بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136].
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد ﷺ مفصلاً وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -رحمه الله: أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة إلى آخره: جعل ابن كثير قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ.. إلى آخره خطاباً للمؤمنين، مع أن السياق كما سبق هو في مخاطبة بني إسرائيل، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ذلك متوجه إلى غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، أي: أيها المفرقون بين الله ورسله والمفرقون بين الكتب تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض آمنوا بالله إيماناً صحيحاً وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا.. إلى آخره- والقول بأن هذا خطاب للكفار يساعده سياق هذه الآيات جميعاً.
ولا يمنع أن يكون ذلك خطاباً للجميع ليكونوا على استقامة وسير صحيح؛ فالجميع مطالب بهذا الأمر، والمعنى أن الله لما بيَّن كفر اليهود والنصارى وتناقضهم وقولهم على الله بلا علم وجه الخطاب للمؤمنين ووجه غيرهم إلى الإيمان الصحيح، وكيف ينبغي أن يكونوا، وعلمهم كيف يصلُح إيمانهم واعتقادهم خلافاً لأهل الكتاب وما هم عليه من التفريق بين الله ورسله يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
أي أنه ذكر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين تتصل أنسابهم بهم أو هم من أشهر أنبيائهم، فذكر لهم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو إمام الحنفاء حيث تتنازعه جميع الطوائف، فكل طائفة تزعم أنه منها -اليهود والنصارى والعرب أهل الإشراك.
وذكر لهم إسحاق ﷺ وأنسابهم ترجع إليه، وذكر يعقوب واليهود منتسبون إليه، وهذا مما يقوي أن الخطاب لأهل الكتاب ومن أخص ما يدخل فيه اليهود، كما ذكر لهم موسى وعيسى، فموسى هو أكبر أنبياء بني إسرائيل، وعيسى ﷺ جفوه وتكلموا في حقه وفي حق والدته بما لا يليق.
والمقصود أنهم مطالبون بالإيمان بهؤلاء الرسل جميعاً ممن ينتسبون إليهم ويعظمونهم أو ممن جفوهم وكفروا بما جاؤوا به ورموهم بما لا يليق من الشناعات.
كما ذكر إسماعيل ﷺ وقلنا: إن الخطاب لجميع الطوائف -للعرب ولليهود والنصارى- فهم جميعاً مطالبون بالإيمان، ولكن أولى ما يدخل في هذا الخطاب -كما سبق- هم أهل الكتاب لا سيما اليهود، والله أعلم.
في بعض الآيات يذكر الله بعض الأنبياء، وفي بعضها يذكر آخرين، وهكذا في كل مقام بحسبه، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [سورة البقرة:136]، وفي بعضها يذكر نوحاً -عليه الصلاة والسلام- وعيسى ومحمد -عليه الصلاة والسلام- وهكذا.
وبعض أهل العلم فسروا قوله -تبارك وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35]، بما جاء في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب:7]، فقالوا: هؤلاء الخمسة هم أولو العزم.
وعلى كل حال يذكر الله بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- في كل موضع بحسبه، ولا شك أن هؤلاء الذين ذكروا هم من كبارهم وعظمائهم ولكن ذلك لا يعني أن هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل خاصة دون غيرهم، فهذا لا أعلم دليلاً يقوم عليه.
علمهم كيف يقولون -يعني هذه الآية- والخطاب في هذا الحديث موجه لأهل الإيمان من قِبَل رسول الله ﷺ، وذلك يؤيد أن الخطاب كما أنه متوجه لأهل الكتاب فهو متوجه للمؤمنين، ولا يلزم أن يكون الخطاب في الآية لأهل الإيمان استدلالاً بهذا الحديث؛ لأن الآية قد تنزل في شيء وتستعمل في معنى آخر أخذاً بعمومها.
وهذا له نظائر، مثل قوله تعالى:وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54]، فهذه الآية في الذي يجادل في البعث، أو يجادل في آيات الله أو في الوحي، أو في وحدانية الله ، فالله ذكر ذلك على سبيل الذم لهؤلاء، ولكن النبي ﷺ استعملها لما جاء إلى علي وفاطمة -ا- ووجدهما نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : "إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء بعثها" فرجع النبي ﷺ يلطخ فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[2].
فمع أن الآية لم تأت أصلاً لتقرير هذا المعنى إلا أن عمومها يصلح أن يستعمل في هذا وفي كل مجادل، ولو لم يكن يجادل في آيات الله أو يجادل في الوحدانية أو في البعث، والله أعلم.
ومثل ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال: 24]، فقد دعا النبي ﷺ أبا سعيد بن المعلا وهو يصلي فلم يجبه، قال: ثم أتيت فقال: ما منعك أن تأتي فقلت: كنت أصلي فقال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24][3] فمع أن الآية إنما نزلت بدعوة رسول الله ﷺ لهم إلى الإيمان، لكن إذا قال: يا أبا سعيد، أو يا فلان فهل الآية نزلت في هذا بحيث أنه يدخل فيها؟ طبعاً لا يدخل فيها، لكن عمومها أدخله؛ لأن النبي ﷺ لا يدعوهم إلا إلى خير، والله أعلم.
ومثل ذلك أيضاً الآية التي في سورة التوبة: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [سورة التوبة:108]، السياق في هذه الآية معلوم أنه في أهل قباء، لكن لما اختلف الخدري مع العوفي حيث العوفي يقول: هو مسجد قباء والخدري يقول: هو مسجد رسول الله ﷺ فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فقال –عليه الصلاة والسلام: هو مسجدي هذا، فالسياق في مسجد قباء، فيمكن أن يقال: إن النبي ﷺ ذكر أحق ما يدخل فيها، فإنه وإن كان السياق في مسجد قباء فإن مسجد رسول الله ﷺ أولى بهذا الوصف، وهو لا يخرج مسجد قباء عنه وهكذا.
ومن أمثلة ذلك: قول النبي ﷺ على المنبر: إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراةً غرلاً، ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] [4] فأصل الآية إنما جاءت للدلالة على القدرة على البعث، فالذي خلق أولاً قادر على الإعادة ثانياً إلا أن عمومها يمكن أن يؤخذ منه هذا المعنى، وهكذا.
وللعلم فإني إنما أذكر هذا لأن مثل هذه الأشياء تنمي الملكة وتبقى مع الإنسان وإن نسي المعاني التي يقرؤها.
يعني أنه كان يقرأ في الركعة الأولى من سنة الفجر هذه الآية: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136]، وفي الركعة الثانية يقرأ آية آل عمران: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:52] وهذا في صحيح مسلم.
وورد في صحيح مسلم أيضاً أنه قرأ في الركعة الثانية: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:64]، فالحاصل أنه يقرأ بهذا مرة وبهذا مرة.
والمشهور في قراءته ﷺ في سنة الفجر أنه كان يقرأ في الأولى بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1]، والثانية بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وكانت صلاته قبل الفجر –أعني الركعتين- خفيفة كما في حديث عائشة حتى كانت تقول: كان رسول الله ﷺ إذا طلع الفجر صلى ركعتين أقول: هل يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب[6].
على قول هؤلاء العلماء من السلف فإن الأسباط هم بنو يعقوب وهم بهذا العدد ومنهم تفرعت قبائل بني إسرائيل، فهم كانوا على اثنتي عشرة قبيلة، وقد جاء هذا في عدد من آيات القرآن، فهذا هو القول المشهور وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو أن الأسباط هم أولاد يعقوب -عليه الصلاة والسلام.
وبعض أهل العلم يستشكل هذا من جهة أن المعروف أن الأسباط هم قبائل الإسرائيليين، فالأولاد الاثنا عشر لا يمثلون قبائل وبالتالي قال بعضهم: هم أولاد أولاد يعقوب، فهم من الكثرة بحيث يمكن أن يقال: إن كل واحد من هؤلاء الذين تفرعوا من أولاده يمثل مجموعة من الناس، فهم عبارة عن مجموعات كل مجموعة ترجع إلى واحد من ولد يعقوب ﷺ.
يمكن أن يقال: هل هذه كلمة عربية في أصلها أم لا؟ فإن كانت عربية فيمكن أن نفسرها من كلام العرب بذكر مادة اشتقاقهاً، وإن كانت غير عربية فلا مجال لهذا؛ لأنك لا تقول مثلاً: من أين أخذت إبراهيم بالعربية، لكن بالأعجمية يمكن كما سبق أن ذكرنا أن بعضهم يقول: إن أصل إبراهيم، أب رحيم، وموسى بالعبرانية موشى، ويقولون: أصلها ماء وشجر، وربما يكون ذلك صحيحاً لكن ذلك لا يرجع إلى العربية، إلا أن اللغة العبرانية فيها تشابه إلى حد كبير مع اللغة العربية، فهي أقرب إلى اللغة العربية من اللغة الإنجليزية مثلاً، لذلك تجد كلمات من كلام العبرانيين يمكنك فهمها لكن قد يكون السين شيناً مثلاً وهكذا.
الحاصل أن بعضهم يقولون: إن الأسباط من السبط وهو التتابع، فالأسباط هم جماعة متتابعون، وبعضهم يقولون: إنها بالفتح من السبط وهو الشجر، والمعنى أنهم من الكثرة بمنزلة الشجر، وهذا المعنى لا يخلو من غرابة.
وبعضهم يقول: هم أولاد أولاد يعقوب؛ لأن الكثرة فيهم وليست في أولاد يعقوب، وعلى كل حال فالمشهور أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وبعضهم يقول: هم قبائل الإسرائيليين، وسواء قلنا هذا أو هذا فقبائل الإسرائيليين إنما ترجع إلى أولاد يعقوب، وبالتالي بين القولين نوع ملازمة، وليس من الضرورة أن نرجح بين هذين القولين، وأما الذين قالوا: إنه من الشجر لكثرته أو بمعنى التتابع فإن هذا لا يعارض أن يكون المراد به قبائل بني إسرائيل، فهم لا ينكرون هذا، لكن القول بأنهم سموا بذلك لتتابعهم أو لكثرتهم فهذه محاولة لتعليل التسمية، وليس هناك ضرورة لمثل هذا ولا يترتب عليه كبير فائدة، ولا يتوقف عليه العمل بكتاب الله -تبارك وتعالى- والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136] (4215) (ج 4/ص 1630).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب في المشيئة والإرادة وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الإنسان:30] (7027) (ج 6/ص 2716) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (775) (ج 1/ص 537).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر:87] (4426) (ج 4/ص 1738).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6161) (ج 5/ص 2391) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2860) (ج 4/ص 2194).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما (727) (ج 1/ص 502) وأبو داود في كتاب الصلاة - باب في تخفيفهما -أي ركعتي الفجر- (1259) (ج 1/ص 403) والنسائي في صفة الصلاة - باب القراءة في ركعتي الفجر (944) (ج 2/ ص 155) ولفظ: أن كثيراً ما كان يقرأ...الخ في أبي داود.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما (724) (ج 1/ص 500)