الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
[63] من قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} الآية 144
تاريخ النشر: ٠٤ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 4107
مرات الإستماع: 3218

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] ما المراد بالإيمان في هذه الآية؟

قال: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، لماذا سميت الصلاة إلى بيت المقدس إيماناً؟

بعض أهل العلم قال: لأن الصلاة تشتمل على نية، وهي قضية تتعلق بالقلب، وتشتمل على أقوال، وتشتمل على أفعال، فهي مركبة من هذه الثلاثة كالإيمان قول واعتقاد وعمل، هكذا قال بعضهم، ولا يخلو من تكلف، فالعلماء وإن كان عامتهم يفسرون الإيمان في هذه الآية بأنه الصلاة إلى بيت المقدس، وهو الذي لا ينبغي العدول عنه، لكنهم حينما يتلمسون وجه تسميته بذلك -أي تسمية الصلاة إيماناً- فبعضهم يعلل بهذا التعليل، والأحسن من هذا -والله أعلم- أن يقال: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، فالصلاة إيمان عند أهل السنة، والصوم إيمان، والزكاة إيمان، وما أشبه ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة.

وإذا قال قائل: لماذا لم نقل: إن الركوع والقيام والسجود هذا فعل فهو إيمان من جهة أنه يرجع إلى القسم الثالث مما يتركب منه الإيمان الذي هو العمل، ولماذا لم نقل: إن الأقوال التي تكون في الصلاة ترجع إلى القسم الثاني مما يتركب منه الإيمان وهوالقول؟ والنية ترجع إلى الأول؟

يقال: ليس ذلك هو المراد حينما نقول: إن الإيمان اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، إذ إن التصديق في الإيمان المقصود به الإقرار الانقيادي، بما يجب الإقرار به، لا قصد التوجه إلى المعبود بالصلاة، ليس هذا بمعنى التصديق الانقيادي، لا، ولذلك فإن التوكل والمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والمراقبة وما إلى ذلك من الأعمال القلبية هذا داخل في عمل القلب مما يزيد على قدر التصديق الانقيادي، يزيد على الإقرار، ولهذا يقال: الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، ما الفرق بين قول القلب وعمل القلب؟ قول القلب هو التصديق، وعمل القلب هو سائر الأعمال القلبية التي يحبها الله ، هذا الفرق.

وقول اللسان وعمل اللسان: قول اللسان هو قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وعمل اللسان كالتسبيح والتهليل والذكر وما أشبه هذا من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى.

وعمل الجوارح: -ما في قول الجوارح- يدخل في عمل الجوارح الصلاة والصوم وما إلى ذلك مما يتقرب به إلى الله .
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] يعني الصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن الصلاة إيمان، والصوم إيمان، والحج إيمان، والزكاة إيمان، وبر الوالدين إيمان، وإماطة الأذى عن الطريق إيمان، ولهذا قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة[1] فذكر من أعلاها: شهادة أن لا إلا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ولهذا تجدون في ذلك الكتاب العظيم الجامع لشعب الإيمان للبيهقي -رحمه الله- كلاماً على تفاصيل كثيرة جداً، حاول فيها أن يستقرئ شعب الإيمان، مما يتعلق باللسان أو القلب أو الجوارح، والعلم عند الله .

وبعضهم يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] بمعنى أن ما كان منهم من التوجه إلى بيت المقدس ثم التحول، هذا كله عائد إلى الإذعان والانقياد لأمر الله ، فهذا إيمان بهذا الاعتبار، فهذا مما يدخل فيه.

وبعضهم يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: ثوابكم على الإيمان الذي حصل منكم، والتصديق بخبر رسول الله ﷺ، حيث حصلت منكم الثقة بذلك، والاطمئنان إليه، ولم يحصل منكم تردد ولا انتكاس.

وعلى كل حال هذا مما يدخل فيه مثل هذا التصديق والانقياد، فيكفي أن نقول: إيمانكم أي الصلاة إلى بيت المقدس، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، والله تعالى أعلم. 

وسبب النزول يدل على ذلك، الثبات داخل في هذا الإيمان، ما في إشكال، السلف يعبرون ببعض المعنى لا إشكال، إنما أردت أن أوضح توجيهاً لقولهم هذا بحيث يُعرف كيف يتصل بهذا الموضوع وكيف يرتبط به؟ باعتبار أن الإيمان على هذه الأنواع أو الأجزاء أو الأقسام الثلاثة، فمن قال: إنه ثباتكم. نقول: هو داخل فيه، هذا جزء من المعنى، الثبات على أمر الله ، وهذا القول -الصلاة إلى بيت المقدس- مستلزم لقول من قال مثلاً: إنه الثبات، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فإن ذلك لا يكون إلا بأنهم ثبتوا وانقادوا واستقبلوا القبلة الأخرى التي أمرهم الله بها.

وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143]، ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.

وهذا نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق أن الآية نزلت بسبب استشكالهم وسؤالهم، وسبقت الرواية أنهم سألوا أيضاً عن حال أنفسهم، عن صلاتهم السابقة.

روى ابن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى.

لاحظ الآن إيمانكم بماذا قيده؟ إيمانكم بالقبلة السابقة، فصارت المسألة منوطة بالإقرار والإذعان والتصديق، إقراركم بالقبلة الأولى، وتصديق النبي ﷺ في ذلك، واتباعه إلى القبلة الأخرى، فصار الإيمان هنا هو الانقياد لأمر الله ، وفي المعنى الذي قبله الإيمان هو الصلاة إلى بيت المقدس السابقة، وذلك القول أيضاً يستلزم هذا القول، وذلك -كما سبق- فإن صلاتهم إلى بيت المقدس لا يضيعها الله حيث قبلوا عنه ، وأتمروا بأمره، وانقادوا طواعيةً من غير اعتراض، فبهذا كان ذلك من قبيل الإيمان بالنسبة لهم، بل هو إيمان عظيم جداً؛ لأنه أمر تتزلزل بسببه النفوس، ومعلوم أن القولين إذا كان بينهما ملازمة والآية تحتملهما فإنهما مما يدخلان فيها إن لم يوجد ما يمنع من ذلك، وهنا ليس هناك ما يمنع من هذا.

أي: لَيُعْطيكم أجرهما جميعاً، إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143​​​​​​​].

ما فسرها هنا.

"إن الله"هذا تعليل لما سبق، فالله  لا يضيع أجر من أحسن عملاً لكمال رأفته ورحمته بخلقه -جل وعلا، فلا يضيع أجورهم وأعمالهم، بل يحتسبها لهم، ويجازيهم عليها، ومن أسمائه الشكور، وهو الذي يجازي بالحسنات إحساناً، بل يزيد بالجزاء فيجازيه الجزاء الأوفى، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، هذا معنى الشكور، وهذا معنى شكر الرب لعبده، شكر الله له بمعنى أثابه على عمله، وضاعف له أيضاً المثوبة والأجر.

إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143​​​​​​​] فإنّ –هنا- تدل على التوكيد، وفي نفس الوقت تشعر بالتعليل، والرأفة إذا فسرناها بشيء من التوسع في التعبير قلنا: هي الرحمة، وإذا أردنا أن نفرق ونذكر ما تفترق به الرأفة عن الرحمة، نقول: الرأفة نوع من الرحمة، بعض أهل العلم يقول: أكبر وأشد من الرحمة، وبعضهم يقول: الرأفة والرآفة بمعنى الرحمة الرقيقة، يقال: يرأف بكذا، والرأفة بكذا، بمعنى الرحمة، لكنها رحمة رقيقة، إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143​​​​​​​] فلا يضيع أعمالهم الصغيرة، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [سورةالزلزلة:7] فكيف يضيع صلاتهم التي هي من أعظم أعمالهم، لا سيما مع هذا الثبات العظيم؟! فإن مقتضى رحمته خلاف ذلك.

وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كُلَّما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها[2].

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144​​​​​​​].

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144​​​​​​​] (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع ماذا تفيد؟ قد يجود البخيل، وقد يكبو الجواد، هنا (قد) للتقليل؛ لأن ذلك يقع قليلاً منه، (قد يسافر زيد) احتمال، (قد سافر زيد) هذه للتأكيد والتحقيق أن هذا الأمر متحقق، فهنا دخلت على الفعل المضارع قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144​​​​​​​] والله قطعاً يرى وجهه يتقلب في السماء، فهذا له نظائر في كتاب الله ، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ [سورة النــور:63] وما إلى ذلك، فماذا يقال فيها؟ إذا رأيتها منسوبة مضافة إلى الله  فإن ذلك يعني المبالغة في التحقيق، تدل على التحقيق إذا دخلت على الفعل المضارع منسوباً إلى الله ، ولها أمثلة في القرآن، كلما جاءت مضافة إلى الله فهي للتحقيق، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144​​​​​​​] أي قد رأينا ذلك.

ومعنى تقلب وجه النبي ﷺ في السماء أنه كان يرفع بصره يتطلع إلى أمر الله أن يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم ﷺ، فقد كان يحبها، وهذا فيه رد على قول من قال: إن توجه النبي ﷺ إلى بيت المقدس كان من عند نفسه، وهذا من أغرب الأشياء، وإن قال به بعض أهل العلم، فهذا ظاهر وصريح في أن النبي ﷺ كان يتطلع إلى قبلة إبراهيم، وينتظر أمر الله أن يوجهه إلى القبلة لمحبته لها؛ ولأن المشركين قد شغبوا عليه، قالوا: يدّعي أنه على دين إبراهيم ويخالفه في القبلة؟! وأهل الكتاب يعلمون أن قبلة النبي الذي سيبعث ستكون قبلة الأنبياء قبله وهي الكعبة.

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144​​​​​​​] أي: تطلع النبي ﷺ برفع بصره إلى السماء ينتظر أمر الله .

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144​​​​​​​] هذه اللفظة (نولينك) تحتمل أن تكون بمعنى التولية، تقول: دعه وما تولى، إنسان بيده أموال لأيتام أو تحت يده رعية، أو أمانة من الأمانات فتقول: دعه وما تولى من الولاية (فلنولينك) تقول: الله أولاك نعمه بمعنى أعطاكها، وملكك إياها.

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144​​​​​​​] يحتمل أن يكون بمعنى نعطينّك قبلة تحبها وترضاها وتعجبك، فهذا وإن كانت تحتمله الآية إلا أنه غير متبادر، والقرآن إنما يحمل على المعنى المتبادر، ولا يحمل على المعنى البعيد إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولذلك كان معنى التولي هنا من التولي الذي هو التوجيه، تقول: ولى وجهه إلى كذا بمعنى وجهه إلى كذا، (فلنولنيك) أي: فلنوجهنك وجهة ترضاها، والقبلة هي الوجهة، وهذا هو المتبادر وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: كان أوَّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144​​​​​​​] ​​​​​​​إلى قوله: فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144​​​​​​​] فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142​​​​​​​] وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143​​​​​​​].

هذه الآية قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144​​​​​​​] ذكرنا سابقاً عند قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142​​​​​​​] أن بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية متقدمة في النزول على قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِن النّاس [سورة البقرة:142] فهو أعلمهم أن السفهاء سيقولون ذلك ليمهد، ثم بعد ذلك نسخ القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144​​​​​​​] ثم أعلمه ليطمئنه أن السفهاء سيشغبون عليه ويقولون: كذا وكذا فلا تلتفت إليهم، فعلى هذا نسخت القبلة، ثم ذكر الله ما يطمئن نفوسهم بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] وكذا على قول من قال: إن قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] كما سبق عُبر بها بصيغة المستقبل وهي من الأمر الماضي؛ لأن ذلك قد استمر، مستمر هذا الشغب والتلبيس بما يتعلق بالقبلة، والله تعالى أعلم.

روى الحاكم عن علي بن أبي طالب -فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144​​​​​​​] قال: شطره: قِبَله، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

الشطر بمعنى الناحية والجهة للشيء، ناحية الشيء وجهته، الجهة شطر المسجد الحرام، وإن كان الشطر يأتي بمعنىً آخر لكن في غير هذا الموضع، وهو شطر الشيء بمعنى النصف.

وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جُبَير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم، وقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144​​​​​​​] أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

بمعنى ولوا وجوهكم في أي مكان تكونون ناحية البيت، وهذا أمر مجمع عليه أنه يجب أن يتولى الإنسان الكعبة، فمن كان في المسجد فإنه يستقبل -كما سبق في درس المقنع- الكعبة، ومن كان في خارج المسجد فإنه يستقبل المسجد، وهذا ليس بإطلاق، فإذا كان جنب المسجد بجواره لا نقول: استقبل المسعى، هذا الكلام غير صحيح، وأما من يصلون في وسط المسجد إلى جهات أخرى -فهذا أمر في غاية العجب- حيث توجهت سجادته أو قبته التي يصلي على عتباتها، فهذا ما تصح صلاته.

ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئاً في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:144​​​​​​​] أي: واليهود -الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس- يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله ﷺ وأمته، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً؛ ولهذا تهددهم تعالى بقوله: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144​​​​​​​].

يعني أن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق بمعنى: يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما يجدونه في كتبهم، وهذا هو المتبادر، وبعض أهل العلم يعبر عن هذا فيقول: يعملون أنه الحق أنها قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده، فقبلتهم جميعاً هي الكعبة، وبعضهم يقول: يعلمون أنه الحق من ربهم أي هذا التحويل، يعلمون من صفته أنه سيحول من هذه القبلة إلى هذه القبلة، وكل ذلك لا إشكال فيه، فهم يعرفون وصف النبي ﷺ، ومهاجره، ويعرفون قبلته، وما سيكون من أمره، فهم يعلمون أن هذه القبلة التي هم يشغبون عليها أنها حق من الله ، وهي قبلة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وقبلة الأنبياء من بعده.

وعلى هذا الاعتبار تكون قبلة جميع الأنبياء إلى الكعبة، والأنبياء حجوا البيت، كما هو معروف، وتعرفون الأحاديث الواردة في هذا، ومسجد الخيف صلى فيه سبعون نبياً، وقال النبي ﷺ لما مر بوادي الأزرق: كأني أنظر إلى موسى[3].. إلى آخره.

فالمقصود أن قبلة الأنبياء إلى الكعبة، وبعض أهل العلم يُفهم من كلامه خلاف هذا، ومن الناحية الواقعية اليهود يستقبلون بيت المقدس، وإن أردت أن تحدد أكثر قل: يستقبلون الصخرة، فالمسلمون لا يعظمون هذه الصخرة، فاليهود يستقبلونها حيث كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق مطلقاً حيث كانوا، لماذا اليهود يستقبلون الصخرة؟ يقول بعض أهل العلم: إن اليهود كانوا يحملون معهم التابوت، كما قال تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا حيثما انتقلوا وحلوا أو ذهبت جيوشهم أو نحو هذا وضعوا التابوت وصلوا إليه، يحملونه في أسفارهم ومغازيهم، وإذا كانوا ببيت المقدس وضعوه على الصخرة واستقبلوه.

التابوت هذا يقولون: فيه بقايا -هكذا يقال، جاء هذا في بعض الروايات، في رواية حسنها الشيخ الألباني: "عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت[4] وجاء في تلك الرواية: "أنه رفع ستة أسباعها وبقي السبع" هذه الرواية حسنها الألباني، وبعض أهل العلم يضعفها.

يقولون: إنها كانت مكتوبة على ألواح من زبرجد فتحطمت، فهذا الذي ترضرض منها، هذا الفتات جمع وهو المراد بقوله: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا يحملونه معهم.. إلى آخره.

فالمقصود أنهم كانوا يستقبلون التابوت، ويضعونه على الصخرة إذا نزلوا في بيت المقدس، فرفع التابوت فصاروا يستقبلون المحل الذي يضعونه عليه دون أن يُوجهوا إلى ذلك، وأما النصارى فهم لشدة عداوتهم لليهود خالفوهم فاستقبلوا المشرق، وإلا فقبلة الجميع هي الكعبة على قول طائفة من أهل العلم، وهو صريح كلام ابن جرير في فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144​​​​​​​].

لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة البقرة:144​​​​​​​] أي: قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده.

وابن القيم -رحمه الله- في كلامه في عدد من كتبه تكلم على هذه المسألة، وكلامه فيها فيه شيء من الاختلاف، ففي موضع يقرر أن قبلة جميع الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم -صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم- هي الكعبة، وفي بعضها يقرر أن قبلتهم بيت المقدس أو الصخرة.

ونقل عن السهيلي في بدائع الفوائد ما هو صريح في تقرير هذا المعنى، وعلى كل حال لعل الأقرب -والله أعلم- أن قبلة جميع الأنبياء هي الكعبة، وأن التاريخ الذي كانوا يتعاملون به ليس التاريخ الشمسي، وإنما هو التاريخ القمري أيضاً، وعلى هذا أدلة، ويكفيك منها ما نحن بصدد استقباله قريباً -إن شاء الله- وهو يوم عاشوراء فهو بالتاريخ القمري بهذا الاعتبار، وهو اليوم الذي نجا الله فيه موسى لما هاجر النبي ﷺ وسألهم عن سبب صيامه.

 
  1. أخرجه مسلم فيالإيمان باب شعب الإيمان(ج1/ص46-161).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (ج5/ص2235 -5653)، ومسلم في التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (ج8/ص97-7154).
  3. أخرجه مسلم في الإيمان باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات (ج1/ص105 - 438).
  4. أخرجه أحمد في المسند (ج1/ص271 – 2447) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير سريج بن النعمان فمن رجال البخاري.وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 5374. 

مواد ذات صلة