الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[36] من قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} الآية 97 إلى قوله تعالى: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الآية 103
تاريخ النشر: ١١ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 7232
مرات الإستماع: 4871

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:97-98].

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسبب نزول هذه الآية هو أن اليهود ذكروا أن جبريل -عليه الصلاة والسلام- عدو لهم كما نقل عليه الإجماع ابن جرير -رحمه الله تعالى- والروايات الواردة في هذا كثيرة، وكثير منها لا يصح من جهة الإسناد، ولكن بعضها صحيح وهذا الصحيح منه ما ليس بصريح في سبب النـزول من جهة العبارة واللفظ، يعني تجد مثلاً في الرواية: فقرأ رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ وتجد في بعضها عبارات ليست بصريحة. 

وقد عرفنا في بعض المناسبات أن العبارة الصريحة في سبب النـزول هي أن يذكر حادثة أو سؤال ثم يقول: فأنزل الله الآية، فأنزل الله كذا، أو يصرح ويقول: سبب نزول هذه الآية كذا.

أما إذا قال: فقرأ رسول الله ﷺ أو فقال رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ مثلاً، أو نزلت هذه الآية في كذا، فإن هذا يحتمل أن يكون من قبيل سبب النـزول، ويحتمل أن يكون من قبيل التفسير، فالروايات الصحيحة منها ما ليس بصريح في أنه سبب نزول، ولكنك إذا تتبعت الروايات الواردة وجمعتها تجد فيها ما يصرح بذلك، ولذلك فالإنسان لا يستعجل في مثل هذه القضايا، ويقول: هذه الرواية ليست بصريحة؛ لأنك تجد في روايات أخرى أحياناً للحديث عبارة صريحة، فيكون ذلك إنما يرجع إلى نقل الرواة، وقد تجد في الحديث الواحد في أوله ما هو غير صريح، وفي آخر الحديث ما يصرح بأنه سبب النزول، وهذا موجود.

فالمقصود أن سبب نزول هذه الآية هو قول اليهود هذا، ولعل من أصح ما ورد فيه هو أن أولئك النفر من اليهود سألوا النبي ﷺ عن مسائل متعددة، فأجابهم ﷺ وهم يعلمون أنه لا يعرف الجواب إلا نبي، فأجابهم النبي ﷺ عن تلك المسائل، وبعد ذلك سألوه عمن يأتيه بالوحي؟ فلما أخبرهم أنه جبريل -عليه الصلاة والسلام- أخبروه بأن جبريل عدوُّهم، وكان ذلك في زعمهم سبباً لتكذيبهم وكفرهم، فأنزل الله حيث قالوا: لو كان ميكائيل لاتبعناك، فهم يقولون: إن جبريل ﷺ هو الذي يأتي بالعذاب والقحط وأن ميكال هو الذي يأتي بالخصب والأرزاق، ومعروف إفكهم وكذبهم على الله وعلى رسله وذلك ليس بمستبعد منهم فهم من معادن الشر، والكفر كما هو معلوم.

وجاء في بعض الروايات أن عبد الله بن سلام لما قدم النبي ﷺ مهاجراً إلى المدينة أتاه فسأله عن مسائل، ثم سأله عن صاحبه، فأخبره أنه جبريل فأخبر عبد الله بن سلام النبي ﷺ بأن جبريل عدو اليهود، وفي بعض الروايات أن ذلك أيضاً وقع لعمر لما دخل على بعض اليهود في مكان دراستهم وعبادتهم، فسألهم عن النبي ﷺ ثم بعد ذلك جرى بينهم محادثة، وأخبروه أن الذي يمنعهم من اتباعه -عليه الصلاة والسلام- أن جبريل هو الذي يأتيه بالوحي، فجاء ليخبر النبي ﷺ فوجد الوحي قد سبقه بقوله تعالى:قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا [سورة البقرة:97].

هذه خلاصة لأشهر الروايات الواردة في هذا المعنى، وأصح ما جاء في ذلك هي رواية أولئك النفر الذين جاؤوا للنبي ﷺ فسألوه عن مسائل، فأخبرهم فسألوه عن صاحبه فقال: إنه جبريل، فكان منهم ما كان.

قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97] القاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وعلى هذا فَإِنَّهُ يعني جبريل ﷺ ونَزَّلَهُ يعني نزل القرآن، وهل جرى للقرآن ذكر؟ لم يجر له ذكر، وهذا مثال على ما ذكرنا مراراً من عود الضمير إلى غير مذكور لكنه يفهم من السياق، فالقرآن ما ذكر، فعاد الضمير إليه لأن هذا يفهم من السياق، وهذا أسلوب عربي معروف، وقد سبق ذكره مراراً.

ويكون معنى الآية وهو المتبادر قل من كان عدوا لجبريل فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وأما ما قيل من أن المراد من كان عدواً لجبريل فإن الله نزله يعني جبريل على قلبك ففيه بعد، وفي الآية قرينة ترده وهي قوله -تبارك وتعالى: مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97]، والمصدق لما بين يديه هو القرآن كما جاء وصفه في مواضع من كتاب الله .

إذن: يكون المعنى فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ يعني القرآن، عَلَى قَلْبِكَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والله تعالى أعلم. 

وهذه طريقة في الترجيح بين الأقوال التي يذكرها المفسرون وهي أن يوجد في الآية قرينة تدل على رجحان قول أو ضعف آخر، وهذا مثال عليها.

قال البخاري: قوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ قال عكرمة: جبر، وميك وإسراف عبد، و "إيل" الله.

يعني أن جبر وميك وإسراف بمعنى العبد، يعني المقصود أن هذه الكلمات الأعجمية مركبة تركيباً إضافياً كما تقول: عبد الرحمن، عبد الله، عبد العزيز، فتكون جبر كلمة وإيل كلمة جبرائيل، إذا قلنا: إن اللفظة الثانية هي بمعنى الله -وهذا هو المشهور عند كثير من أهل العلم- فإن ذلك يجعلها ذات معنىً متساو، بمعنى أن جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكل هؤلاء جميعاً بمعنى عبد الله، وهذا أمر فيه إشكال لأن هذه الألفاظ مختلفة. 

ولذلك فإن بعض أهل العلم عكس القضية فقال: اللفظ الموحد هو بمعنى عبد، واللفظ الموحد فيها كلها إيل، قالوا: إيل هو عبد، واللفظة الثانية اسم، كما تقول: عبد الجبار، عبد العزيز، عبد الرحمن، فتكون إيل عبد، وهذا ليس بمستغرب، وعللوا ذلك بأن الأسماء الأعجمية في الإضافة يكون المضاف فيها مؤخر، يعني عكس ما عندنا، فالأسماء الأعجمية المركبة عندهم مثل: إسلام أباد، حيدر أباد، فيصل أباد، فما معنى أباد؟

كأنها بمعنى بلاد، فالأولى: بلاد الإسلام، والثانية بلاد فيصل، والثالثة بلاد حيدر وهكذا.

ومثل ذلك: كلمة (ستان) تركستان، باكستان، أوزبكستان، كأن كلمة ستان معناها أرض، وبالتالي فالمعنى، فبعض أهل العلم يقول: اللفظ الموحد الذي هو (إيل) هذا بمعنى عبد، وتلك أسماء لله بالأعجمية، ومثل ذلك إسرائيل قالوا: معناه عبد الله، والعلم عند الله .

وقوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98] فيها لغات كثيرة، فجبرائيل فيه عشر لغات، وميكائيل يذكرون فيه ست لغات ولسنا بصدد ذكرها، ولا حاجة إلى ذلك في نظري، ومن شاء راجعها في بعض كتب التفسير فإنهم يذكرونها، فعلى كل حال ليس مقصودنا هو التوسع في ذكر شيء من ذلك، وإنما بيان وجه ما يذكره ابن كثير -رحمه الله- والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق.

ثم روى عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ﷺ وهو في أرض يخترف.

يخترف معناه يجني الثمر.

فأتى النبي ﷺ فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً قال: جبريل؟ قال: نعم قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة؛ فقرأ هذه الآية: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97].

هذه الرواية غير صريحة حيث قال فيها: فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، بمعنى أنها قد تكون نزلت قبل ذلك فقرأها النبي ﷺ عليه، فلو بقينا مع هذه الرواية فقط لم نحكم بحال من الأحوال أنها سبب النزول؛ لأنها غير صريحة، ولأنه يحتمل أن يكون ذلك قاله رسول ﷺ في هذه المناسبة وإن لم يكن نزل بسببها، ولكن إذا نظرنا إلى الروايات الأخرى نجد منها ما هو صريح في اللفظ، بأنه سبب النـزول، ولذلك هذه الرواية ثابتة صحيحة ولكنها غير صريحة. 

ولذلك إذا أردنا أن نرجح ما هو سبب نزول الآية فإننا نستطيع أن نقول بإجمال: إنه ما وقع من اليهود من قولهم وزعمهم بأن جبريل عدوهم، لكن إذا أردنا أن نرجح ما هو السبب المعين، هل هو قول عبد الله بن سلام أو قول أولئك النفر من اليهود الذين سألهم النبي ﷺ أو الذين حاورهم عمر، مثلاً؟ فهنا نستعبد نوعين من هذه الروايات هما أولاً الروايات غير الصريحة، فمثل هذه الرواية صحيحة لكنها غير صريحة وبالتالي نستبعدها.

ثم نستبعد الروايات الضعيفة وعامة هذه الروايات ضعيفة، ففي مثل هذا المثال لا يكاد يبقى عندنا إلا رواية أولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ عن مسائل ثم سألوه عن صاحبه، فأخبرهم أنه جبريل فيكون ذلك هو السؤال، فربما كان أولئك قد جاؤوا للنبي ﷺ قبل عبد الله بن سلام، وإذا تعددت عندنا الروايات وصارت صحيحة، والوقت متقارب أول مقدم النبي ﷺ من المدينة، فنقول عندئذ: إن ذلك وقع في وقت متقارب فنـزلت الآية بعد هذه الأحداث جميعاً، فكلها سبب نزول.

قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

المقصود أشراط الساعة الكبرى التي تكون قبل قيام القيامة، وهذه هي النار التي تخرج من قعر عدن.

وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت.

وأولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ سألهم النبي ﷺ حتى أقروا بأن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، قال لهم: تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، وأقروا به، ففي تلك الرواية جاء ما يدل على أن الشبه أيضاً والذكورة والأنوثة تقع بسبب هذه القضية، فيكون شبهه لأبيه إذا علا ماء الرجل ماء المرأة، ويكون المولود ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة لماء الرجل، فإن الشبه يكون للأم، ويكون المولود أنثى بإذن الله. 

وهو يدل دلالة واضحة وصريحة على أن الإنسان يخلق من مجموع الماءين وذلك أيضاً في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ [سورة الإنسان:2] أي: أخلاط خلافاً لما يذكره أهل الطب من أن المرأة ليس لها ماء أصلاً، فهذا غير صحيح، والنبي ﷺ لما قيل له: أتحتلم المرأة؟ قال: فبم يشبهها الولد وقال: إذا رأت الماء لما سئل عن الغسل[1].

قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهوتني فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله ﷺ: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: هو شرنا وابن شرنا، وانتقصوه فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله"[2] انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه من وجه آخر عند أنس -.

وهذا مما أشبتهم به بعض هذه الأمة، حيث وجد هذا حتى عند بعض من يتشبث بالعلم ويدعيه، فإذا وافقهم الإنسان صار علامة الزمان النحرير، وإذا خالفهم ولو في قضية اجتهادية صار هالكاً وجاهلاً ولا يفهم شيئاً، وما إلى ذلك من العبارات، بل لربما طعن حتى في عرضه واتهم بكل رزية، ولا أدري هل كانت هذه الكبائر والجرائم والموبقات التي يرمى بها الصالح هل كانت موجودة من قبل أم وجدت عند المخالفة فقط. 

فالمهم أن هذا الذي يفعله بنو إسرائيل، فينبغي للإنسان ألا يشابههم في هذا، بل يتقي الله وإذا أحب يقتصد في الحب، فلا داعي للألقاب التي يبالغ فيها، كـ"علامة"، ونحوها، وكذلك عليه إذا أبغض أن يقتصد في البغض، فلا داعي للعبارات أيضاً التي لا يحتاج إليها.

وهنا قاعدة في هذا، وهي أنك إذا رأيت الرجل يبالغ في الحب فلا تأمن أن ينقلب إلى الطرف الآخر تماماً، بل تحرى أن يكون هذا الشخص في يوم ما سينقلب مائة وثمانين درجة وستسمع منه عكس ما كنت تسمعه من قبل، وهذا ينبئ عن خلل في طريقة تفكير الإنسان واختلال في مزاحه، وأنه ليس معتدلاً في أموره، وإنما يعيش على المبالغات، فحياته على المبالغات، ولذلك نظره غير مستقيم وغير متزن، وحكمه على الأشياء غير منضبط؛ لأن الذي يحركه نفس تطيش، ومثل هذا أحكامه لا تسلم، سواء في قضايا الأحكام الفقهية ودراستها، أو في حكمه على الأشياء أو الناس أو غير ذلك.

ومن الناس من يقول: "إيل" عبارة عن عبد والكلمة الأخرى هي اسم الله؛ لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.

الذي دعا أصحاب القول الأول -وهو المشهور- أن إيل بمعنى الله أنهم وجدوا في كلام العرب في قوله تعالى: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [سورة التوبة:8] أن الإل هو الله، ويطلق ذلك أيضاً في كلام العرب على العهد، وكذلك قول أبي بكر الصديق، لما جاءه وفد مسليمة فقال: "اقرؤوا عليَّ ما يقوله صاحبكم" فقرؤوا عليه بعض الخزعبلات: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً، وغير ذلك من الترهات، فقال: "أشهد أن هذا لم يخرج من إل" بمعنى من رب. 

لكن يمكن أن يقال بأن إيل غير الإل، وهذا لو قلنا: إنها غير معكوسة، بمعنى أن جبرا وميكا ليست بمعنى عبد، وإنما عبد هي إيل، هذه في اللغة الأعجمية، لكن في اللغة العربية، الإل هو الرب، ويطلق ذلك أيضاًَ على العهد.

فإذا فككنا الارتباط وهذا أمر لا إشكال فيه؛ لأن هذه اللغة أعجمية وهذه لغة عربية، فصار التشابه في اللفظ، فنقول: هي تقال في لغة العرب كذا، وأما في اللغة الأعجمية، فإن ذلك لا تعلق له بكلام العرب، فهذه الأسماء أعجمية، جبرائيل وميكائيل، ولا إشكال عندئذ.

وأما تفسير الآية فقوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:97]، أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي.

فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ خص القلب؛ لأنه محل العلم والعقل، وهذه الأمة أناجيلها في صدورها، فهذا لا إشكال فيه.

بِإِذْنِ اللّهِ أي بإذن الله له في ذلك، وسيأتي الكلام عن الإذن في قوله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:102]، فهنا بمعنى بإذن الله أي بإرادته، وتسهيله وتيسيره.

ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضًٍ الآيتين [سورة النساء:150]، فحكم عليهم بالكفر المحقق إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:192-194].

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب[3] ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97] أي من الكتب المتقدمة.

وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:97]، أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء الآية [سورة فصلت:44]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا الآية [سورة الإسراء:82]، ثم قال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98]، يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحـج:75] وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل.

جبريل وميكال: هما من الملائكة لكنهما من أفضل الملائكة ومن ثَمَّ جاء هذا العطف، عطف الخاص على العام، كما قال الله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة:238] مع أنها من جملة الصلوات، لكن لشرفها وأهميتها عطفها عليها، فعطف الخاص على العام يكون لنكتة، كالدلالة على شرفه لأهميته ومنزلته.

فجبريل وميكال هما من الملائكة لكن لشرفهما ومنـزلتهما عند الله تنزيلاً للتغاير الوصفي، منـزلة التغاير الذاتي، فهما من جملة الملائكة فعطفهما على الملائكة كأنهما من غير الملائكة، لكن كان ذلك العطف لتغاير الأوصاف، فجبريل وميكال من أشرف الملائكة، فنـزل ذلك منـزلة التغاير الذاتي، بمعنى كأنهما جنس آخر، كما تقول مثلاً: جاء الرجال والكتب فهذا تغاير ذاتي وليس تغايراً وصفياً، لكن إذا قلت: جاء الرجال وزيد، فزيد من الرجال، لكنك خصصته لمعنى ولسبب من الأسباب بحسب المقام، أو كونه ما يتوقع أنه يأتي مثلاً أو يتوقع تأخره، أو لأهمية مجيئه، أو غير ذلك من الأسباب. 

المقصود لوصف أو لمعنى قام به، فخص بذلك، لكن على كل حال المراد أن جبريل وميكال -عليهما الصلاة والسلام- هما قطعاً من جملة الملائكة بالاتفاق، لكن ذلك من باب عطف الخاص على العام لمعنى في هذا الخاص تشريفاً له، وأحياناً يكون العكس، أي يذكر شيء خاص ثم يذكر بعده العام  لقصد التعميم.

ثم خصص بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم وميكائيل وليُّهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، ولكن جبرائيل أكثر، وهي وظيفته، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[4].

بمعنى أن مكانة هؤلاء الملائكة الثلاثة ترتبط بها حياة البشر، فجبرائيل موكل بالوحي، وهو الروح والحياة الحقيقية التي إذا فقدها الإنسان صار فاقداً لإنسانيته وكرامته وصار بمنـزلة الحيوان البهيم، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [سورة الشورى:52]، فمن دخل في قلبه هذه النفخة كانت له الحياة الأساسية المهمة الكبرى.

وميكائيل موكل بالأرزاق التي لا قوام للأبدان إلا بها، فالأول لا قوام للأرواح إلا بها -أي الوحي- والثانية لا قوام للأبدان إلا بها، والثالث إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور الذي يكون به قيام الأجساد وعودة الأرواح إليها، والبعث والنشور، فهؤلاء تعلقت بهم هذه الأنواع الثلاثة من الحياة، فذكرهم النبي -عليه الصلاة والسلام: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل.. وارجع إلى كلام ابن القيم -رحمه الله- في وجه ذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة على وجه التخصيص في مثل هذا الدعاء، ذكر كلاماً مفيداً للغاية.

وقوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98] فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين، بل قال: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ 
وإنما أظهر الله هذا الاسم ها هنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة[5].

قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ يقول: وإنما أظهر الله هذا الاسم ها هنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره: يقصد بالاسم لفظ الجلالة فَإِنَّ اللّهَ أي: إنه لم يقل: فإنه عدو للكافرين، وسبق الإشارة إلى أن الإظهار في موضع الإضمار يكون لنكتة أو لمعنى، فتارة يكون لتربية المهابة بحسب المقام، وهنا يذكر شيئان:

الأول: أن قوله: فَإِنَّ اللّهَ يقال: أظهر في موضع الإضمار لرفع الالتباس؛ لأنه لو قال: فإنه عدو للكافرين كان سيلتبس بآخر مذكور من قوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فالأصل أن الضمير يرجع إلى آخر مذكور وآخر مذكور هو ميكال، ويحتمل أن يكون جبريل؛ لأنه هو سبب النـزول، ويحتمل أن يرجع إلى الله ومع أن الأصل أن تذكر الضمائر اختصاراً في كلام العرب عن ذكر ما هي كناية عنه إلا أن الإظهار هنا كان مزيلاً للالتباس الذي كان سيقع لو أضمر، والله أعلم.

 فما قال فإنه عدو للكافرين بل قال: فَإِنَّ اللّهَ فأظهر في موضع الإضمار لرفع الالتباس هنا، لكن الكلام الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- يصلح  بدلاً من الكافرين، فلو قال: من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم، أي هؤلاء المعادين لجبريل وميكال إلى آخره، و"من" للعموم تصدق على الواحد والجماعة، أي: أيَّاً كان عدواً لهؤلاء الملائكة فإن الله عدو لهم.

فالمقصود أن هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير يتعلق بذلك الموضع لا في هذا الموضع والفرق بينهما واضح، ولذلك فهناك صرح وقال: عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ولم يقل: عدو لهم من أجل أن يبين أن عداوة جبريل ﷺ كفر بالله فهؤلاء ما قالوا: إنهم يكفرون بالله بل هم يدعون الإيمان بالله، لكنهم قالوا: إنهم يعادون جبريل، فلو قال: فإن الله عدو لهم بمعاداتهم جبريل لم يحصل به هذا المقصود صراحة، لكن لما قال: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ كان ذلك تصريحاً بأن عداوة جبريل -عليه الصلاة والسلام- كفر. 

وهذا الذي لربما مشى عليه جميع أهل العلم فلا أعلم أحداً قال بأن قوله فإنه هنا أظهر في موضع الإضمار لما ذكره الحافظ ابن كثير، فلربما كان وقع ذلك من تصرف أحد في النسخة، أو الذهول أو النسيان، فالإنسان يكتب أحياناً ويصيبه شيء من الوهم والنسيان وإلا فمثل هذا المعنى لا يخفى على الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- والله تعالى أعلم.

وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ۝ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:99-103].

قال الإمام أبو جعفر بن جرير -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. الآية، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوارة، فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد ﷺ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي؛ إذ كانت في فطرة كل ذي فطرة صحيحة.

يعني لم يدَعْها إلى الحسد والبغي، بمعنى لم يتركها ويمكن أن يكون ولم يدُعُهَا إلى هلاكها الحسد والبغي فيكون الحسدُ فاعل.

إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد ﷺ من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشري، ولا أخذ شيئاً منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس -ا: وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك وأنت عندهم أمِّي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى في ذلك عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.

سبق الكلام على معنى الآيات، والبينات بمعنى الواضحات من بان يبين إذا اتضح، فهي لا تدع في الحق لبساً، تكشفه وتوضحه كما أنها بينة أيضاً في نفسها، فلم يخاطبهم بما لا يعقلون وبما لا يفهمون وإنما بلسان عربي مبين، فليس فيه إلغاز ولا غموض، وإنما هو شيء بيِّن واضح.

قوله: وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] والفسق المراد به مطلق الخروج في أصل كلام العرب، فيطلق على الخروج الأكبر بمعنى الكفر، ويطلق على ما دونه من الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، فهذا هو الفسق. 

ومعروف عند الأصوليين في مفهوم الموافقة الأولوي الظني الذي يسمونه فحوى الخطاب وذلك بمثالهم الذي يرددونه دائماً في كتبهم، وهو قوله تعالى: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6]، قالوا: مفهوم المخالفة أنه إن جاء العدل لسنا بحاجة إلى أن نتبين، ومفهوم الموافقة أنه إن جاء كافر فالتبين من باب أولى لكنه ظني؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه هو، بمعنى ملتزم بدينه ودينه يحرم عليه الكذب وبالتالي فهو يتحرز من الكذب، فهل نتحرى ونتبين إذا عرفنا أن دينه يحرم عليه الكذب وهو متدين أم لا؟ فمن هنا قالوا: ظني، وهذا مثل ما يقولون في النهي عن التضحية بالشاة العمياء من باب أولى لكنه ظني؛ لأن العمياء يعلفها صاحبها أفضل العلف وترعى وهي رابضة، فهي مظنة السمن لا الهزال، بخلاف العوراء التي لا ترى إلا نصف المرعى.

فهذا المثال الذي يذكره الأصوليون ليس دقيقاً؛ لأن أصل الفاسق يطلق على هذا وهذا، فيشمل الكافر ويشمل ما دونه، لكن هم نزلوه على الفاسق بمعنى العاصي، وهذا حمل للفظ على أحد معنييه، وحتى لو صح فيه سبب النـزول -مع أنه لا يصح- فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله ﷺ وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد ﷺ قال: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقاً، فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم [سورة البقرة:100].

وقال الحسن البصري، في قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100]، قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غداً.

قوله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم النبذ معناه الطرح، تقول: نبذت الثوب، ونبذت العهد، بمعنى التخلي عنه وطرحه فهم ينقضون العهد.

وقوله: فَرِيقٌ مِّنْهُم: الفريق بمعنى الطائفة.

وقوله -تبارك وتعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ عند التأمل فيها نجد أنها تحتمل معنيين -والله تعالى أعلم- فتحتمل أن يكون المراد أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي أن بل بمعنى (لا) أي أنه  أضرب عن الكلام الأول وقال: لا ينقضه فريق منهم وإنما ينقضه أكثرهم أو كلهم.

وقد يراد بالكثرة الكل وقد يكون على ظاهره، فيكون إضراباً عن الكلام الأول، نبذه فريق منهم بل نبذه أكثرهم، فيكون ذلك بنبذ العهد.

ويحتمل أن يكون المعنى أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ثم قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بمعنى أن هذا النبذ للعهد لا يكون منهم جهلاً منهم بأن ذلك النبذ يحرم عليهم وإنما أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، فيكون المعنى أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بحيث لا يفعلون ذلك اعتقاداً أن ذلك يحل لهم، وإنما لكون أكثرهم غير مؤمنين بالله ورسله.

والخلاصة أن المعنى الأول هو أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بل الذين يفعلون ذلك هم أكثرهم وليس فريق منهم فقط.

والمعنى الثاني أنهم حينما ينقض فريق منهم العهد لا يفعلونه اعتقاداً بحله ولكن لكفرهم ولعدم تصديقهم وعدم تصديقهم نبذوا هذه العهود.

وعلى المعنى الأول يبقى إشكال وهو كيف نحمل قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ؟ ومن هنا يمكن أن يكون المعنى الثاني بهذا الاعتبار أكثر ملائمة للسياق، والله تعالى أعلم.

وعلى كل حال فالمعنى الأول ليس ببعيد إذ إنه يمكن أن يفسر هكذا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يعني (لا) وإنما ينبذه أكثرهم.

لاَ يُؤْمِنُونَ أي لا يؤمنون بالله وإنما يكفرون به بنقض هذا العهد، وبهذه يمكن أن يدفع الإشكال في المعنى الأول.

ويمكن أن يكون قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ تعليل لما وقع منهم من نقض العهد، وأنهم لا يفعلون ذلك جهلاً أو اعتقاداً بحله وإنما لانخرام إيمانهم ولعدم إيمانهم بالله.

وأما على القول الأول فيكون قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ يعني أنهم لا يلتزمون العهود فالذي يحصل منهم نقض العهد، فيكون ذلك كفراً منهم نتيجة لنقضهم للعهود.

والمقصود أن تفتق ذهنك في تأمل القرآن والنظر في معانيه فلربما كان الإنسان يقرأ ولا يخطر في باله شيء من ذلك ولو سئل عن المعنى لتوقف، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب: التبسم والضحك (5740) (ج 5/ص 2260) ومسلم في كتاب: الحيض - باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (313) (ج 1/ص 251).
  2. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب كيف آخى النبي ﷺ بين أصحابه (3723) (ج 1/ص 1433).
  3. أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: التواضع (6137) (ج 5/ص 2384) إلا أن لفظه: (آذنته بالحرب) وأما لفظ: (بارزني) فأخرجه البيهقي (ج 3/ص 346).
  4. أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها – باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (770) (ج 1/ص 534).
  5. سبق تخريجه.

مواد ذات صلة