الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
[61] تابع لقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} الآية 137
تاريخ النشر: ٠٢ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 3953
مرات الإستماع: 3328

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

روى محمد بن إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله ﷺ يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] [1].

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الرواية هي من أحسن ما يُفسر به قوله -تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء بمعنى أن النبي ﷺ كان يكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ويتطلع إلى توجيه الله له أن يستقبل الكعبة بدلاً من بيت المقدس، وكذا قوله في هذه الرواية: "قال رجل من المسلمين..." إلى آخره.

فهذا الرجل الذي يود لو علم حال من مات ممن كان يصلي إلى بيت المقدس، يعني أن يعرف حالهم من جهة قبول الصلاة، هل كانت صلاتهم مقبولة أم لا؟ وذلك -كما سبق- أن اليهود والمنافقين أثاروا بعض الشبهات في هذا الموضوع، فقالوا لهم: إن كنتم الآن على حق -يعني بعد التحويل إلى الكعبة- فإن هذا يعني أنكم كنتم على باطل، بمعنى أن صلاتكم غير صحيحة، وعملكم مردود، وإن كنتم على حق فأنتم الآن على باطل. 

فالحاصل أن ذلك أقلقهم فتساءلوا عن حال أولئك الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، قال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، فهم تساءلوا عن حال إخوانهم، وعن حالهم هم أيضاً، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ولذلك يطرح بعض المفسرين سؤالاً -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فيقول: ما العلة في أن هؤلاء سألوا عن إخوانهم فخاطبهم الله بقوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ؟ ثم يجيب عنه فيقول: إنهم سألوا عن إخوانهم وهذا السؤال أيضاً يعود إليهم؛ لأنهم كانوا يصلون معهم في السابق.

وأقول: ممكن أن يجاب عن هذا بأوضح من هذا الجواب، فيقال كما جاء في هذه الرواية: إنهم سألوا عن إخوانهم وعن أنفسهم أيضاً صراحة، فكان ذلك سبباً لنزول الآية، فابن جرير أورد سؤالاً وأجاب عنه باجتهاده -رحمه الله، وهذه رواية صريحة فيما قلناه، والله أعلم.

طالب: يا شيخ الرواية: سألوا عن إخوانهم؟

سألوا عن صلاة إخوانهم وعن صلاتهم، فالسؤال الذي أوردوه عن صلاة إخوانهم: ما بال الذين ماتوا؟ فقال: إن هذا يرجع إليهم بالضرورة باعتبار أنهم كانوا يصلون معهم أيضاً، وفي هذه الرواية التي قرأناها الآن: وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ السؤال عن صلاتهم هم.

وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ.. إلى آخر الآية.

سيقول السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب؛ لأن السياق فيهم كما سبق، وأيضاً يدخل فيها كل من تعلق بهذه القضية من المنافقين ومن المشركين، وذلك أن المنافقين تكلموا في هذا الموضوع، وتكلم فيه المشركون، فقال المشركون: إنه قد تحول إلى قبلتكم وذلك مؤذن بتحوله إلى دينكم، بمعنى أنه رجع إلى قبلتكم ثانية فهذه توطئة إلى رجوعه إلى دينكم وإلا فما الذي حوله؟

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: إن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً.

هذه الرواية: "بضعة عشر شهراً" والرواية التي مرت بنا في الصحيح: "ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً" على الشك، أو يكون ذلك باعتبار آخر وهو أن النبي ﷺ كانت هجرته في ربيع، وحُول إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة في منتصف شهر رجب، هذا هو المشهور، فإذا حُسبت المدة وحُسب شهر الهجرة مع شهر التحويل كانت سبعة عشر شهراً، وإذا جُبر هذا بهذا باعتبار أن هذا بعض الشهر وهذا في نصف الشهر لا سيما إذا قلنا: إنه هاجر في الثاني عشر من ربيع الأول، والتحويل في منتصف شهر رجب، فإذا جُمع هذا إلى هذا وألغي الزائد جبراً للكسر كان ذلك ستة عشر شهراً بهذا الاعتبار.

ولهذا جاء في بعض الروايات كما ذكرت في السابق مجزوماً به: أنه ستة عشر شهراً، وأما ما ورد من أنه ثمانية عشر شهراً فهذا ضعيف، والله أعلم.

وورد دون ذلك حيث جاء في بعض الروايات: أنه اثنا عشر شهراً، وجاء في بعضها شهران.. إلى غير ذلك مما ورد، لكن المشهور على كل حال بضعة عشر شهراًَ.

وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله : فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] أي: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142].

هذه الرواية الآن فيها التصريح بأن الذين قالوا ذلك هم اليهود، سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ولا شك أن اليهود هم أولى من يدخل في ذلك، ويدخل في عموم السفهاء من الناس كل من تكلم في هذه القضية.

وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله ﷺ أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس -ا- والجمهور.

بهذا يمكن الجمع بين ما ورد من كونه توجه إلى بيت المقدس بعد ما هاجر وبين ما ورد من أنه كان يستقبل بيت المقدس وهو في مكة، وهذا ثابت عن ابن عباس -ا، وجاء فيه بعض الروايات عن غيره، وقال به جماعة مثل الحافظ ابن عبد البر- قالوا: إن النبي ﷺ كان بمكة يستقبل بيت المقدس، وصفة ذلك أنه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ومعنى ذلك أنه كان يقف بين الركنين اليمانيين، ومن ثمّ فإنه في هذه الحالة لا يتبين أنه كان يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة -وهي تقع في شمال مكة- صار لا يمكنه أن يستقبل بيت المقدس إلا أن يستدبر مكة، ولهذا جاء في بعض الروايات: أنه بعد ما هاجر إلى المدينة حول إلى بيت المقدس بعد ما كان يستقبل الكعبة، فالذين قالوا: إنه حول كما جاء في بعض الروايات بعد هجرته ﷺ، على قولهم تكون قد نُسخت القبلة من استقبال الكعبة التي كانت ثابتة بالسنة إلى بيت المقدس، وهذا التحويل أيضاً بالسنة، فيكون من قبيل نسخ السنة بالسنة، ثم حُول بالقرآن إلى الكعبة، فكان ذلك من قبيل نسخ السنة بالقرآن، فهذا مثال من أوضح الأمثلة على نسخ السنة بالقرآن.

وأما إذا قلنا: إنه كان يجعل الكعبة بين يديه، ويصلي إلى بيت المقدس، وأنه لم يكن هناك نسخ للكعبة إلى بيت المقدس، فإن النسخ يكون قد وقع مرة واحدة، ولعل هذا أقرب، والله تعالى أعلم.

وأما قول من قال: إن النبي ﷺ كان يستقبل الكعبة حينما كان بمكة، ثم لما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس باجتهاده واختياره، وكان يحب موافقة اليهود، ويطمع في دخولهم في الإسلام فهذا في غاية البعد؛ لأن هذه قضية لا تكون بمحض الاجتهاد والاختيار، إنما هو تشريع، والله يقول: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [سورة النجم:4] فلو كانت المسألة بالاختيار لتوجه النبي ﷺ إلى الكعبة؛ لأن الله وصف حاله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] فكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم ﷺ، لا سيما وأن المشركين كانوا يحتجون عليه ويقولون: تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته؟! أضف إلى ذلك أن اليهود كانوا يعلمون أن القبلة التي كانت للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانت إلى الكعبة، ويعلمون أنها ستحول.

وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب أن الخبر وصل قوماً من الأنصار وهم في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فتوجهوا نحو الكعبة[2].

وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر -ا- أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة[3]."

على كل حال بعض أهل العلم يقول: إن التحول الذي حصل في صلاة الفجر كان لأهل قباء، وأن التحول الذي كان في صلاة العصر كان في بني سلمة، وأن النبي ﷺ صلى صلاة الظهر في مسجده حيث حُوّل إلى بيت المقدس، هكذا جمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات، وعلى كل حال من شاء فليراجع ذلك في مظانه، ومن ذلك ما ورد في الفتح في المجلد الأول في كتاب: الإيمان، في أول الصحيح.

وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه.

هذه مسألة معروفة في الأصول، وتذكر أيضاً في موضع آخر في غير باب الناسخ والمنسوخ في أصول الفقه، تذكر في أول الأصول عند الكلام على التكليف وشروط التكليف، فهناك شروط عامة في كل تكليف، وهناك شروط خاصة تضاف إليها في التكليف المعين، فشروط الوجوب مثلاً هناك شرطان أساسيان في كل عبادة: القدرة وبلوغ الخطاب، وبعضهم يقول: وفهم الخطاب، إذا لم يبلغه الخطاب فإنه غير مكلف، وهناك شروط خاصة في كل عبادة، مثل ما تقول مثلاً: شرط وجوب صلاة الظهر: زوال الشمس، وشرط وجوب صلاة العصر: أن يصير ظل كل شيء مثله، وهكذا في كل عبادة بحسبها، شرط وجوب رمضان: رؤية هلال رمضان، هذا في العبادة الخاصة.

المقصود أن هؤلاء الذين بلغهم التحويل بعد ذلك، أو وهم في أثناء الصلاة، قد صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس، والقبلة حُولت قبل ذلك، فلم يلزموا بإعادة الفرض السابق، ولم يلزموا أيضاً بإعادة الفرض الذي كانوا فيه حينما بلغهم، فصح بناؤهم على هذه الصلاة التي استقبلوا فيها القبلة المنسوخة، وبالتالي فإن التكليف لا يلزم إلا ببلوغ الخطاب، ولذلك مما يدخل في هذه المسألة مسألة معروفة أيضاً عند أهل العلم وهي فيما إذا كان هذا الخطاب لم يبلغ هذا المكلف المعين فهل يؤمر بالإعادة أم لا؟ وهذا له أمثلة:

فمثلاً المرأة التي كانت تصلي –وهي حمنة- كانت تستحاض وتدع الصلاة والصوم، وفي بعض الروايات: تدع الصلاة والصوم سبع سنين، فالنبي ﷺ ما قال لها: أين أنتِ؟ هذه استحاضة، ويجب عليكِ قضاء سبع سنين حيث كنتِ لا تصلين ولا تصومين، أو على الأقل ما قال لها: يجب عليكِ قضاء سبع رمضانات، علمها ولم يأمرها بالقضاء.

وكذلك حديث المسيء صلاته، قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل[4] لأنه كان في الوقت، لكن الرجل طول عمره وهو يصلي بهذه الطريقة، فما قال له: عليك أن تعيد جميع الصلوات.

وكذلك حديث معاوية السلمي لما عطس وقال: الحمد لله، ثم قال: واثُكْلَ أُمِّياهْ، وجلس يتلفت، ما قال له النبي ﷺ: أنت الآن صلاتك باطلة، وصلواتك السابقة كلها باطلة؛ لأنك تتكلم وإنما علمه، وبالتالي فإن الأقرب -والله أعلم- في مثل هذا أن يقال: إن كل من لم يبلغه التكليف فهو معفو عنه، ولا يطالب بقضاء ولا إعادة.

لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم.

وهذا الكلام الذي ذكرته آنفاً هو الذي يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وإن كان كثير من الفقهاء يطالبون الإنسان بإعادة رمضان، وبإعادة الصوم الذي صامه، والمرأة التي كانت تظن أنها لا يجب عليها في حال الاستحاضة فيقولون: عليكِ أن تقضي هذا اليوم.. إلى آخره.

ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا أي: قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، فأينما تولوا فثم وجه الله، ولَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ [سورة البقرة:177] أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا.

يعني أن الجهات جميعاً ملك لله ، وأما التعبير بالمشرق والمغرب فعادة العرب أن تعبر عن الشيء بذكر طرفيه؛ لإفادة الشمول والعموم والاستيعاب.

لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يعني جميع الجهات، وليس فقط المشرق والمغرب، يأتي غبي ويقول: طيب والشمال والجنوب؟ نقول له: إذا ذكر المشرق والمغرب في كلام العرب فيقصدون بذلك جميع الجهات، فالعرب تذكر طرفي الشيء وتريد الاستيعاب والشمول والعموم، وهذا كثير، وله أمثلة كثيرة.

أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه.

يعني أن هذا الجهة لا مزية لها على هذه الجهة من حيث الأصل، أصل الجهات، وإنما الشأن هو في امتثال أمر الله ، وإن كان الاستقبال للكعبة لا شك أنه أشرف من استقبال بيت المقدس، والشيء يقال فيه على سبيل الرد ما لا يقال فيه على سبيل الابتداء أحياناً، وهذا هو الجواب الذي ذكره الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتابه الرسالة في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] فذكر هذه الأشياء الثلاثة مع أن المحرمات أكثر من هذا، وذكرها بأقوى صيغة من صيغ الحصر وهي النفي والاستثناء التي جاءت بها كلمة التوحيد.

فالشافعي -رحمه الله- يقول: هذا على سبيل الرد على دعاواهم الكاذبة حيث حرموا أشياء وأحلوا أشياء كما في سورة الأنعام: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ [سورةالأنعام:138].

حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل ، ولهذا قال: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

وجه الارتباط واضح لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يهديه إلى صراط مستقيم، يهديه إلى الإسلام، ويهديه أيضاً إلى القبلة التي هي أشرف وأعظم، كما هداكم إلى هذا الدين، وهداكم إلى قبلة إبراهيم ﷺ.

ولهذا سيأتي في قول الله -تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة: 152] حيث هديتكم هذه الهداية، ووفقتكم هذا التوفيق، بعد ما ضل عن هذه القبلة اليهود والنصارى، فكما جعلكم الله أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] أي: خياراً عدولاً كذلك أيضاً وفقكم إلى أعدل قبلة، وأوسط قبلة، وهي قبلة إبراهيم ﷺ، كل ذلك من إفضاله على هذه الأمة وهدايته وتوفيقه لها.

وقد روى الإمام أحمد عن عائشة -ا- قالت: قال رسول الله ﷺ يعني في أهل الكتاب: إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين[5].

فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، هدانا إلى يوم الجمعة، وإلى القبلة، وهدانا إلى الإسلام قبل ذلك.

  1. أخرجه البخاري عن البراء في كتاب التفسير باب قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا 31 سورة البقرة (ج4/ص1631) بلفظ: أن رسول الله ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وأنه صلى -أو صلاها-صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد، وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قِبَل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله:  وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143].
  2. سبق تخريجه.
  3. أخرجه البخاري في أبواب القبلة باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة (جزء1- صفحة157- 395)، وفي كتاب التمني باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام (جزء6- صفحة 2648-6824)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (جزء1- صفحة375- 13).
  4. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (ج1/ص263-724)، وفي باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة (ج1/ص274-760)، وفي كتاب الاستئذان باب من رد فقال: عليك السلام (ج5/ص2307- 5897)، وفي كتاب الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (ج6/ص2455- 6290)، ومسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (ج2/ص10- 911).
  5. أخرجه أحمد في المسند (ج6/ص134- 25073)، والبيهقي في السنن الكبرى (ج2/ص56)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج1/ص124).

مواد ذات صلة