بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93] أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد ﷺ وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم؛ إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله.
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:94-96].
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- يقول الله تعالى عن نبيه محمد ﷺ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله ﷺ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي بعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات، وقال الضحاك عن ابن عباس -ا فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ فسلوا الموت.
وروى عبد الرزاق عن عكرمة قوله: فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قال: قال ابن عباس -ا: لو تمنى يهود الموت لماتوا.
وروى بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا- قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحه إلى ابن عباس -ا.
وقال بن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي ﷺ قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً[1].
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجمعة:6-8] فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] دُعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بم هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم.
وهذا كما دعا رسول الله ﷺ وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة فقال: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [سورة آل عمران:61] فلما رأوا ذلك، قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة ابن الجراح أمينا.
ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [سورة مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه -إن شاء الله تعالى.
وقد فسرت الآية بتمني الموت دون التعرض للمباهلة والأول أولى، وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولاسيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة، لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فقوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] هذا التمني ظاهره أن المراد به والله أعلم التشهي، وهو التمني المعروف، وهو أن يتشهى الإنسان المتمني حصول شيء يريده ويطلبه، أو يريد وقوعه كما يتمنى الإنسان أن يكون له الولد أو المال أو يتمنى أن يحصل له أمر محبوب في الدنيا أو في الآخرة، أو أن يحصل لغيره أمر محبوب أو مكروه
تمنى رجال أن أموت فإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
فهذا التمني بمعنى التشهي، فقوله: فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة: 94] يفسر بالتمني المعروف، أي أنهم يرغبون في حصوله لهم بما يعلمون ما لهم من المنزلة عند الله لأنهم يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة لن يدخلها إلا من كان يهودياً كما قال -تبارك وتعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] يعني اليهود يقولون: إلا من كان يهودياً، والنصارى يقولون: إلا من كان نصرانياً، فـ"أو" هذه للتنويع والتقسيم.
فهو سبحانه يقول لهم: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا الموت لما تفضون إليه بعده من الراحة والنعيم والزلفى من الله -تبارك وتعالى- فأنتم تعلمون مآلكم ومصيركم، فما البقاء في هذه الحياة وهي دار النكد والتعب والشقاء والكبد، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في نفس الآية: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] وكذلك في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [سورة الجمعة:6]، ولهذا قال بعده: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة الجمعة:7] فهذا ما قبله وما بعده يدل على أن تمني الموت هو التمني المعروف.
القول الآخر الذي رجحه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهو اختيار الحافظ ابن القيم أيضاً أن المقصود بتمني الموت هنا الدعاء به على سبيل المباهلة، والمباهلة معروفة وهي الدعاء على المبطل من الفريقين بالهلاك أو الموت أو نزول العقوبة التي تعجل به في الدنيا، كما دعا النبي ﷺ نصارى نجران إلى المباهلة.
والذي يشهد لهذا القول عندهم هو أن اليهود قد يكون الواحد منهم فقيراً معدماً إلى حد أنه يتمنى الموت على ما يعانيه من الفقر، وقد يكون مريضاً فيشتد به المرض فيتمنى الموت ليستريح من هذا المرض لفرط جزعه، فقالوا هذا يوجد في الدنيا، إذاً هذا على سبيل المباهلة لأنهم لن يقدموا على هذه المباهلة لعلمهم بأنهم على الباطل، هذا هو توجيه هذا القول.
وعلى كل حال وجود أفراد من اليهود على مر العصور والأزمان بحيث يتمنى الواحد الموت عن الحياة لضر نزل به هذا لا يخرم القاعدة العامة من تمسكهم بالحياة ومحبتهم لها، ولهذا قال الله : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] والتنكير هنا يؤخذ منه معنى وهو أنهم يحرصون على حياة ولو كانت بائسة لا قيمة ولا معنى لها، فهم يتمسكون بأهداب الحياة مهما كانت حقيرة حيث يأباها الحر الكريم عزيز النفس فالحياة عندهم هي كل شيء ولو كانوا يفقدون معها كل معاني الإنسانية، ولهذا قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة البقرة:96] كما سيأتي في معناه، فهم أحرص من المشركين الذين لا يؤمنون أصلاً بالبعث والآخرة فأهل الإشراك ليس لهم أصلاً إيمان بالحياة الأخروية فهم بالتالي يتمسكون بهذه الحياة إلى آخر نفس لا يرجون داراً بعدها وحياة يؤولون فيها إلى النعيم، فهؤلاء أشد الناس حرصاً على الحياة، وأحرص منهم هؤلاء اليهود الذين علموا بالبعث وعلموا بمصيرهم بعد البعث.
فالمقصود أن الآية تحتمل هذين المعنيين، ولربما كان الظاهر المتبادر والذي يشهد له قرينتان في نفس الآية قبله وبعده، قبله هو قوله: إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ [سورة البقرة: 94] وبعده هو قوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] كل ذلك من القرائن التي لربما يفهم منها أن المقصود به التمني بمعنى التشهي، أي أطلبوا الموت لتستريحوا من عناء هذه الحياة فيكون هنا تمني الموت بمعنى الرغبة في حصوله وليس ذلك بالدعاء به على سبيل المباهلة، والله تعالى أعلم.
ولهذا قال تعالى: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:95-96] أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم، وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم.
روى بن أبي حاتم عن ابن عباس -ا، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ قال: الأعاجم، وكذا رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
وقال مجاهد: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة البقرة:96]، قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر.
قوله: الأعاجم هذا من قبيل التفسير ببعض ما يصدق عليه المعنى، وإلا فهي في الأعاجم وفي غيرهم، وبعض السلف ينقلونها عن بعض الأعاجم تحية يحي بعضهم بعضاً معناها: عش ألف سنة، ينقلونها بالفارسية عش ألف سنة، لكن هذا لا يختص بالأعاجم، حتى نقل ذلك عن العرب، فمن قال: إنها في الأعاجم فليس المراد بذلك الحصر في الأعاجم؛ فإن الأعاجم لا مزية لهم في هذا على غيرهم وإنما هي في عموم أهل الإشراك من العرب والعجم؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة والأصل بقاء العام على عمومه ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
قوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ [سورة البقرة:96] فقوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ هل هو كلام جديد مستأنف بدأ يتحدث عن المشركين أم أنه متصل ومرتبط بما قبله؟
هذا الآية تحتمل ثلاثة معاني من هذا الجهة، الأول -ولربما كان هو المتبادر- وهو أن المعنى هكذا وَلَتَجِدَنَّهُمْ أي اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ أيَّاً كانت مهينة أو رفيعة، شريفة أو وضيعة.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يعني وأحرص من الذين أشركوا أيضاً؛ لشدة حرصهم على الحياة أنهم فاقوا في هذا الحرص أهل الإشراك الذين لا يؤمنون أصلاً بالآخرة، فهذه الحياة هي الغاية عندهم، حيث قالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [سورة الجاثية:24] فالمقصود أنهم أحرص من المشركين.
ثم إن قوله: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ يرجع إلى اليهود، هم أحرص الناس على الحياة وأحرص من المشركين قد بلغوا غاية الحرص حتى فاقوا المشركين، حتى إن أحدهم ليود -يعني اليهود-لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ [سورة البقرة:96] فالكلام هذا كله في اليهود، حيث بين شدة حرصهم على الحياة فهم أحرص من المشركين حتى إن أحدهم من اليهود يود لو يعمر ألف سنة، هذا هو الظاهر المتبادر.
والاحتمال الثاني: أن يكون الكلام مستأنفاً، أي في قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ فبعد أن تحدث عن اليهود أنهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ انتقل إلى طائفة أخرى تحرص على الحياة، وهم أهل الإشراك، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ يعني المشركين لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ فالكلام كله في المشركين حيث ذكر حرص اليهود وذكر حرص طائفة أخرى على الحياة وهم أهل الإشراك وهم لا يؤمنون بالبعث، وهذا قال به جمع من أهل العلم وهو أبعد هذه الأقوال الثلاثة، وإن كانت الآية تحتمله.
والمعنى الثالث وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يعني ولتجدن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من أهل الإشراك الذين يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، يعني يكون معنى يود يعود إلى المشركين، فاليهود هم أحرص الناس على حياة حتى فاقوا أهل الإشراك الذين يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وهذا المعنى الأخير الثالث هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
والخلاصة أن الآية لها ثلاثة معاني:
الأول: أن يكون قوله: يَوَدُّ عائداً إلى اليهود، فهم في غاية الحرص حتى فاقوا المشركين بحيث صار الواحد من اليهود يتمنى أن يعمر ألف سنة.
والثاني: أن اليهود أحرص الناس على حياة وأيضاً يوجد طائفة أخرى حريصة على الحياة وهم أهل الإشراك الذين يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.
والمعنى الثالث: أن اليهود أحرص الناس على حياة حتى فاقوا أهل الإشراك وأحرص من المشركين الذين يود أحدهم -أي المشركين- لو يعمر ألف سنة ولربما كان الأقرب لظاهر القرآن والله تعالى أعلم هو أن يكون المعنى هكذا، ولتجدن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من أهل الإشراك حتى إن اليهودي يتمنى لو عمر ألف سنة ولكن ذلك لا ينفعه.
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ أي ما هو بمنجيه من العذاب، الزحزحة هي التحريك، زحزحته بمعنى حركته، مزحزحه أي أن ذلك ليس بمباعد له وناقل له من العذاب، أي فليس ذلك بمباعد له من العذاب.
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ الهاء هنا تحتمل أن تعود على يود أحدهم أي بمزحزح أحدهم، فتكون عائدة إلى المذكور من قوله: أَحَدُهُمْ أي وما هو بمزحزح أحدهم عن العذاب لو عمر ألف سنة.
والمعنى الثاني: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ أي ذلك التعمير وطول البقاء من العذاب، أي ليس ذلك بمباعده من العذاب، أي أن الضمير يرجع إلى التعمير.
وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً الموت فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودَّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس بمزحزحه من العذاب لو عمِّر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً.
وقد ود هؤلاء: يعني على الإشراك على قول عبد الرحمن بن زيد.
يعني أن بصره نافذ فيهم.
وربما لم يشر الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالى- هنا لماذا كانت المباهلة بالموت، وأن ذلك كان لشدة حرصهم على الحياة التي هي أغلى شيء عندهم، والموت بالنسبة لهم من أصعب الأمور.
والمباهلة لون من المحاجة يدعى فيها على المبطل من الفريقين بالهلاك.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بأنه قد عرف بالاستقراء والتتبع أن المباهل المبطل لم يمهل أكثر من سنة واحدة؛ حيث لا يدور عليه الحول إلا وقد نزل به ما دعي فيه في المباهلة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه أبو يعلى في مسنده برقم (2604) (ج 4 / ص 471) و قال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.