بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالله -تبارك وتعالى- بعد ما أمر نبيه ﷺ بالتوجه إلى هذه القبلة، أخبر أن هؤلاء الذين أوتوا الكتاب ليسوا بطلاب حق، وأنهم في غاية المكابرة، وأنهم مهما ظهر لهم من الحجج والدلائل والبراهين لن يتحولوا إلى قبلته ﷺ، ومن ثَمّ فإن ذلك يقتضى قطع الطمع من إيمانهم، ومِن تحرِّي قبولهم وتقريبهم بناءً على موافقتهم في القبلة، فإن موافقتك لهم في قبلتهم في بيت المقدس لا يعني أن هؤلاء سيلينون، تلين عريكتهم، ويتقبلون عنك ما جئت به، بل هم في غاية الإصرار على الباطل، ومن ثم فلا ينبغي للإنسان أن يقلق من تحويل القبلة مخافة أن تنفر قلوب هؤلاء الذين ربما يُطمع في إيمانهم بهذه الموافقة، فهؤلاء لا سبيل إلى استمالة قلوبهم، فهم مكابرون، ومقيمون على ضلالهم وباطلهم، فلا تلتفت إليهم، ولا تعبأ بهم، هذا وجه الارتباط.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ [سورة البقرة:145] اللام هنا هي لام القسم، أو موطئة للقسم، كأنه يقول: والله لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان فإنه لا يغير ذلك من حالهم شيئاً، لن يتبعوا قبلتك، فإذاً لا تكترث بهم، ولا تشتغل بهم، ولا تنظر إلى خواطرهم، أو استمالة قلوبهم؛ لأن هؤلاء لن يوافقوك على ذلك، فهذا أََخبَرَ به عن حالهم، ثم وَصف نبيه ﷺ وما هو عليه من الثبات العظيم، هذا هو المعنى المتبادر، وهو الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله.
وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [سورة البقرة:145] هذا إخبار، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن هذا بمعنى النهي، نهي للنبي ﷺ أن يتبع قبلتهم، لكنه في غاية البعد، وإنما هو إخبار عن حال رسوله ﷺ، وثباته على أمر ربه، وقبوله هذه القبلة.
والقبلة -كما ذكرنا من قبل- شعار، فهي من أعظم ما يكون من شعار أهل الدين، وهي رمز له، ومن ثَمّ فإن التحول منها ليس بالأمر السهل، ليس كنسخ قضية تتعلق بالطهارة، أو مسألة تتعلق بعبادة أخرى، إنما هو شعار لأهل الملة والدين، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- فيما ذكرته سابقاً.
يعني هنا قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم [سورة البقرة:120] فهذا هو الشاهد الذين يَعْنيه ابن كثير -رحمه الله، بأن الإنسان إذا انحرف عن الحق وهو يعلم، العالم إذا انحرف فإن ذلك أعظم من انحراف غيره من سائر الناس، ولهذا تعرفون ما وقع لذلك الذي يقال له: بلعام بن باعوراء في قوله: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:175-176] فأسوأ مثلين في كتاب الله هما للعالم المنحرف الذي لا يعمل بعلمه -ما ذكرهما الله للعوام-الأول الكلب، والثاني الحمار.
الكلب: ضربه الله مثلاً لرجل من بني إسرائيل أتاه الله آياته، وكان من علمائهم فانحرف، ولم يكن متبعاً لما علم، فحاد عنه، فكان بهذه المثابة.
والثاني: مثلاً ضربه الله لطائفة بكاملها، وهم اليهود الذين أعطاهم الله كتاباً وعلماً، وميزهم بهذا عن سائر الأمم، ومع ذلك لم يعملوا بكتابهم، فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فأهل العلم إذا ضلوا فإن ذلك يكون أعظم من ضلال غيرهم وانحرافهم، فالمسألة تتفاوت، كما قيل: على قدر المقام يكون الملام.
وهذه الآية يتكلم عليها أيضاً أهل العلم فيما يتعلق بالمسألة المعروفة وهي بلوغ التكليف والحجة: مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [سورة البقرة:145].
يعني من بعد ما جاءك من العلم أن هذه القبلة حق، وأنها من أمر الله ونحو ذلك، هذا المعنى الذي يتبادر منها، وربما كان المعنى أوسع من هذا، فهذا كله مما أعلمه الله به، يعني ما الذي أعلمه الله به؟ أنهم يعلمون ذلك حقاً، وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:144] وأنهم مقيمون على باطلهم، لا يتخلون عنه بحال من الأحوال، لن يتحولوا إلى قبلتك؛ لأن هذه القبلة التي حولتُك إليها هي حق ثابت من عند الله ، فهذا كله مما جاءه من العلم عن الله .
ولهذا فإن ابن جرير الطبري -رحمه الله- يحمل قوله تعالى: مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [سورة البقرة:145] على هذه المعاني جميعاً، ما الذي جاءه من العلم؟ هي هذه الأمور التي أعلمه الله بها، ولا يختص بواحد دون غيره، فهي قبلة إبراهيم ﷺ وولده، إلى غير ذلك من الأمور التي سبقت، والله تعالى أعلم.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146] "يعرفونه" يعرفون ماذا؟ يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى النبي ﷺ، يعرفون نبوته كما يعرفون أبناءهم، كما جاء ذلك عن عبد الله بن سلام أنه يعرف نبوة النبي ﷺ أكثر من معرفته لولده؛ لأن ولده لا يدري لعل امرأته قد قرفت، فأما نبوة النبي ﷺ فهي أثبت عنده وآكد وأقوى وأبين من معرفته لولده الذي من صلبه.
وبعض أهل العلم يقول الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146]:إن الضمير يعود إلى القبلة وليس إلى النبي ﷺ، ولهذا فابن جرير -رحمه الله- يقول: يعرفون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم ﷺ وقبلة الرسل من بعده، وأما القبلة التي هم عليها فهي قبلة محدثة، وكذلك قبلة النصارى في التوجه إلى المشرق، يعرفون هذا فهو ثابت عندهم في كتبهم، أو من خبر الأنبياء الذين بعثهم الله فيهم.
وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] الحق هنا بحسب ما يقال في الضمير في قوله: "يعرفونه"، فإذا قلنا: إن الضمير في "يعرفونه" يعني محمداً ﷺ فيكون: "ليكتمون الحق" يعني في نبوته، فيغيرون صفته، فبدلاً مما يجدون أنه ربعة بين الرجال، يقولون: إنه طويل بائن الطول.. إلى غير ذلك، وإذا قيل: إن قوله: "يعرفونه" الضمير يعود إلى أمر الكعبة وأنها قبلة إبراهيم والأنبياء بعده، فيكون: "ليكتمون الحق" يعني: أمر القبلة.
فعلى كل حال هم يكتمون الحق كما وصفهم الله في آيات كثيرة، ومن كتمهم الحق ما يتعلق بأمر القبلة، وما يتعلق ببعث محمد ﷺ، إذ إنهم قد عرفوا صفته ومع ذلك وقع الإنكار منهم.
ثم قال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة البقرة:147] نفس القضية في المراد بالحق من ربك ونفس الاحتمالات السابقة. ويمكن أن يكون الحق من ربك المقصود به جنس الحق، يعني لا يختص بنبوة محمد ﷺ ولا بأمر القبلة، الحق من ربك فالزمه، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147].
كما جاء في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال لرجل معه صغير: ابنك هذا؟ قال: نعم يا رسول الله، أشهد به، قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه[1] قال القرطبي: ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً ﷺ كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه.
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي ﷺ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146].
يعني يعلمون أمر القبلة، أو يعلمون أمر محمد ﷺ، أو يعلمون الأمرين معاً، وهذا كله حق، فهم يكتمون الحق في أمر القبلة، فالآيات نازلة فيها، وهم كتموا الحق أيضاً في حق محمد ﷺ، ولهذا فإن قوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] يحمله بعض المفسرين على هذه المعاني جميعاً، في أمر القبلة، وفي أمر محمد -عليه الصلاة والسلام، ومنهم ابن جرير -رحمه الله.
ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] والامتراء المقصود به الشك، وهل كان رسول الله ﷺ شاكاً؟
الجواب طبعاً: لا، حاشا وكلا، فهو أوثق الأمة إيماناً، وأعلمهم بالله ، والنهي عن الشيء لا يقتضي وقوعه من هذا المنهي عنه، وإنما هو للتحذير من ذلك.
وما يتعلق بالنبي ﷺ، ففي مواضع كثيرة من القرآن يُؤمر ﷺ ويُنهى ويكون المقصود بذلك أمته، إذ إن الأمة تخاطب في شخص قدوتها -عليه الصلاة والسلام، ولهذا فإن الخطاب الموجه للنبي ﷺ تارة يكون مختصاً به، وتارة تراد به الأمة، وتارة يكون للنبي ﷺ وللأمة.
فعلى كل حال بعض أهل العلم يحمل مثل هذا على أن المراد به الأمة، ابن جرير -رحمه الله- يقول: هذا خطاب للأمة، نهيٌ لها عن الامتراء والشك، وإلا فإن هذا لا يتطرق إلى رسول الله ﷺ، وليس ذلك بمستغرب أن يخاطب النبي -عليه الصلاة والسلام- وتراد أمته، وعلى كل حال -كما قلت- مخاطبة النبي ﷺ أو نهيه عن شيء لا يعني إمكان وقوعه منه، وهذا له أمثلة كثيرة في القرآن، وكذلك بعض الأساليب الأخرى، مثل ما يكون على سبيل الشرط مثلاً فإن ذلك لا يعني إمكان الوقوع، مثل: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81] فهذا لا يمكن أن يكون، ولكن هذا يؤتى به لتقرير معنىً، أو لبيان باطل، أو لدفع شبهة، ونحو ذلك.
القبلة: فِعْلة من المواجهة، وهي بمعنى الجهة، ولكل وجهة يعني: أي جهة هم مستقبلوها، ومتوجهون إليها، على كل حال أي أنهم لا يتبعون قبلتك، ولا أنت ستتبع قبلتهم، لكل وجهة، أي هو متوجه إليها، وموليها وجهه، والضميرفي موليها راجع إلى (كل)، هذا الأقرب والأرجح، وهو الذي عليه كثير من أهل العلم من المفسرين والمحققين، واختيار الحافظ ابن القيم، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] راجع إلى ما سبق من قوله: "كل"، وعلى هذا يكون المعنى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] أي: متوجه إليها، فكل قوم يتوجهون إلى قبلتهم من أهل الملل والديانات، فكل ملة تتجه إلى قبلتها، هذا هو المعنى المتبادر، وأما ما قيل من غيره ففيه بعد؛ لأن بعضهم يقول وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148]: إن ذلك في أهل الإسلام بحسب مواقعهم من الأرض وتوجههم إلى الكعبة، فناس في الشمال، وناس في الجنوب، وناس في كذا، فهذا فيه بعد.
ومنهم من يقول: إن الضمير في قوله: "هو" عائد إلى الله مع أنه لم يرد له ذكر، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] أي: أن الله موليهم إياها، وهذا أيضاً فيه إشكال إلا إذا فسر بما ذكرت آنفاً مع أن فيه بعداً، إذا فسر بأنه هو موليها أي: الله موليهم إياها، بمعنى أن ذلك في المسلمين حيث يقعون في أنحاء شتى عن الكعبة، فكل يستقبل القبلة من ناحيته، أما عنالقول الذي ذكره بعض أهل العلم من أن المقصود هو موليها أي: الله هو موليهم إياها، والمقصود به أهل الملل، فهذا فيه إشكال، فكيف تكون قبلة أولئك المختلقة الله هو الذي ولاهم إياها؟!
فالأقرب أن الضمير "هو" راجع إلى ما سبق من قوله: "كل"، ولكلٍّ يعني من الملل والنحل وأهل الديانات وجهة –جهة- هم مستقبلوها، هو موليها هؤلاء الناس أهل هذه الديانة هم متجهون إليها، وليس الله هو الذي وجههم إليها.
لكن على قراءة ابن عامر: "هو مُولاّها" كيف يكون المعنى؟ على ماذا يحمل؟ هل يكون ذلك في أهل الأديان؟ لا، وإنما هو بالنسبة للمسلمين، كما ذكر هذا جمع من أهل العلم، وأحياناً تجدون القول يذكر في التفسير والواقع أنه منزل على قراءة أخرى، وعلى كل حال ربما فسر بعضهم إحدى القراءتين بالأخرى، يعني مثلاً: "هو موليها" تحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله، الاحتمال موجود، ربما بعضهم يفسر هذا بالقراءة الأخرى: "مَولاّها" لكنه لا يخلو من إشكال؛ لأن الضمير: في "هو مُولاّها" في القراءة الأخرى يرجع إلى (كل)، ما يمكن أن يرجع إلى الله، "هو مُولاّها" الله مولاها، ما يجئ.
فعلى كل حال القاعدة: أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فيكون هذه لها معنى، وهذه لها معنى.
هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] أي: صاحب القبلة متوجه إلى قبلته أياً كانت، "هو مُولاها" على هذه القراءة يكون المعنى أن الله موليه إياها، باعتبار أن ذلك في القبلة الحق، ولهذا بعض أهل العلم يقول: إن ذلك في تعدد القبلة حيث كان من أمر الله، فسواء توجهتم إلى بيت المقدس أو توجهتم إلى الكعبة فهذه قبلة وهذه قبلة، ولكلٍّ وجهة -قبلة- هو مولاها بمعنى أن الله وجه إلى هذا ووجه إلى هذا، وكله حق حينما وجهكم إليه، وهذا المعنى ليس ببعيد، والآية تحتمل معنى آخر، لكنني لم أقف على أحدٍ ذكره، وهو معنى قريب، والله تعالى أعلم.
وفي قوله: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148] ما المناسبة بين ذكر استباق الخيرات وبين الوجهة؟ يعني يمكن أن يقال: فبادروا إلى امتثال أمر الله ، واستقبال قبلتكم التي وجهكم إليها، والتقرب إلى الله بهذا الامتثال، وبالصلاة نحوها.. إلى غير ذلك.
- أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه [جزء 2- ص575 - 4495)، وأحمد في المسند [جزء 2- ص 226 - 7109) وصححه الألباني فيصحيح الجامع انظر حديث رقم : 1317.