية هذا الصراط أنه لشدة الحاجة إلى معرفته وخطورته، وأن من انحرف عنه فقد ضاع الضياع الحقيقي، احتاج إلى تمييز وبيان كامل، بحيث لا يقع فيه أدنى التباس؛ وليكون ذلك صادقًا وظاهرًا في طريق المسلمين، ويكون ذلك شهادة لهذا الطريق الذي يسلكونه بأنه موصوف بالاستقامة على أبلغ الوجوه وآكدها.

فالمقصود: أن هذه الجُمل يوضح بعضها بعضًا توضيحًا لا يدع في الحق لبسًا، فهذا كله يدل على قيمة هذا الصراط؛ لأنه يترتب على معرفته من عدمها: الفلاح، والخسارة، فإن الفلاح إنما يتحقق بمعرفته ولزومه، والخسارة تكون إما بالجهل به، أو بمُجانبة سلوكه.

وتأمل قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيه إشارة إلى هؤلاء، وبِشارة للمُهتدي أنه ليس وحده على هذا الطريق، يعني: كأنه يقول: حينما تستشعر أنك في غُربة لقلة السالكين وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] فينبغي أن لا تضيق بذلك، فهذا الطريق قد سلكه سالكون قبلك من الأئمة الكِبار، والرجال العِظام من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ومن سلك سبيلهم من أتباعهم، فلست أول من يسلك هذا الطريق، وهذا يحصل به ما يحصل من الأُنس، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، فاسلك سبيلهم.

فالإنسان حينما يُقرر أن يسلك طريقًا في سفر، أو يُجري عملية، أو نحو ذلك، مما قد يتعاطاه من الأمور المخوفة التي يتخوفها، فحينما يُقال: هذا العمل وهذه العملية وهذا الطريق في السفر سلكه قبلك سالكون، لك فيهم أسوة، فلان وفلان وفلان وفلان، فيخف ذلك عليه، ويتسلى به، ويشعر أنه ليس ببِدع فيه، وأنه ليس بمُنفرد في سلوك هذا الصراط، فيشعر بالأمان، ويشعر بالراحة، ويشعر بالطمأنينة، ومن ثَم فإنه لا يكترث بأولئك الناكبين عن هذا الصراط المستقيم.

وهذا هو السر -والله تعالى أعلم- بإضافة الصراط هنا إلى المُنعم عليهم، ولم يكتف بوصفه بالاستقامة، فحينما يكون الإنسان في حال من الانفراد أو الغُربة فقد يشعر أنه وحده، ثم تُنازعه نفسه لماذا تنفرد عن هؤلاء الجموع؟ ولماذا لا يكون الإنسان كغيره من الناس، كل الناس يفعلون كذا، كل الناس يتعاطون كذا، وكثير من الخلق إنما يكون عملهم واقتدائهم بالأكثر، مع أن الله -كما سبق- يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] ويقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الأنعام:116] ليس بعد هذا شيء في الإيضاح والبيان، إذًا: لزوم الحق واتباعه هو طريق القِلة من الناس، لكن هذه القلة هم الخُلاصة، هم أهل الإنعام الذين أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم.

فقال الله -تبارك وتعالى- بعد الإجمال في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] وذلك أنه لما كان طالب الصراط المُستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مُريدًا لسلوك طريق مُرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وعلى الأُنس بالرفيق[2].

ومن هنا نبه الله -تبارك وتعالى- على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا، فأضاف الصراط إلى الرفيق، السالكين له، وهم هؤلاء المُنعم عليهم؛ ليزول على الطالب للهداية، وسلوك الصراط: وحشة تفرده عن أهل زمانه، وبني جنسه؛ وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بعد ذلك بمُخالفة الناكبين له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف : "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين"[3].

فكلما استوحشت في تفردك، فانظر إلى الرفيق السابق، انظر إلى أولئك الكِبار الذين سلكوا هذا الطريق قبلك، واحرص على أن تلحق بهم، مع غض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.

وضرب ابن القيم -رحمه الله- بعد ذلك مثلين لهذه الحال من أحوال السالك، فقال في الأول: هو رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلامًا يؤذيه، فوقف، ورد عليهم وتماسك، يعني: اشتبك معه، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمُنازعته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما ضعُفت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته، أو أكثر، فإن أعرض عنه، واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه شيئًا[4].

يقول: لا تلتفت إلى هؤلاء الذين يعوقونك في سلوكك، أيًّا كان نوع هؤلاء المعوقين؛ ولذلك كان الإمام أحمد -رحمه الله- يُحذر ابنه من بُنيات الطريق[5] إذا سلكت الطريق سيتصايح بك أُناس من ها هنا وها هنا، فهذا يعيبك، وهذا يغمزك، وهذا يلمزك، وهذا يرميك بما أنت منه بريء، وكما جاء عن عثمان : أن المرأة الزانية تحُب أن كل النساء زواني[6] فهؤلاء يشق عليهم ويسؤوهم أن يروا أهل الطُهر والنزاهة والعفاف والشرف والدين والصيانة يسلكون الطريق، وأولئك يتخبطون في الوحل.

فالمرأة المُتبذلة المُتكشفة المتهتكة يشق عليها أن ترى امرأة من ذوات الصيانة والحِشمة والطُهر والعفاف والفضيلة، فترميها بالقبائح، وتلمزها وتغمزها بالتخلف، وأنها رجعية، وقروية، وبدوية، وأنها من أهل القرون القديمة، وما إلى ذلك من العِبارات، مع أن القضية واضحة، والله -تبارك وتعالى- يمتن على عباده فيقول: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] فهذا اللباس الذي يحصل به ستر العورات التي نزعها إبليس من الأبوين في الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [سورة الأعراف:27] فهذا فعله، وكانا في الجنة بحال من الستر، ولكنه بعد الإغواء حصل ما حصل يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ولكن داعي الفطرة وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [سورة طه:121] هذه هي الفِطر السليمة، فإذا دُنست بفعل شياطين الإنس والجن، صار العُري ذوقًا، وصار العُري تقدمًا وتحضرًا وحُرية، وصارت المرأة التي تتهتك وتتكشف وتعبث بحجابها امرأة تقدمية ومُتحضرة ومُتطورة، وعصرية، كما يُقال، وما علمت أن ذلك هو فعل أهل الجهل والجهالة، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [سورة الأحزاب:33] فالتبرج منسوب إلى الجاهلية، والجاهلية مُشتقة من الجهل، وكفى بذلك قُبحًا وتنفيرًا للنفوس عن تعاطي مثل هذه الأمور.

فهذا السالك إلى الله -تبارك وتعالى- على هذا الصراط المستقيم حينما يشوش عليه الآخرون ويُقلقونه ويُزعجونه بالغمز واللمز والهمز والنبز، وما إلى ذلك، ويلقبونه بالألقاب القبيحة، ويشغبون عليه، ينبغي ألا يلتفت إلى ذلك، وإنما يكون شغله واهتمامه بتصحيح سيره على الصراط المستقيم، ومُحاسبة نفسه، وعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فيكون دائمًا مُحاسبًا نفسه، ويكون مُتجددًا في إيمانه وعمله وصلاحه وتقواه، فهذا المثل الأول الذي ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله .

وذكر المثل الثاني للسالك الذي يلتفت لهؤلاء النابحين الذين يصيحون به فيعوقونه، فيقول: الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحس به، يعني: إذا كان هذا الظبي في حال الانطلاق والسرعة، وصار في حال من الشعور بأن الكلب يصيح به، وأنه قرُب منه، تحين منه التفاتة، فإذا التفت الظبي ضعفُت قواه، وهبط عزمه، ثم بعد ذلك يضعف سيره وسعيه وانطلاقه، فيثب عليه الكلب، ويكون بعد ذلك فريسة له[7] هذا هو الطريق.

فالشيطان يُلقي إليك الخواطر والوساوس والأمور المُزعجات المُقلقة، ويشوش عليك هذا السير، تارة يُشكك ويُلبس عليك، ويُلقي عليك الخواطر في العقيدة مما يتعاظم الإنسان أن يذكره أو يتحدث به، وتارة يُقلقك في أمور الصلاة أو الطهارة، أو غير ذلك من الأمور، ويُلقي في قلبك مخاوف ووساوس، ويُلقي في قلبك القلق وأمورًا من هذا القبيل، مما ينتاب الإنسان، فلا تلتفت، فإنك إذا التفت إليه فإنه يقوى، وعزم الإنسان يضعف، فما يلبث به حتى يُدركه، ثم يتسلط عليه، فيبدأ يشتغل بالإعادة بعد الإعادة بالطهارة، أو في تكبيرة الإحرام، أو في قراءة الفاتحة، أو نحو ذلك، يُعيدها عشرات المرات، ويخرج الوقت وهو لم يُصل. 

ثم يأتيه الشيطان ويقول له: ما هذا العناء؟ وما هذا الشقاء؟ ثم يُغريه بترك الطهارة، ثم بعد ذلك يأتيه ويقول: ما فائدة الصلاة بلا طهارة، فيترك الصلاة، ثم بعد ذلك يرقص الشيطان على صدره وهامته، ويكون قد بلغ مُراده منه، فانظروا كيف يبدأ؟ بنصائح في البداية، وبثوب الناصح: أنك تحتاج إلى تطهر، وأنك لم تنطق بتكبيرة الإحرام بالوجه المطلوب، ومتى صار الشيطان ناصحًا؟ فإذا أطاعه، والتفت إليه، لعب به لعب الصبيان بالكُرة.

إذًا لا تلتفت، خواطر يُلقيها لك، وساوس يُقلقك يُزعجك، فلا تلتفت، فهذا هو الحل لأهل الإيمان، وهو حل جذري لأهل الوسوسة، ولا يحتاج إلى مُستشفى أو طبيب ولا عقاقير، لا تلتفت فإذا التفت بدأ الشيطان يعمل عمله، ويسعى سعيه.

والمقصود - أيها الأحبة - أن الله من رحمته ذكر لنا في وصف هذا الصراط، وذكر الرفيق من أجل أن نجد ونجتهد ونُشمر علنا أن نلحق بهم.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مُهتدين -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (2663) والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (10254) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: (2328). 
  2.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 45).
  3.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46). 
  4.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46).
  5.  لم أجده من وصية أحمد لابنه وإنما هو في الورع لأحمد رواية المروزي (ص:127): قلت لأبي عبد الله: إن الفضيل يروى عنه أنه قال: لا يزال الرجل في قلوبنا حتى إذا اجتمع على مائدته جماعة زال عن قلوبنا، قال: دعني من بنيات الطريق، العلم هكذا، يؤخذ انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه. 
  6.  هو في المبدع في شرح المقنع (8/ 320): قال: قال ابن المنذر: وما روي عن عثمان أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين، لا أعلمه ثابتًا عنه، وكيف يجوز أن يثبت عثمان كلامًا بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره.
    وهو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:34): وقال عثمان بن عفان : ودت الزانية لو زنى النساء كلهن.
    وينظر أيضًا: الاستقامة (2/ 257) ومجموع الفتاوى (28/ 151). 
  7.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46).

مواد ذات صلة