بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [سورة البقرة:174–176].
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺ في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا -لعنهم الله- إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ﷺ بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عوناً له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع.
فمن ذلك هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، وهو عرض الحياة الدنيا {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم[1]."
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ تجد هذه الآية وإن كانت نازلة في اليهود إلا أنها لا تختص بهم، فكل من وقع في شيء من ذلك وشابههم في هذه الصفة فإنه يشمله هذا الخطاب.
قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا مرَّ بنا قبل أن الاشتراء في مثل هذه المواضع يأتي بمعنى الاستعاضة كما في قوله في أول هذه السورة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، فاستعاضوا هذا بهذا، وهؤلاء اشتروا بما عرفوا من أحكام الله ووحيه، والحق المنزل، واستعاضوا عنه بثمن قليل مقابل الإبقاء على رئاساتهم، وما كانوا يحصلون عليه من المنافع من تعظيم الناس لهم، وتقديمهم إياهم، وما كانوا يتقاضونه منهم من الأموال والجبايات، فاستعاضوا هذا بذاك، وهذا شأن بعض الناس يحرف ويبدل ويكتم الحق؛ لأنه يرى أن له في الباطل شهرة ومعيشة ومغنم؛ وهذا ما نلمسه جلياً في شيوخ الضلال، ورءوس أهل البدع فمهما بلغهم من النصوص المحكمة، والدلائل القاطعة على بطلان ادعائهم، فإن الواحد منهم لا يرجع عما هو فيه؛ لأن ذلك يقتضي ضياع رئاساته، وخسارته للأموال التي تحصل عليها من المخدوعين به، وضعف الأتباع وتساقطهم، ونسبته إلى الباطل والزيف، ونسبة آبائه وأجداده وما إلى ذلك إليه.
وكذا الجهود والأعمال التي بنى عليها منزلته ومكانته هي خوض في الباطل، لكنه يأبى أن يقر أو يرجع أو يعترف بالحق، كل ذلك لئلا يضيع ويفوت على نفسه شيئاً من تلك المصالح التي تحصل عليها من دجله على الناس وغشهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالرغم من كل ما يأخذونه إلا أنه يعتبر ثَمَنًا قَلِيلا كما أخبر الله -سبحانه؛ لأنه مهما كان كثيراً ومثيراً فهو قليل، وكل ما في الدنيا قليل بالنسبة للآخرة.
فتأمل كيف جازاهم الله جراء تعنتهم في كتمان ما علموه واستعاضتهم الحق بالباطل قال الله: لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إلا أنه قد يعترضنا إشكال في شبه التناقض فقد جاءت نصوص تدل على أنه يكلمهم كقوله -تبارك وتعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] فهذا تكليم، وفي هذه الآية ينفي الله تكليمه لهم، وهنا للعلماء جوابان في الجمع بينهما:
الأول: أن ذلك يختلف باختلاف المقامات، لا يكلمهم في مقام، ويكلمهم في مقام آخر.
والأحسن منه أن المقصود لا يكلمهم تكليم رضا، تكليم ثناء، ولكنه يكلمهم تبكيتاً وإهانةً وتحقيراً لهم، ومفهوم المخالفة للآية أنه إذا لم يكلم هؤلاء تكليم رضا، فإنه يكلم أهل الإيمان كذلك نسأل الله أن يجعلنا منهم.
وَلا يُزَكِّيهِمْ، لا يزكيهم لا بالثناء، ولا يزكيهم بأن يطهرهم من أرجاسهم وآثامهم وانحرافاتهم مطلقاً، فهم منغمسون منغمرون في أوحال الذنوب والآثام والأرجاس، ولذلك سلبهم الله التزكية مطلقاً، بخلاف أهل الإيمان الذين امتن عليهم ببعث رسوله ﷺ، وذكر أن من المعاني الحاصلة لهم أن الله يزكيهم في الدنيا والآخرة.
قال تعالى مخبراً عنهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى أي: اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول ﷺ وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء، واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي: اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطَوْه من أسبابه المذكورة.
وقوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ يخبر تعالى أنَّهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع شدة ما هم فيه من العذاب، والنكال، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
هذا المعنى ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عند قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ يقول: يخبر أنهم في عذاب شديد هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع شدة ما هم فيه من العذاب، فسيقت الآية مساق التعجب من صبرهم على الرغم من شدة هول العذاب النازل بهم.
وبعض أهل العلم يعبر بعبارة قريبة فيقول: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ يعني: ما أجرأهم على النار، باعتبار أنهم لم يدخلوها بعد، إذ لا طاقة لهم بها، ولذا أخبر الله أنهم يدعون بالويل والثبور وينادون يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [سورة الزخرف:77]، ويلعن ويتبرأ بعضهم من بعض في النار، وليست هذه حال من يصبر، فتقحمهم الأسباب والطرائق التي توصل إلى النار وتوجب دخولها مهما ظهر لهم من الآيات، ومهما عرض عليهم من الحجج والبينات، هو من أعظم الجرأة على الله.
يقول أحد رءوس الكفر: أعرف أن مصيري إلى جهنم، ولكنني إذا دخلتها سأجد فيها كبار الرأسماليين، والرؤساء الأمريكيين، فما أجرأهم على النار، وما أقرهم على أنفسهم، وهؤلاء اليهود الذين بعث فيهم النبي ﷺ كانوا يعرفون أنه على الحق كما قال الله سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146] ومع ذلك هم باقون على ما هم عليه من الضلال والكفر.
وكثير من أهل الشرك والباطل يدركون أنهم على ضلال خاصة الرؤساء، رؤساء الفرق والمذاهب والطوائف المنحرفة، وأنهم زجوا بأتباعهم في مستنقع الغواية، ومع ذلك مصرون على غيهم وباطلهم، فمثل هؤلاء يقال: ما أصبرهم على النار، باستعاضتهم عن الهدى بالضلال جراءة على عذاب الله ، وهذا هو الذي اختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله- تعالى، وذهب إليه عامة المفسرين سلفاً وخلفا والله تعالى أعلم.
وبعض أهل العلم يقول: إن (ما) هذه استفهامية بمعنى ما الذي حادهم؟ لكن هذا بعيد، والصواب ما ذكرناه أن (ما) هنا للتعجب، فهو استفهام للتعجب، والله أعلم.
كلام ابن كثير هذا بناءً على أن الكتاب المذكور في الآية ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ اسم جنس يشمل الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، وما إلى ذلك من الكتب التي أنزلها الله على رسله بالحق، والجنس يصدق على الواحد وعلى الكثير.
ومن أهل العلم من يخص ذلك بالقرآن، فيقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، أي: القرآن، أنزله متلبساً ذلك الإنزال بالحق، فهو منزل بالحق، وهو حق ثابت، لا مرية فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والآية وإن كانت محتملة للمعنيين إلا أن السياق يشعر أن المراد المعنى الذي ذكره ابن كثير إذ هذا القول متضمن للقول الآخر وأشمل منه، وعليه الأدلة، وذلك أن الإنسان لا يكفي أن يؤمن بالقرآن فقط، والله يقول: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136]، وما يؤكده أن الله أخبر في مواضع أخرى من القرآن عن حال أهل الكتاب في كتابهم، وأنهم في شك منه مريب، وأن ذلك واقع لهم أيضاً في القرآن، فهم في امتراء في الكتب المنزلة عليهم.
وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا؛ فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره، فخالفوه وكذبوه.
وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه، ويكتمون صفته، فاستهزءوا بآيات الله المنزلة على رسله؛ فلهذا استحقوا العذاب والنكال؛ ولهذا قال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
الذين اختلفوا في الكتاب، بعضهم يقول: هم أهل الإشراك، والكتاب الذي اختلفوا فيه هو القرآن، فمن قائل: إنه سحر، ومن قائل: إنه كهانة، ومن قائل: يعلمه بشر، ومن قائل: اختلقه وافتراه، إلى غير ذلك من أقاويلهم المتنوعة التي وصفوا بها القرآن.
ومن أهل العلم من يقول: وإن الذين اختلفوا في الكتاب يعني: اليهود والنصارى، فهذا القول يرجع إلى أن المراد من الكتاب الأول في قوله: نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، هو جنس الكتاب، أنزله الله إنزالاً متلبساً بالحق، وعلى كل حال الكتاب في الآية يحتمل أن يكون القرآن، ويحتمل أن يكون سائر الكتب كالتوراة والإنجيل..، إلا أن الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أن الكتاب هنا هو القرآن، لكن هذا ليس محل اتفاق فقد خالفه أئمة في ذلك، والعلم عند الله .
لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ أي: فهم في غاية البعد عن الحق.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177].
اشتملت هذه الآية، على جمَل عظيمة.
في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ البر خبر ليس، واسمها؟ أن تولوا، فيكون فيه تقديم وتأخير، وهذه القراءة التي نقرأ عليها قراءة حفص، ووافقه عليها حمزة، وهناك قراءة أخرى متواترة بالضم لكلمة البر لَيْسَ الْبِرُّ فيكون البر بهذا الاعتبار اسم ليس، وهي قراءة بقية السبعة من القراء.
وعلى قراءة النصب يكون تقدير الكلام، ليس البرَّ توليتُكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. ويمكن أن يكون التقدير: ولكن ذو البر من آمن بالله.
وبعض أهل العلم يقول: إن البر مصدر، ويصح أن يراد به الفاعل، والمعنى: ولكن البر أي البار: من آمن بالله.
وبعضهم يقول: هذا أصلاً رد على اليهود والنصارى، حيث إن اليهود يستقبلون المغرب، فهم يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون جهة المشرق وجاء ذكره للمشرق والمغرب بناء على اعتبار الجهة التي تحدث عنهم فيها، أو رد عليهم وهم فيها، وقد ورد في هذا رواية ضعيفة، وهذا المعنى مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو أنها رد على اليهود والنصارى، والمعنى: ليس البر أن توجهوا وجوهكم قبل هذه الجهة أو تلك، وإنما البر حقيقة هو: أن تؤمنوا إيماناً حقيقياً بجنس الكتب والرسل جميعاً، ولا تنسبوا لله الولد، وإذا حصل لكم ذلك كنتم على الهدى، وحققتم في قلوبكم الإيمان الحقيقي، والإنسان يقال له أحياناً: ليس البر هو فعلك كذا وكذا، يعني -من الأعمال التي يعملها- يريد أن يتقرب بها إلى الله ، ولكن البر هو أن تفعل كذا وكذا وكذا، مما تذكره له من أمور البر العظيمة التي غفل عنها، وتشاغل بغيرها من أمور البر، فالبر بر من آمن بالله واليوم الآخر. والله أعلم.
كلام ابن كثير جيد، وهو يلمح إلى أن الآية لا تختص باليهود أي: بالرد على اليهود والنصارى، وإنما هي عامة، يخاطب فيها أولئك الذين شغبوا على قضية القبلة من جهة، ومن جهة يخاطب فيها أيضاً المنافقين، ويخاطب فيها أهل الإشراك، ويخاطب فيها المسلمين المؤمنين، ويبين لهم أن قضية التوجه جهة المشرق والمغرب ليست هي محل النجاة، ومناط الفوز، وتحقيق الاستقامة، فلا بد من طاعة الله ورسوله، ولا بد من الإيمان الصحيح بهذه الأمور المذكورة، حتى يتمكن المرء من تحقيق المعنى الأسمى للبر.
كما قال في الأضاحي والهدايا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج:37].
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل.
قول أبي العالية: كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، هذا باعتبار أنهم عنه بناحية يكونون إلى الغرب، فهم يستقبلون بيت المقدس من تلك الناحية، وكانت النصارى تستقبل المشرق، يعني مطلع الشمس، هذه هي القبلة التي يستقبلونها، فقال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ وهذه الرواية ثبت ضعفها، لكن الملفت في كلام أبي العالية قوله: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فماذا يقصد بذلك؟
يقصد والله أعلم أن الأمور المذكورة في الآية تنقسم إلى قسمين:
- الإيمان بالله واليوم الآخر، قولوا آمنا بالله، فهذا كلام الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فذكر هذه الأصول العظام التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها.
- حقيقته العمل، حيث ذكر بعده في الآية وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177] فهذه الأعمال لا يستقيم إيمان المرء إلا بجميعها.
والإيمان في حقيقته: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، قول اللسان: النطق بالشهادتين، وما يدخل الإسلام إلا بالشهادتين، وقول القلب: بالإقرار والتصديق الانقيادي.
وعمل القلب واللسان والجوارح، عمل القلب: كالخوف والتوكل والرجاء، وهو غير تصديق القلب، غير قول القلب، وعمل اللسان: كالذكر وقراءة القرآن، وعمل الجوارح: كألوان العبادات، وما يوضح عبارة أبي العالية أكثر ما ذكره الحافظ ابن كثير عن الحسن والربيع بن أنس، وخاصة عبارة الربيع. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع عن أبي العالية: أولئك الذين صدقوا يقول: تكلموا بكلام الإيمان وحققوا بالعمل. قال الربيع: فكان الحسن يقول: الإيمان كلام، فحقيقته العمل فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الأشربة - باب آنية الفضة (5311) (5/2133)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال (2065) (3/1634) إلا أن قوله أو يشرب في آنية الذهب أخرجها ابن أبي شيبة (5/103) (24135) وصححه الألباني في الجامع الصغير برقم (1692).
- رواه البخاري في كتاب الشهادات- باب من أقام البينة بعد اليمين (2534) (2/952)، ومسلم في كتاب الأقضية- باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (3/1337).