الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[68] من قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ} الآية 155 إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} الآية 158
تاريخ النشر: ١٣ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 3958
مرات الإستماع: 3450

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلىالله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة155-157]:

أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31] 

فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [سورة النحل:112] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [سورة النحل:112] وقال هاهنا: بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ [سورة البقرة:155] أي: بقليل من ذلك.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد أكد الله هذا الوعد باللام والنون الثقيلة فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [سورة البقرة:155].

وفي قوله: حَتَّى نَعْلَمَ [سورة محمد:31] المقصود بالعلم هنا -كما سبق- العلم الذي يترتب عليه الجزاء، ويكون ذلك بصيرورة هذا الأمر وتحوله من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حتى نعلم ذلك حاصلاً وواقعاً.

فالحاصل أن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا تعليق على قوله: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [سورة النحل:112]

لماذا عبّر هناك بلباس الجوع والخوف، وفي هذه الآية قال: بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ [سورة البقرة:155] لماذا فرق بينهما؟

هذا الذي ذكره ابن كثير هنا هو ما يسمى بلطائف التفسير، فقال: فَأَذَاقَهَا اللّهُ [سورة النحل:112] أي: تلك الطائفة أو القرية الكافرة عذبها الله ، أنزل بها بأسه، فأذاقها لباس الجوع والخوف، فصار ذلك ظاهراً عليهم، كاللباس الذي يظهر على لابسه.

وهنا يقول لأهل الإيمان: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ [سورة البقرة:155] فهو شيء يسير لا يكون بتلك المثابة التي هي من قبيل العذاب، مثل: أذاقها لباس الجوع والخوف، هذا ما ذكره في وجه التفريق بين العبارتين.

فإذا قيل: لطائف التفسير فهذا مثال منها، وليس ذلك بقاطع في كثير من هذه المواضع التي يذكرون فيها تلك اللطائف، ولكنها معانٍ جميلة، إلا أنه لا يقطع بها في كثير من الأحيان، ولهذا أنكر الشاطبي -رحمه الله- الاشتغال بها، والتعرض له في التفسير؛ لأنه يرى أن ذلك يخرج بالمفسر عن المعنى المقصود الذي سيقت من أجله الآية، فيُشتغل بهذه الدقائق عن غيرها من المهم، إضافة إلى قضية التكلف والقول على الله بغير علم. 

لكن التوسط في هذا -والله أعلم- هو الأحسن، التوسط بين من أغرق في هذه الأشياء وأتى بأمور متكلفة، وأضاع المعنى الذي من أجله سيقت الآية؛ لأنك تقرأ في بعض كتب التفسير فتجد أحياناً أن المعنى الأصلي ذهب، وشُغل القارئ بدقائق قد تكون متكلفة في كثير من الأحيان، فالتوسط أن يذكر المعنى الأصلي الذي ذُكرت من أجله الآية ويبيّن، ويذكر من هذه الملح واللطائف بغير تكلف.

ولو جُمعت هذه اللطائف كان حسناً، فإذا مر بك شيء من هذا تدونه، أحياناً هذه تجدونها في كتب التفسير، لا سيما التي تعنى بالجوانب البلاغية، مثل تفسير ابن عاشور وأشباهه، وتجد من هذا أيضاً في مثل تفسير الرازي، ومن نقل عنه كابن عادل الحنبلي في كتابه: اللباب، وتجدها أيضاًَ كثيراً في كلام ابن القيم -رحمه الله، وتجدها أيضاً في كتب خاصة فيما يعرف بالمتشابه اللفظي وتوجيه ذلك ككتاب الإسكافي: درة التنزيل وغرة التأويل، والبرهان في متشابه القرآن لزكريا الأنصاري، وملاك التأويل للغرناطي، وأمثال هذه الكتب، وتجد أيضاً مثل هذه الأشياء في كتب مفرقة، أحياناً قد تجدها في تراجم بعض العلماء، يقول: وكانت له استنباطات فيذكر بعض الدقائق والاستنباطات العجيبة واللطائف.

وقال هاهنا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ [سورة البقرة:155] أي: بقليل من ذلك، وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ [سورة البقرة:155] أي: ذهاب بعضها، وَالأنفُسِ [سورة البقرة:155] كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، وَالثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:155] أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:155]. 

ثم بيّن تعالى من الصابرون الذين شكرهم، فقال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [سورة البقرة:156] أي: تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورة البقرة:157] أي: ثناء من الله عليهم ورحمة، قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب.

تفسير الصلاة من الله هنا بالثناء عليهم أحسن؛ لأن من أهل العلم من يفسره بالرحمة فيكون ذلك من قبيل التكرار، يعني كأنه قال: "أولئك عليهم رحمة من ربهم ورحمة" والأحسن هو ما ذكره ابن كثير وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله: أن الصلوات جمع صلاة، وهي ذكره في الملأ الأعلى، وذلك يقتضي ويستلزم الرحمة، ولذلك من فسره بالرحمة يمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم؛ لأن من ذَكَره الله في الملأ الأعلى فهو من أهل رحمته، وليس من أهل سخطه وعذابه. 

ولذلك هؤلاء العلماء ما جاءوا بهذا من فراغ بل يحمل ذلك على أنه من قبيل التفسير باللازم، فإذا قال الإنسان: "اللهم صلِ على محمد" كثير من أهل العلم يقولون: المقصود به الدعاء له بالرحمة، فهذا بمعنى ذكره في الملأ الأعلى، وهو مقتضٍ ومستلزم للرحمة، وأما صلاة الملائكة فهي استغفار، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [سورة غافر:7] وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ [سورة الشورى:5] والصلاة من المؤمنين الدعاء.

"وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -: نعم العدلان ونعمت العلاوة."

العدلان: عدلا البعير ما يوضع على ظهره يسمى عدلاً، عدل من الجهة اليمنى، والعدل الآخر في الحمل من الجهة الأخرى، هذا هو العدل، ولذلك تجدونهم يضعون على الدابة -مثل الحمار- ما يسمى بالخرج، وهو معروف، فيه جيب من هاهنا، وجيب من هاهنا، يضعون فيه المتاع، فالمتاع لا يثبت من جهة واحدة، فيضعون ذلك هكذا على ظهره ليعتدل ويثبت، والعلاوة: هي ما يوضع فوق ظهره بينهما، يحمل فوق الظهر فيكون هذا عن يمينه وهذا عن شماله.

"أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورة البقرة:157] فهذان العدلان، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] فهذه العلاوة: وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً."

زيادة في الحمل وهو ما يُحمل على البعير مثلاً، أو الدابة عموماً، فهذا من هذه الجهة وهذا من هذه الجهة وهذا زيادة، فذكر ما لهم بقوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورة البقرة:157] فهذان العدلان، ثم قال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] هي العلاوة فوق ذلك، وحصلوا كل ذلك بصبرهم وقولهم: إِنَّا لِلّهِ [سورة البقرة:156].

وهذه الأشياء التي أعطانا الله إياها من الأموال والأنفس والثمرات إنما هي عارية، يأخذها متى شاء، فإذا وقع لهم شيء من سلب ذلك قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [سورة البقرة:155] فكل ما بأيدينا إنما هو من الله ، وكله صائر إليه، ونحن أيضاً صائرون إليه -تبارك وتعالى، فكان ذلك تسلية لنفوسهم.

وقوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:157] اهتدوا إلى الموقف الحق الصواب، والقول الحق الصواب في مثل هذه المقامات، فلم يحصل منهم جزع، ولا تسخط، ولا خروج إلى ما لا يليق مما يفعله من لم يعرف الله  كما ينبغي.

"وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون" عند المصائب أحاديث كثيرة. 
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة -ا- قالت: أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله ﷺ فقال: لقد سمعت من رسول الله ﷺ قولاً سررت به، قال: لا يُصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أْجُرني في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيراً منها إلا فُعل ذلك به قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: "اللهم أْجُرني في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيراً منها" ثم رجعت إلى نفسي فقلت: "من أين لي خير من أبي سلمة؟" فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول الله ﷺ وأنا أدبغ إهاباً لي فغسلت يدي من القرض وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم، حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي ألا يكون بك الرغبة، لكنني امرأة فيّ غيرة شديدة..."

تقول: توقفي وترددي لا أنني لا أرغب فيك، وإنما هي من شدة الغيرة، أما موضوع الرغبة فهذا لا إشكال ولا جدال فيه.

فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عنكِ، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالكِ عيالي قالت: فقد سلمت لرسول الله ﷺ، فتزوجها رسول الله ﷺ، فقالت أم سلمة بعدُ: أبدلني بأبي سلمة خيراً منه، رسول الله ﷺ[1]، ونحوه في صحيح مسلم مختصرا[2].

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة -ا وأرضاها- قالت: قلت أرأيتِ قول الله ...

قبل هذا هناك بعض الأشياء التي لم يتطرق لها، وهي في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] فالصفا يطلق في كلام العرب على الصخر الأملس، أو الحجر الأملس، والمقصود به –معروف- جبل الصفا الذي يسعى الناس بينه وبين المروة.

وأما المروة فبعضهم يقول: هي الحجارة الصغار اللينة، وبعضهم يعكس فيقول: الصلبة، وبعضهم يقول: البيضاء البراقة، وبعضهم يعكس فيقول: السوداء، وبعضهم يقول: يُطلق على الحجارة اللينة والحجارة الصلبة، كل ذلك يقال له: مروة.

فالحاصل أن الحجر الأملس يقال له: صفا، والحجارة التي قد تكون صغيرة لينة أو صلبة يقال لها: مروة، وبعضهم يذكر في لونها البياض، وبعضهم يذكر السواد.

قوله: مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] الشعائر: جمع شعيرة، والشعيرة: هي العلامة، أي من أعلام دينه في المناسك، فالصفا من شعائر الله، والمروة من شعائر الله، والطواف بالبيت من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، وذبح الهدي من شعائر الله، بل الهدي نفسه من أعظم شعائر الله، ولهذا قال الله لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] فهذا من باب عطف الخاص على العام، فهذا كله من شعائر الله. 

والدين كله يمكن أن يقال: إنه منقسم إلى شعائر وأمانات، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، فيكون بهذا الاعتبار وبهذا التقسيم: الشعائر هي الأمور الظاهرة، مثل: الأذان وصلاة الجماعة.. وما أشبه ذلك، والأمانات هي الأمور التي لا تظهر كالطهارة والصيام والصدق مع الله ، والإخلاص له.. وما أشبه ذلك مما لا يطلع عليه الناس، فلو صلى الإنسان وهو غير متوضئ لا يدري عنه أحد، والصوم كذلك، ولهذا قالوا: إن من خصائص الصوم أنه لا يدخله الرياء، بخلاف غيره من الأعمال، بينما يدخله السمعة، يتكلم عن نفسه أنه صائم، فهذا من العبادات التي أشعرها الله لعباده.

"روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قالت: قلت..."

طالب: قلت هذه -رعاك الله- لها مكان؟!

عن عروة عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [سورة البقرة:158] إي نعم ماذا عندكم؟

تراجها؟

طالب:.........

جزاك الله خيراً.

طالب:.........

بالضبط، قالت حينما قلت لها هو هذا، لكن نشوف أصل الرواية هل هي هكذا؟

طالب:..........

ما فيه قالت: قلت؟ اقرأ.

طالب:..........

ابن كثير معك؟

طالب:.........

الأصل؟

طالب:..........

أي طبعة؟

طالب:.........

على كل حال تراجع، إن كانت هكذا الرواية فلا إشكال أنها صحيحة، لكن لو كانت عن عائشة قالت هو يحكي الرواية عنها، ثم يقول: قلتُ، يعني هي قالت ذلك بناءً على سؤاله إياها.

روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة -ا- قالت: قلتُ: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قلت: فوالله ما على أحد جناح ألا يطوّف بهما...

طبعاً عروة فهم هذا من رفع الجناح في الشرع، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158]، فإذا رفع الجناح في القرآن فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:233] معناه رفع الحرج، والجناح: هو الحرج الذي هو الإثم، فإذا قيل: "فلا جناح عليه أن يطوّف بهما" معناه أن السعي غير واجب، وهذا ما فهِمه عروة، وفهْمه هذا هل هو بعيد ولا وجه له إطلاقاً أو أنه له وجه؟ له وجه؛ لأن "لا جناح عليه" أي: لا إثم عليه أن يطوّف بهما أو لا يطوف، كأنه فهم هذا.

فقوله: أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] مفهوم المخالفة أنه إن لم يطوّف بهما لا جناح عليه، فمجرد رفع الإثم عنه بالطواف على فهم عروة لا يعني وجوب ذلك، يعني أن السعي بين الصفا والمروة لا حرج فيه، هذا الظاهر المتبادر لعروة، وهذا الفهم لم يفهمه عروة وحده، بل قال به أئمة، ومن ثم اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟ وهذا وقت المتساهلين في الفتوى، الذين يبحثون عن مثل هذه الأشياء.

فممن قال: إن السعي بين الصفا والمروة سنة جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وهما إماما العصر في وقتهما، وقال به من السلف سفيان الثوري، ونقل عن بعض الأئمة مثل أبي حنيفة، وعنه رواية أخرى.

وهو ما فهمه هنا عروة، وهو من التابعين، وذكر فهْمه، وردّت عليه عائشة -ا.

فالذي يبحث عن الرخص والفتاوى السهلة يجد، فتجد بعضهم يقول: يا جماعة الحج زحمة خففوا على الناس، فالسعي بين الصفا والمروة سنة، وهو قول ليس بمهجور، من لم  يسعَ -الحمد لله- ما عليه حرج، وهذا هو ظاهر الآية، وإن ردّت عائشة فهذا فهمها واجتهادها، وخالفها بعض الصحابة، والصحابة إذا اختلفوا نرجح بين أقوالهم بالمرجحات، وابن جرير دائماً يعلمنا أنه لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن المتبادر إلى معنىً خفي إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

والمبيت بمنى أيضاً شيخ الإسلام قال: إنه لا يجب، والمبيت في مزدلفة أيضاً قال فيه جمع من الأئمة: إنه سنة ولا يجب، منهم عطاء بن أبي رباح، وهو أعلم الناس بالمناسك، فخلصنا من المبيت في مزدلفة ومنى، وأنتم ضيقتم على أنفسكم وأنتم في الشوارع! فما عليكم سعي، ولا طواف الإفاضة، وربما قالوا: ما عليكم وقوف بعرفة، ارتاحوا وحجوا من بيوتكم كما جاء: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة[3].

فإذا روض الإنسان نفسه على أن يتتبع الرخص بناءً على قوله ﷺ: لا حرج[4] وفهم هذا الفهم، وانطلق من هذه القاعدة: "لا حرج" وبدأ يفتي الناس بكل شيء فهذه مشكلة كبيرة، ونحن نقول هذا الكلام لأننا نسمع أشياء عجيبة وغريبة تصدر من بعض طلاب العلم في الحج يفتون فيها الناس.

"فقالت عائشة -ا: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل..."

العرب في الجاهلية كان عندهم أشياء تقترن بالمناسك، منها ما يكون قبل حجهم، ومنها ما يكون بعده، بحسب اختلاف قبائلهم، فإذا قرأتم في: (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) تجدون أشياء غريبة من هذا، فمنهم من يرى لزوماً أن يذهب إلى تلك المناسك قبل أن يذهب إلى بيت الله الحرام، فمن شعائر الحج عنده أنه لا يجوز له أن يسعى بين الصفا والمروة حتى يذهب إليها، مثل من ساق الهدي مثلاً فإنه لا يتحلل من إحرامه حتى ينحر الهدي، فعندهم أن من أتى مناة لا يسعى بين الصفا والمروة، هذا على قول عائشة -ا، فتحرجوا، وجاء في روايات أخرى: أن هذا التحرج سببه أنه كان هناك أصنام يعظمونها إساف ونائلة، ويزعمون أنهما رجل وامرأة زنيا فمسخا إلى حجر، فكانوا يعظمونهما ويتمسحون بهما إلى آخره، فلما أسلموا ظنوا أن السعي بين الصفا والمروة أمرٌ يتصل بعمل أهل الجاهلية وشركهم، فتحرج أهل الإيمان منه، فبيّن الله أنه ليس كذلك، بل هو من شعائر دينه، وإن أحدث فيه المشركون ما أحدثوا، فلا حرج عليكم بهذا السعي.،

وبذلك يكون هذا الكلام ليس ابتدائياً إنما هو لإزالة ما قد يتوهمونه، وبالتالي يفهم على وجهه، يعني: هناك فرق بين أن تبتدئ كلاماً وتقول: لا حرج على من فعل كذا، وبين أن يكون الكلام جاء ليصحح فهماً، أو ليجيب على سؤال، أو نحو ذلك، وهذا ينحل به إشكالات في أمور كثيرة، وسيأتي -إن شاء الله- في الكلام على قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات[5] القصر هذا هل هو على ظاهره وإلا  فهناك أعمال أخرى ما تحتاج إلى نية ويؤجر الإنسان عليها؟

بناءً على هذا التفريق، فالكلام الابتدائي الذي قاله الشارع ليقرر به أصلاً أو معنى أو حكماً، فرق بينه وبين الكلام الذي يكون تصحيحاً لمفهوم، أو جواباً على السؤال، أو نحو ذلك، فهذا إذا فهمته بهذا الاعتبار فإنه يُتكلم في كل مقام بما يناسبه، مثل قول الله مثلاً: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] مع أن هناك محرمات أخرى، لكن هذا رد على المشركين حينما قالوا بتحريم أشياء من عند أنفسهم.

ولهذا يقول الله لنبيه ﷺ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20] مع أن النبي ﷺ عليه البلاغ وعليه أيضاً أمور أخرى، هو مبشر ومعلم ﷺ للناس، ويبيّن الأحكام، وهو قدوة، وهو عبد من خيار عباد الله ، فقصره على هذا في مقابل كلام المشركين ومطالبتهم في أن يحول لهم الصفا ذهباً، فرد عليهم قائلاً: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ [سورة الرعد:7] فليس لقائل أن يقول: لا، هناك مهام أخرى غير الإنذار، فليس هذا كلاماً ابتدائياً جاء ليقرر به صفة النبي ﷺ ابتداءً، وإنما هو في مقابل موقف يرد عليه، ومطالبةٍ من المشركين، ودعاوى وتكلفات.

وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قالت عائشة -ا: ثم قد سن رسول الله ﷺ الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما[6]، أخرجاه في الصحيحين[7].

على كل حال سبق في الكلام على أصول التفسير في (مقدمة شيخ الإسلام) في فوائد معرفة أسباب النزول أن ذلك يفيد في فهم المعنى، وقلنا: إن ذلك على درجات، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، ولا يفهم إلا به، وأحياناً ينحل به الإشكال، وأحياناً يكون مُعِيناً على الفهم يتضح به المراد، وأحياناً هو من باب الفضلة والزيادة فتفهم الآية من غير معرفة سبب النزول، فهو على مراتب، وهذا التفصيل لعله من أحسن ما يقال، وتجد من أهل العلم من يقول بهذا، فهذا في طرف وهذا في طرف، بهذا التفصيل.

على كل حال هذا مما قد يتوقف عليه فهم المعنى، وإلا فلو بقي الناس مع ظاهر الآية ربما فهموا أنه لا يجب عليهم السعي، وعروة بن الزبير ليس أعجمياً، بل هو عربي قح، ورجل من أهل النبوغ والعلم والفقه، ففهم هذا الفهم، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، فهذا مثال على سبب النزول الذي يتوقف عليه المعنى، وإن أردت أن تنزل درجة فقل: ينحل به الإشكال...

  1. في المسند (ج4/ص27– 16388) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: رجاله ثقات إلا أن المطلب وهو ابن عبد الله بن حنطب روايته عن الصحابة مرسلة، وهو عند مسلم بغير هذه السياقة".
  2. في الجنائز باب ما يقال عند المصيبة (ج3/ص37 – 2165).
  3. أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء (ج2/ص968–2901) وأحمد في المسند (ج6/ص165- 25361)، وصححه الألباني في الإرواء (981)، والمشكاة (2534)، والروض النضير (1018).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق (ج 2/ص615 – 1634) وفي باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً  (ج2/ص618 – 1647)  وفي كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (ج6/ص2454 – 6289)  ومسلم في الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمى (ج 4/ص84 – 3224 ).
  5. أخرجه  البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1- ص3 - 1] وفي كتاب الأيمان والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6- ص2461- 6311] وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها  [جزء 6 - ص2551 - 6553 ] وهو في مسلم بلفظ الإفراد: إنما الأعمال بالنية في كتاب الإمارة باب قوله -صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].
  6. في المسند (ج6/ص144– 25155) قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير أن سليمان بن داود الهاشمي أخرج له أصحاب السنن والبخاري".
  7. البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة وجُعِلَمن شعائر الله (ج2/ص592 – 1561) ومسلم في الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به (ج4/ص69– 3140).

مواد ذات صلة