السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
[70] من قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} الآية 166 إلى قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الآية 169
تاريخ النشر: ١٦ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 4006
مرات الإستماع: 4756

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۝ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:165-167]:"يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أندادًا أي أمثالًا ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] الأنداد سبق مرارًا في دروس متعددة كشرح كتاب التوحيد وغيره أن الند هو: النظير المناوئ، تقول: فلان ند لفلان أي نظير له مناوئ، فهو أخص من مطلق النظير، أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165]

قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] يحتمل معنيين، يحتمل أن يكون المراد كما قال ابن كثير هنا: كحبه، أي كما يحبون الله، سوّوا بين محبة هؤلاء الأنداد وبين محبة الله -تبارك وتعالى، فكانت محبتهم بهذا الاعتبار محبة شركيةً ناقصة، ونقصانها أنهم قد صرفوا جزءا منها إلى هؤلاء الأنداد والنظراء، وهذا الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم كالشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- وتلميذه ابن القيم، وهو الذي مشى عليه ابن كثير هنا، فيكون معنى: كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كما يحبون الله، ولهذا كانت محبة أهل الإيمان كاملة؛ لأنه لم يصرف نصيب منها لشيء من الأنداد والنظراء والآلهة، ولهذا قال: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165].

والمعنى الآخر الذي تحتمله الآية هو أن قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كحب المؤمنين لله، ثم بيّن أن حب المؤمنين أكمل من حب هؤلاء المشركين، وذلك أن حب هؤلاء المشركين لله ليس بخالص وإنما هو مبعض، فجعلوا جزءًا ونصيبًا من هذه المحبة لغيره، وأما أهل الإيمان فمحبتهم خالصة، فهذا المعنى كما ترون ليس هو الظاهر المتبادر، وقد لا يخلو من إشكال، يعني كأنه يقول: يحبونهم كما يحب المؤمنون الله، ثم يقول: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165] في البداية جعل محبتهم بمنزلة محبة المؤمنين لله، ثم قال: إن الذين آمنوا أكثر حبًا لله منهم، فكأنه ليس كالقول الأول في ظهوره ورجحانه بهذا الاعتبار، فكيف يقول: كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] يعني: كحب المؤمنين لله ثم جعل حب المؤمنين لله أكمل؟! بينما الأول لا إشكال فيه، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كمحبتهم هم لله، فكانت محبة أهل الإيمان أكمل وأعظم؛ لأنه لا تشريك فيها، فرجحان القول الأول ظاهر، وليس فيه إشكال، والله تعالى أعلم.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك[1].

وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165] ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه.

هو يشير إلى سبب نقص محبة المشركين أنها مبعضة، شرّكوا فيها فنقص جزء منها أو شطرها فصارت لتلك الأنداد، وعلى كل حال القول الثاني: كحب المؤمنين لله، قال به طائفة من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار ابن جرير الطبري -رحمه الله.

ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [سورة البقرة:165] يقول: لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال.

لاحظ الآن كيف فسر قوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165] ماذا قال؟ قال: "لو يعلمون" ففسّر الرؤية هنا بالعلم، والرؤية تارة تكون بصرية، وتارة تكون علمية، رؤية بالعلم، ورؤية بالقلب، والآية هنا تحتمل المعنيين، وفيها قراءات ثلاث متواترة، قراءة الياء هذه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165] وهي قراءة أهل مكة وأهل الكوفة وأبي عمرو البصري، وهي القراءة التي نقرأ بها.

فعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون المراد بذلك العلم، أي: "لو يعلمون" كما قال ابن كثير، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الرؤية البصرية، فيكون المعنى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165] في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [سورة البقرة:165]، فيكون إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] أي: يعاينونه بأبصارهم، فالرؤية هنا في: إِذْ يَرَوْنَ [سورة البقرة:165] يمكن أن تكون بصرية، أي: حين يرون العذاب وشدة النكال لعلموا أن القوة لله جميعًا.

ويحتمل أن تكون الرؤية "علمية" لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه لتبينوا ضرر اتخذاهم للآلهة، فصارت الرؤية علمية.

والقراءة الثانية بالتاء ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ففي قراءة التاء الخطاب ظاهره أنه موجه إلى النبي ﷺ، ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب لعلمت أن القوة لله جميعًا، والنبي ﷺ يعلم ذلك قطعًا، وهو أعلم الناس بالله ، وبشرعه وجزائه، وهو أخشاهم لله لكمال علمه، ولكن المراد بذلك أمته، فالنبي ﷺ يُخاطب تارة ويراد أمته بهذا الخطاب، وهذا كثير في القرآن، فالأمة كما سبق مرارًا قد تخاطب في شخص قدوتها -عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي اختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله: ولو ترى أي يا محمد، والمراد أمته؛ لأنه أعلم الأمة بالله ، فما يقال في حقه: "لعلمْتَ أن القوة لله جميعًا"؛ لأنه يعلم ذلك، وله كمال العلم في هذه القضية.

أما القراءة الثالثة فهي في قوله: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] قرئت بالمبني للمجهول: إذ يُرون وعلى هذه القراءة تكون الرؤية في الثانية بصرية، وعلى القراءة الأولى: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] أيضًا الرؤية بصرية، يعني يعاينونه بأبصارهم، والاختلاف إنما هو في الأولى "ولو ترى"، "ولو يرى" والله أعلم.

ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم، وتبري المتبوعين من التابعين، فقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ [سورة البقرة:166] تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا.

قوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ [سورة البقرة:166] يحتمل أن يكون بدلًا من قوله: إِذْ يَرَوْنَ [سورة البقرة:165] الذي سبق، فيكون المعنى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، ولو يرى الذين ظلموا إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا"، "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب في ذلك الحين يتبرأ المتبِّعون من المتبَّعين" إذا رأوا العذاب في ذلك الحين يحصل التبرؤ بين الأتباع والمتبوعين، فيكون: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" بدل من قوله: "إذ يرون العذاب" فهم إذ يرون العذاب ما الذي يحصل؟ يحصل التبرؤ بين الأتباع والمتبوعين.

فتقول الملائكة: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [سورة القصص:63] ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41].

يعني كل من عُبد من دون الله يتبرأ من عابديه، فالملائكة عبدتهم بعض العرب فهؤلاء يتبرءون، والجن من عبدهم تبرءوا منه، والصالحون والأنبياء من عبدهم تبرءوا منه وهكذا، حتى الشيطان يتبرأ من أتباعه.

والجن أيضًا تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5-6] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81-82] وقال الخليل لقومه: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25] وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة سبأ:31-33] وقال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة إبراهيم:22].

وقوله: وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] أي عاينوا عذاب الله، وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص، ولم يجدوا عن النار معدلًا ولا مصرفًا.

قال عطاء: عن ابن عباس -ا: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] قال: المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح.

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] أي جميع الصلات التي كانت بينهم في الدنيا، لم يعد هناك بينهم وشيجة ولا سبب للنجاة، تقطعت بينهم المودة وأسباب الخلاص والنجاة، فصار كل واحد مرتهن بعمله.

وقوله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا [سورة البقرة:167] أي: لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله تعالى بالعبادة، وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] أي: تذهب وتضمحل، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23] وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18].. الآية، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء [سورة النــور:39].. الآية، ولهذا قال تعالى: وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167].

قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] قال: تذهب وتضمحل، هي تذهب وتضمحل وأكثر من هذا، فهي ليست تذهب وتضمحل فقط، بل تكون عليهم حسرات، والحسرات: جمع حسرة: وهي أعظم الشدة والضيق، ويكون الإنسان بسبب ذلك في حال لا يحسد عليها، قد انقطعت به الأسباب، ويحصل له بسبب ذلك من الألم ما لا يقادر قدره.

يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ السيئة حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] فتكون سببًا لآلام نفوسهم وقلوبهم، وسببًا للشدة الواقعة بهم، فيتمنى الواحد منهم أن بينه وبينها بعد المشرقين، وأنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولم يقارف منها شيئًا، ولهذا يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:168-169] لما بيّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبيّن أنه الرزاق لجميع خلقه.

هذا الكلام الذي يذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا هو ما يعرف بالمناسبة بين الآية وبين الآية التي قبلها. 

والمقصود بالمناسبة: وجه الارتباط بين الآية وما قبلها، وهناك أنواع أخرى من المناسبة على كل حال، لكن هنا يقرر وجه الارتباط بين الآية وبين ما قبلها، لما بيّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق شرع يبيّن أنه الرازق لجميع خلقه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا [سورة البقرة:168] سُمي (حلالًا) ربما لانحلال عقدة الحظر عنه، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] خطوات الشيطان: جمع خُطوة، والخطوة تقال بالفتح خَطوة، وتقال بالضم خُطوة، والخَطوة: هي واحدة الخَطْو، تقول: خطوت خطوة، يعني واحدة، خطوتين، ثلاث، والخُطوة: هي ما بين القدمين حال الخَطْو، وأما الخَطوة: فهي الواحدة، تقول: هذه خَطوة، خَطَوات الدرس كما يقال، وخَطَوات الموضوع، والخَطَوات التي نسير عليها، المقصود بها الواحدة، وتجمع على خَطَوَات، خَطوة خَطَوَات، فَعْلَة فَعَلات، هذا هو الأصل أنه بالفتح تقول: حلَقات وحسَرات وزفَرات إلا لضرورة الشعر، يقول الشاعر:

حُمّلتُ زفْرات الضحى فأطقتها وما لي بزفْرات العشيِّ يدانِ[2]

قال: (بزفْرات) وهذا قليل جدًا، وهو يرد في ضرورة الشعر.

طالب: يقول الأصفهاني: "الحسرُ: كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر: من لا درع عليه ولا مغفر.

لا، هات الحسرات.

طالب: هو ذكر المعنى ثم سرد الآيات التي ذُكرت فيها.

قال: "والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر، والمحسرة المكنسة، وفلان كريم المحسّر كناية عن المختبر، وناقة حسير: انحسر عنها اللحم والقوة، ونوق حسراء، والحاسر: المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يصح أن يكون بمعنى حاسر، وأن يكون بمعنى محسور، قال تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] والحسرة: الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على مرتكبه، أو انحسرت قواه من فرط غم، أو أدركه إعياء من تدارك ما فرط منه، قال تعالى: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [سورة آل عمران:156] وقال: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الحاقة:50] وقال تعالى: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56] وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167]، وقوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد [سورة يــس:30]، وقوله تعالى في وصف الملائكة: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [سورة الأنبياء:19]...[3].

ولا يستحسرون أي: لا ينقطعون، والكلمة في كل استعمالاتها ترجع إلى معنى الكلال والانقطاع، حسير: يعني كليل، يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يعني كليل، ومنه قول الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ[4]

يصف الشاعر بيداء –صحراء- واسعة، لا يقطعها إلا الواحد بعد الواحد من الناس، يقول: قطعتها وبها جيف الحسرى، وهي النوق تنقطع في السفر من طول المشي والمسير، فتحرِن الواحدة منها في مكانها، ولا تقوم منه وتموت، وينقطع بها السير لشدة ما يلحقها من التعب.

يقول: "بها جيف الحسرى" وهي الإبل والدواب المنقطعة من طول المسير، "فأما عظامها فبيض" أي: تلوح عظامها ميتة من زمان متفسخة، "وأما جلدها فصليبُ" جلودها يابسة.

فالمقصود -على كل حال- أن قوله: حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] جمع حسرة، وهي شدة الضيق والغم الذي يحصل لهم بسبب التفريط والتضييع، ولذلك هنا لما قال: إنها ذهبت واضمحلت فيكون ذلك سببًا لهذا الغم الذي وقع لهم، إذا رأوا أعمالهم قد ذهبت واضمحلت ما الذي يحصل؟ يحصل لهم الحسرة، يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56].

"فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالًا..."

 

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] [ج4- ص1626- 4207] وفي باب تفسير سورة الفرقان [ج4- ص1784- 4483] وفي كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه [ج5- ص2236- 5655] وفي كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب إثم الزناة [ج6- ص2497- 6426] وفي كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا [سورة البقرة:22] [ج6- ص2734 – 7082] ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده [ج1- ص90 -141].
  2. هذا البيت من قصيدة نونية طويلة عدتها ثلاثة وسبعون بيتًا لعروة بن حزام العذري، المتوفى -على ما ذكر الذهبي في تاريخه- في خلافة عثمان سنة ثلاثين من الهجرة، لعشر بقين من شوال، وقيل: سنة ثمان وعشرين، ومن محاسن شعره قصيدته هذه التي ضمنها حكاية حاله بألفاظ رقيقة، ومعان أنيقة يقول في مطلعها:
                                                                           خليلي من عليا هلال بن عامر *** بصنعاء عوجا اليوم وانتظراني
                                                                            ولا تزهدا في الأجر عندي واجعلا *** فإنكما بي اليوم مبتليان
    يُنظر: خزانة الأدب (ج1/ص432) وتزيين الأسواق في أخبار العشاق (ج1/ص60) وشرح ابن عقيل (ج4/ص112) وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (ج1/ص438).
  3. غريب القرآن للأصفهاني (ج1/ص118).
  4. هذا البيت من قصيدة طويلة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس، مطلعها:
                                                                      طَحَا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَانِ طَرُوبُ *** بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
                                                                          يُكَلِّفُنِي لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها *** وعادَتْ عَوَادٍ بيننا وخُطُوبُ
    يُنظر: خزانة الأدب (ج3/ص106) والجليس الصالح والأنيس الناصح (ج1/ص239) والمفضليات (ج1/ص71) ومنتهى الطلب من أشعار العرب (ج1/ص13). 

مواد ذات صلة