بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعرفنا وجه الشبه بين هذه الآية وبين قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورةالمائدة:48]، وقوله -تبارك وتعالى: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148] أي: سارعوا إلى امتثال أمر الله بالتوجه حيث وجهكم إلى هذه القبلة، ويدخل في عمومها المبادرة إلى الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى فعل الطاعات، والتقرب إلى الله بألوان القربات، وقد أخذ منه بعض أهل العلم المبادرة إلى الصلاة في أول الوقت أخذاً من عمومها؛ لأنه قال: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148] ومن الاستباق إلى الخيرات المسارعة إلى الصلاة، وفعلها في أول الوقت، فيدخل فيه المسارعة إلى كل خير.
وقوله: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:148] أي: يجمعكم من سائر الجهات المتفرقة في نواحي الأرض، وذلك في البعث، كما أنكم تتوجهون إلى بيته الحرام من سائر الجهات، فهذا الربط الذي ذكرته بناءً على المناسبة بين خاتمة هذه الآية وبين موضوعها، الموضوع يتعلق بالقبلة، فالله قال في آخرها: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا [سورة البقرة:148] أي: أن الله قادر على حشركم ونشركم وجمعكم وإن تفرقتم في أنحاء الأرض، فهو على جمعكم قدير، فكما تتوجهون من سائر الجهات إلى القبلة التي وجهكم إليها فهو أيضاً يجمعكم من سائر الجهات ليوم البعث والنشور.
يقول: هذا أمر ثالث من الله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:149] يعني أنه كرر ذلك ثالثاً، والقاعدة في هذا الباب: أنه لا تكرار إلا لمعنى، يعني ليس تكراراً محضاً، وإنما في كل موضع يكون هذا التكرار لمعنىً يتعلق به، وسبق الكلام على هذه القضية، ذكرنا في قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حينما تتكرر قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من موضع هذا ليس تكراراً محضاً فهو يذكر في كلٍّ ما يتعلق بالمناسبة التي من أجلها سيقت هذه القصة، فتارة يذكر منها ما يسلي النبي ﷺ، ويقويه على تحمل الأذى الذي يصيبه من قومه.
وتارة يذكرها لبيان فضل الله وإنعامه على بني إسرائيل مثلاً.
وتارة يذكرها لبيان نقمته، وشديد عقابه، وعظيم سطوته التي لا تطاق، ونكاله بالمجرمين.
وتارة يذكر ذلك في سياق بيان فضائل موسى ﷺ إلى غير ذلك.
والآيات التي تتكرر كثيرة، وقد ذكرت لكم من أوضحها قوله -تبارك وتعالى- في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13] ففي كل آية من هذه الآيات هي تتعلق بما ذكر قبلها، وليست تكرراً محضاً.
وكذلك قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [سورة الكافرون:1-2] أي: في الحاضر، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:3] أي: في الحاضر، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ [سورة الكافرون:4] في المستقبل لن أتحول إلى دينكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:5] أي: في المستقبل لن تتحولوا إلى ديني، فالكل على حال ودين مخالف للآخر، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6].
وإذا فهمت هذا المعنى سهلتْ عليك أمور كثيرة جداً، بل حتى يسهل عليك الحفظ، يعني مثل سورة الكافرون بعض الطلاب ربما يستصعب حفظها، فإذا أدرك هذا المعنى اتضحت له القضية، رأيت مرة طالباً في الجامعة يقول: هذه السورة لم أتمكن من حفظها، قلت: الأمر سهل، هذه كذا، وهذه كذا، وهذه كذا، وهذه كذا، قال: لأول مرة الآن حفظتها، ولذلك مما يذكر في تسهيل الحفظ هو ربط المعنى خاصة في الآيات المتشابهة، وهذا له كلام -على كل حال- في غير هذا الموضع.
والأحسن -والله أعلم- أن يربط كل موضع من هذه المواضع المتكررة بالسياق الذي ذكر فيه، فليس ذلك من التكرار المحض.
وأيهما أحسن أن نقول: هذا للتأكيد أو نقول بأن هذا في كل موضع له معنىً آخر؟
الأحسن الثاني؛ لأن القاعدة أن التأسيس أولى من التأكيد؛ لأن التأسيس يأتينا بمعنى جديد، وأما التأكيد فهو مجرد تكرار ليؤكد فيه المعنى، ولا معنى جديد،إنما هو المعنى الأول يقرره ويؤكده.
ولا ريب أنهم أدخلُ في هذا الخطاب منه ﷺ، فتأمل هذه النكت البديعة فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا، والله أعلم.
قال أبو القاسم: وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام...
هو ينقل الآن كلام أبي القاسم السهيلي لا كلام ابن القيم، يذكر وجهاً للسهيلي ثم يرد عليه، ويذكر ما يختاره.
هذا كلام السهيلي يقول: كررها ثلاث مرات لأن المنكرين للقبلة ثلاثة أصناف.
هذا كلام السهيلي قال كُرر قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ [سورة البقرة:149] ثلاث مرات؛ لأن الطوائف المنكرة ثلاث، لكن هذا فيه إشكال.
ننظر رد ابن القيم له في (بدائع الفوائد) صفحة ثلاثمائة وسبعة وخمسين، يقول: "وقول أبي القاسم أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثاً رداً على الطواف الثلاث ليس بالبين، ولا في اللفظ إشعار بذلك، والذي يظهر فيه أنه أمر به في كل سياق لمعنىً يقتضيه، فذكره أول مرة ابتداء للحكم ونسخاً للاستقبال.."[1] المرة الأولى وقع به النسخ، وتوجيه أهل الإيمان إلى استقبال الكعبة هذا في المرة الأولى لما قال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة:149] لأنه لأول مرة يطرق أسماعهم، فهذا الذي حصل به إثبات الحكم، ووقوع النسخ، فقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].
"ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم، حيث يجدونه في كتبهم كذلك، ثم أخبر عن عبادتهم وكفرهم" والظاهر أن العبارة فيها تحريف، والصواب: "أخبر عن عنادهم وكفرهم"، "وأنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته، ولا هو أيضاً بتابع قبلتهم، ولا بعضهم بتابع قبلة بعض، ثم حذره من إتباع أهوائهم، ثم كرر معرفة أهل الكتاب به كمعرفتهم بأبنائهم، وأنهم ليكتمون الحق عن علم، ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه فلا يلحقه فيه امتراء، ثم أخبر أن لكلٍّ وجهة هو مستقبلها، وموليها وجهه، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات، ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ".
قال: كل ملة لهم وجهة يستقبلونها، فأنتم استقبلوا المسجد الحرام، في هذا السياق لما ذكر أن كل نحلة وطائفة وأهل دين يستقبلون وجهة فأنتم أيها المؤمنون استقبلوا بيت الله الحرام.
"ثم أعاد الأمر به غير مكررٍله تكراراً محضاً، بل في ضمنه أمْرُهم باستقبالها حيث كانوا، كما أمَرَهم باستقبالها أولاً حيث ما كانوا عند النسخ وابتداء شرع الحكم، فأمرهم باستقبالها حيث ما كانوا عند شرع الحكم وابتدائه، وبعد المحاجة والمخاصمة والحكم لهم، وبيان عنادهم ومخالفتهم مع علمهم، فذكر الأمر بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له، فتأمله، والله أعلم".. إلى آخره.
يقول لهم: الآن كل أهل ملة لهم قبلة، فاستقبلوا هذه القبلة، ثم قال لهم: هذه قبلتكم في أي مكان تكونون فيه، في تنقلكم، في مغازيكم، في أسفاركم، إلا ما استثني من صلاة الإنسان النافلة على الراحلة عند جمع من أهل العلم، وعلى قدميه أيضاً على الأرجح فإنه يستقبل الجهة التي هو متوجه إليها، وكذلك في بعض الحالات في الحرب أو الخوف فإنه يسقط الاستقبال.
ذكر في هذا المقام الإجابة إلى طلبه، هل هذا يعارض كلام ابن القيم أنه وقع به تقرير الحكم وإثبات النسخ؟ لا يعارضه، إنما كان ذلك بناء على رغبة كانت عند النبي ﷺ وتطلع إلى هذا، ففي المرة الأولى قرر التوجه إلى بيت الله الحرام إجابة إلى طلبه ﷺ، وكان بذلك نسخ الحكم، وتقرير استقبال القبلة في المرة الأولى.
هذا من أنفع الأشياء في التفسير والحديث، وسيأتي في الكلام -إن شاء الله- على حديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2] أن هذا ليس من قبيل التكرار.
يعني الآن في الموضع الثاني يقول: بين له أن هذا هو الحق، وعلى كلام ابن القيم يكون الموضع الثاني لكل أمة وجهة وهذه وجهتكم، وهو قريب من هذا؛ لأنه ذكر ما يتجه إليه أهل الباطل ويستقبلونه، وبين لأهل الحق وجهتهم.
يُفهم هذا الكلام؛ لأنه كلام جيد، وكذلك كلام ابن القيم، في فرق بين التوجيهين، والأمر قريب؛ لأن ذلك إنما يلتمس بالنظر والاجتهاد، فتختلف فيه الأنظار، لكنه كله يجري على قاعدة: التأسيس مقدم على التوكيد، وربط كل آية بموضعها من السياق، فهذه ملاحِظ حسنة جيدة، ومن حيث التوجيه هي في غاية التقارب، وليس هناك دليل صريح بأنها ذكرت هنا من أجل كذا، لكن كل ذلك محتمل.
نعيدها مرة ثانية حتى نضبطها، كلام ابن القيم:
أول مرة تقرير الحكم ونسخ بيت المقدس.
والثانية: لكل ملة وجهة وهذه وجهتكم.
والثالثة: حيث ما توجهتم، وفي أي مخرج خرجتم فهذه قبلتكم في الحل والترحال.
وعلى كلام ابن كثير يكون الأمر الأول: لتقرير الحكم إجابةً لرغبة النبي ﷺ.
وفي الموضع الثاني: أنه الحق الذي يرتضيه ربكم، ليس فقط مجرد إجابة للنبي ﷺ، بل هو الحق الذي رضيه الله وأحبه.
والأمر الثالث: قطع حجج المعاندين لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة: 150].
الآن قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة: 150] لاحظ التنويع في الخطاب، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة: 150] هذا للنبي ﷺ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] لماذا غاير بينهما؟
بعض أهل العلم يقول: هذا في المخرج، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:150] وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [سورة البقرة:150] في حال استقراركم، في أي ناحية من النواحي، فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة: 150] الأول: حيث ما توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام، والثاني: وحيث ما كنتم في أي مكان كنتم نازلين فاستقبلوا هذه القبلة، هذا وجه قريب، وبعض أهل العلم يذكر غير هذا في المفارقة أو في وجه الفرق بين العبارتين، والعلم عند الله .
الآن لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة: 150] الناس هنا الراجح أنهم أهل الكتاب، هذا هو المتبادر، وهو الذي اختاره كثير من المفسرين ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، ما هي حجتهم؟
يمكن أن تفترض عدداً من الأشياء التي يمكن أن يقولوها، أو يؤخذ ببعض ما نقل عنهم مما قالوه، فربما زعموا أنهم هدوا المسلمين إلى قبلتهم وهي بيت المقدس، يدعون أنهم هدوهم إلى هذا، ومن ثم أيضاً يحتجون عليهم فيقولون: هديناكم إلى هذه القبلة فاتجهتم إلى قبلتنا وخالفتمونا في ديننا، كيف هذا؟! فحولوا إلى المسجد الحرام، هذا احتجاج اليهود لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] فهذا هو الأقرب.
ومن ثم فإن قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] حمله كثير من المفسرين على أن المقصود به هم المشركون من العرب، فالمشركون من العرب كانوا يحتجون بهذا التحويل على أن محمداً ﷺ قد تحول إلى قبلة أبائه، وذلك مؤذن بتحوله إلى دينهم، فمثل هؤلاء لا سبيل إلى قطع ألسنتهم، فالناس يتكلمون بما يحلو لهم، ولا يستطيع الإنسان أن يضع قفلاً على أفواه الناس حتى لا يتكلموا، فهم يتكلمون ولكن ما قيمة هذا الكلام.
ولهذا فالوقت يضيق الآن عن الكلام على قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هل الاستثناء هنا متصل أو منفصل؟ بمعنى إذا قلنا: إنه منفصل فيكون معنى الآية: لئلا يكون للناس عليكم حجة لكن الذين ظلموا منهم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150]، أو أن الاستثناء متصل...
- بدائع الفوائد [جزء 4 - ص979].
- أخرجه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1- ص 3 - 1] وفي كتاب الأيمان والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6 - ص 2461 - 6311] وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها [جزء 6 - ص2551 - 6553 ]، ومسلم بلفظ الإفراد: إنما الأعمال بالنية في كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].