الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[74] تتمة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ} الآية 174.
تاريخ النشر: ٢٠ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 4444
مرات الإستماع: 3091

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى-:

وقال الثوري: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الآية، قال: هذه أنواع البر كلها.

وصدق -رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله وَالْكِتَابِ وهو: اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أي: أخرجه، وهو محب له، راغب فيه كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر[1].

 وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا [سورة الإنسان:8-9].

وقال تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92] وقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله -تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ورد في عود الضمير في عَلَى حُبِّهِ ثلاثة أقوال:

 الأول: أن الضمير الهاء يرجع إلى حب المال، وهو ظاهر سياق الآية، وأقرب ما تفسر به، وقد ساق ابن كثير في المقدمة جملة من الآيات الدالة على ذلك.

الثاني: أن الضمير يرجع إلى الله .

الثالث: أن الضمير يرجع إلى الإيتاء، والمعنى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ حب الإيتاء وهذا القول بعيد جداً.

ولعل الأقرب القول الأول وهو أنه يرجع على حب المال؛ لأن هذا الذي تكمل به درجة العبد، وتعظم به نفقته، وذلك أنه إذا أعطى وهو صحيح وشحيح كما في الحديث فإن ذلك يكون أعظم ممن أعطى الدنيا وهي وراء ظهره عند الموت.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الحشر:9] كما يقول الحافظ: نمط آخر أرفع من هذا يعني أرفع من قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ، فإن إعطاءهم مع وجود الخصاصة وهي: الحاجة الشديدة التي ينفرد بها دون غيره، تكون أرفع في الميزان.

فهذا أعظم من الأول الذي يعطي المال وهو يحبه، لكنه قد لا يكون بحاجة ماسة إليه، والخصاصة هذه الكلمة قد تكون مأخوذة من خصاص السقف، أو خصاص البيت أو نحو هذا، وربما تكون مأخوذة من غير ذلك، لكنها تدل أو تشعر بالانفراد بالحاجة يعني -الحاجة الشديدة، والله أعلم.

وقوله: ذَوِي الْقُرْبَى وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في الحديث: الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة[2] فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز.

وَالْيَتَامَى هم: الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد روى عبد الرزاق عن علي -، عن رسول الله ﷺ قال: لا يتم بعد حلم[3].

وَالْمَسَاكِينَ وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم، وكسوتهم، وسكناهم.

بعض أهل العلم يقول: سمي المسكين بذلك؛ لأنه ساكن إلى الناس، ساكن إلى ما في أيديهم، ليس عنده شيء ولا اكتساب، وإنما يسكن إلى الناس من أجل أن يجد كفايته، وما يقيم أوده ويكفي حاجته.

وبعضهم يقول: قيل له ذلك لمسكنته، بمعنى أن الفقر أسكنه ليس له صنعة، ولا حرفة، ولا تجارة، فعلى كل حال كلام أهل العلم في المسكين معروف، وإذ ذكر المسكين دخل معه الفقير.

فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه[4].

يعني المتعفف، وهو المسكين حقيقة المستحق للعطاء أكثر من غيره ما دام بهذه المثابة، ولا ينفي ذلك أن غيره فقير أو مسكين، ولكن المقصود التنبيه على من هو أحق بهذا الوصف.

 وَابْنَ السَّبِيلِ وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -ا- أنه قال: "ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين".

هذا القول قال به ابن عباس -ا- وقال به غيره، والذي يظهر أن ابن السبيل لا يخرج عن القول الأول، وسمي بذلك نسبة إلى السبيل وهي الطريق لملازمته لها، وكل من لازم شيئاً فإنه يصح أن ينسب إليه، كما يقولون للطائر المعروف: "ابن الماء" سمي بذلك لملازمته الماء.

وعلى هذا فابن السبيل هو: المسافر الذي انقطع في سفره، إما لذهاب نفقته، أو سرقته، أو ضياع أمواله، أو انتهاء مئونته، فيعطى ولو كان في بلده مستغنياً، ولو كان من أغنى الناس فإنه يعطى من الغنيمة، ومن الفيء، ومن زكاة بيت مال المسلمين، ولا يكون ذلك على سبيل الإقراض حتى لو كان غنياً، بل يعطى هبة وإحساناً وتمليكاً.

وأما القول بأن "ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين" فقد قال به ابن عباس وغيره، وهو يقصد به الإنسان الذي ينزل ببلد فهو ابن سبيل، فإن كان محتاجاً فإنه يجب أن يعطى كفايته، لكن لو كان من أهل البلد وجاء إلى آخر ونزل ضيفاً عنده هل هذا يصدق عليه أنه ابن السبيل؟ الجواب لا، والله تعالى أعلم.

وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.

وَالسَّآئِلِينَ وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات.

وَفِي الرِّقَابِ وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.

وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ يدخل فيها ما ذكر وهو المكاتب؛ وذلك أن الرقيق يكاتب سيده على أن يعتق إذا دفع قدراً من المال يتفق عليه مع صاحبه، وكثير من أهل العلم يقولون: إن ذلك يكون على أقساط معلومة، فهذا هو المكاتب يعطى من الزكاة ومن بيت المال، كما قال الله  وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [سورة النــور:33]، ويدخل فيه أيضاً إعتاق العبيد ابتداء من غير مكاتبة، ويدخل فيه أيضاً فك الأسارى فكل ذلك داخل تحت قوله سبحانه: وَفِي الرِّقَابِ.

وقوله: وَأَقَامَ الصَّلاةَ أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي.

وقوله: وَآتَى الزَّكَاةَ المراد به زكاة المال، كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان.

ذكر الله قبل قوله: وَآتَى الزَّكَاةَ هذه الأصناف وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [سورة البقرة:177] وهي من الأصناف التي تعطى من الزكاة كما قال الله في سورة براءة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:60] وهنا لفتة ذكرها بعض أهل العلم وهي: أن تعداد هذه الأصناف بعد ذكر آية الزكاة دليل على جواز أنهم يعطون أيضاً من الصدقة لقوله: وَآتَى الْمَالَ يعني على سبيل التصدق والتطوع، والتقرب إلى الله من غير الفريضة، وما يعضد هذه اللفتة أن الله لما مدح أهل الأنصار مدحهم بقوله:   وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] مع أنهم في غاية الفقر، ومن ثم فإن الزكاة لا تجب عليهم لكن مع هذا يؤثرون غيرهم مع شدة حاجتهم إليها،وهذا الذي ذكره الله في صفة أهل الإيمان، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [سورة الإنسان:8] فهؤلاء هم الذين مدحهم الله تبارك وتعالى، فيكون ذلك الإيتاء مطلقاً لا يختص بالزكاة؛ لأنه ذكر بعد ذلك إخراجهم للزكاة، فإخراجهم المال على سبيل التطوع، وإخراجهم أيضاً على سبيل الوجوب.

وبعضهم يقول: إن المراد بذلك الزكاة، ولكنه عطف العام على الخاص؛ لأنه ذكر بعض الأصناف التي تعطى لهم الزكاة، والآية تحتمل القولين، والله أعلم بالصواب.

وقوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ كقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[5].
وفي الحديث الآخر: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[6].

قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ جاء بها مرفوعة، وما قبلها منصوبة: وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ فما وجه ذلك؟

بعض أهل العلم يقول: إنه معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ فجعله معطوفاً على ذلك المرفوع في أول الآية.

وبعضهم قال: هو خبر لمبتدأ محذوف على تقدير: وهم الموفون.

وبعضهم يقول: هو مبتدأ وخبره، والخبر محذوف.

وقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء.

قوله: وَالصَّابِرِينَ جاءت منصوبة بعد مرفوع، ما قال: والصابرون في البأساء والضراء، ولعل من أحسن ما يجاب به أن يقال: إن القاعدة عند العرب إذا تطاول الكلام فإنها تقطع أوصاف المدح أو الذم بالرفع تارة، وبالنصب تارة، هذا من أوضح الأجوبة التي يجاب بها عن هذا، وإلا فإن الأجوبة عن مثل هذا كثيرة متعددة، حتى إن بعضهم ألف رسالة في أحد المواضع، رسالة مستقلة، وهذا له نظائر في القرآن عديدة أن يأتي المرفوع بين منصوبات أو المنصوب بين مرفوعات مثل قوله سبحانه: وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ... [سورة النساء:162] فجاء بمنصوب بين مرفوعات، ويقول أهل اللغة: هذا أبلغ، وذلك أنه يدفع الملل والسآمة لطول الكلام، فيجدد لدى السامع أو القارئ النشاط، فلا يستطيل الكلام بهذه الأوصاف لتنوع النمط الكلامي، والله أعلم.

قوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أي: الصابرين في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال الضراء وهي المرض والأسقام، وهذا أبلغ من قول من يقول: إن المقصود به التوكيد بذكر المترادفات، وجعل ذلك من قبيل التكرار، فهنا تحمل البأساء على أنها الفقر الشديد، والضراء على المرض والسقم، والله أعلم.

وَحِينَ الْبَأْسِ أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس -، وأبو العالية، ومرة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.

وإنما نصب وَالصَّابِرِينَ على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال؛ لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.

كلام ابن كثير يرجع إلى ما ذكرته من أن العرب تقطع إذا تطاولت صفة الواحد في المدح أو الذم، ويكون ذلك أبلغ في مدحه أو ذمه، وبعضهم يجيب بأجوبة غير هذا، كأن يقول مثلاً: وأخُصُّالصابرين، أو أقدر، والأصل في الكلام عدم التقدير، ومهما أمكن حمل الكلام على الاستقلال فإنه أولى من دعوى الإضمار، فإذا أمكن حمل الآية على معنى صحيح من غير حاجة إلى تقدير فهذا هو المطلوب، وإن احتيج إلى التقدير فالقاعدة الأخرى أنه يقدر في الكلام ما هو أشبه ببلاغة القرآن وفصاحته.

وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

خص الله الصابرين في الآية في هذه الحالات الثلاث: البأساء، والضراء، وحين البأس، ومع أن الصبر مطلوب في كل الأمور كالصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة، لكنه خص هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها شديدة جداً، والصبر فيها لا شك أنه في غاية المشقة، وإلا فالأصل أنه مطلوب في كل الأحوال.

ثم أحسن وصفهم فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فجاء بالفصل بالضمير، ضمير الغائب هم بين طرفي الكلام، وهذا يشعر بأن هؤلاء حققوا الوصف الكامل من هذه الأمور، فهم أحق من يوصف بالصدق، وأحق من يوصف بالتقوى، فكأنه يقول: أولئك هم أصحاب الوصف الكامل من الموصوفين بهذه الصفة، ومجيء الضمير بين طرفي الكلام يدل على تقويته، فهو يشبه الحصر؛ كأنه حصر هذه الأوصاف بهؤلاء الموصوفين، بمعنى أنهم حققوا الوجه الكامل منها.

وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:178-179].

يقول تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ العدل في القصاص -أيها المؤمنون -حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُكتب بمعنى: فرض، أي فرض عليكم القصاص، ومعلوم أن القصاص قد يستغنى عنه بالعفو مطلقاً من غير عوض، وقد يستغنى عنه أيضاً بالدية، وهذا هو معنى السلطان الذي ذكره الله في موضع آخر في سورة الإسراء فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [سورة الإسراء:33] فلعل من أحسن ما فسر به السلطان المذكور في الآية: أن الله جعل لولي الدم تسلطاً على القاتل شرعاً وقدراً وذلك بثلاثة أمور: القصاص، أو الدية، أو العفو، والخيار خياره، فهذا من أحسن ما تفسر به آية الإسراء، والله تعالى أعلم.

فالمقصود أنه قال: ولا تتجاوزا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة وبني النضير إلى آخره، والمراد أن بني النضير كانوا يرون أنهم أشرف من قريظة، فكانوا يرون أن دماءهم لا تتكافأ، فإذا قُتل أحد من بني النضير -قتله قرظي-فإنه يقتل به، وإذا كان القاتل من بني النضير فإنه لا يقتل. 

لكن ما مناسبة إيراد خبر قريظة وبني النضير في تفسير قوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ؟ لعله تلميح لأهل الإيمان أن لا تغيروا أحكام الله كأولئك الذين غيروها، ولذلك صدر الآية بخطاب الذين آمنوا فيكون (كُتب) يتصل بقوله (الحر)، وهذا الذي اختاره جمع من المفسرين منهم ابن جرير الطبري -رحمه الله، الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعني كتب عليكم أن تعدلوا في القصاص فلا يقتل غير القاتل، ولهذا جاءت بعض الروايات عن بعض السلف: بأن أهل الجاهلية كان إذا قتل الرجل الرجل، قتلوا كل من وجدوا من عشيرته وقبيلته كما قال الشاعر:

كل قتيل من كليب غرة حتى يوافي القتل أهل مرة

فكل قتيل من هؤلاء غرة بمنزلة العبد حتى يوافي القتل أهل مرة، والقرآن حذر من هذا الصنيع، يقول في الإسراء: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِا [سورة الإسراء:33] فيدخل فيه قتل غير القاتل، ويدخل فيه التمثيل به، ويدخل فيه قتل الجماعة بالواحد إن لم يشتركوا في قتله.

أحيانا يقولون: هذا لا يكافئه إلا رئيس القبيلة، أو فارس القبيلة، أو يقولون: لا يكافئه إلا أن نقتل به عشرة من القبيلة فهذا من الإسراف في القتل، بعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية نزلت تتحدث عن مثل هؤلاء، إذا قُتل منهم الرجل -عبد مثلاً-لم يرضوا إلا بقتل حر مكانه، وإذا كانت امرأة قد قتلت امرأة فإنهم لا يكتفون بقتل هذه المرأة بل يقولون: لابد أن نقتل رجلاً من هذه القبيلة.

وبعضهم يقول: إن هذه الآية أصلاً نزلت في قوم وقع بينهم قتال، فالنبي ﷺ أصلح بينهم، وجعل هذه الدماء الموجودة بين الفريقين، جعل القتلى النساء من الفريقين هؤلاء يعدلن هؤلاء، والعبيد بالعبيد، والأحرار بالأحرار، وأصلح بينهم على هذا الأساس، فكِفاءُ دماء هؤلاء بهؤلاء، وما زاد فيمكن أن يعطوا من المال الديات ما يعوض هذا التفاوت، وعلى هذا تكون الآية لا مفهوم لها؛ لأن نزولها وتقرير الحكم فيها لم يكن ابتدائياً، وإنما هو نازل في توصيف حالة واقعة فهي أحد المواضع السبعة، أو الثمانية التي لا يعمل فيها بمفهوم المخالفة، والتي جمعها الناظم الشنقيطي في قوله:

................................ ودع إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب  للسؤل أو جري على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع

وهذه الآية نزلت على وفاق واقع معين، وهي كقوله -تبارك وتعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:28]، فمفهوم المخالفة أنه يجوز اتخاذ الكافرين أولياء بشرط أن يكون معهم مؤمنون، ولكن ليس هذا المراد؛ لأن الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين اتخذوا بعض الكافرين أولياء ضد بعض المؤمنين، فنزلت الآية تتحدث عن هذا الأمر، فيكون ذلك قد نزل في توصيف واقع معين.

وكما قال الله وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النــور:33] فهل إذا كانت هذه الأمة لا تريد التحصن والعفاف وترغب في الفجور، يجوز تركها استدلالاً بمفهوم المخالفة؟ لا، لأن الآية نزلت في واقعة معينة، وهو أن عبد الله بن أبي بن سلول كان له جارتان فأسلمتا، فكان يرغمهما على البغاء مقابل أجرة يتكسبها من وراء هؤلاء الجواري، ويضربهما على ذلك، فأنزل الله: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا.

فقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ لا يعني أنه إذا قتل الحر العبد أو العكس أن معناه أنه لا يطالب بالقصاص، فليس هذا هو المراد، فالآية إنما نزلت على توصيف، أو تعالج واقعاً معيناً، وترد على بعض المفاهيم التي كانت منغرسة في بعض الأفهام، وليس نزولها لتقرير حكم ابتداء، وبالتالي فإن قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ليس المقصود منه أن المرأة إذا قتلت الرجل، أو الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، وإن كان الإمام أحمد ذهب إلى أن الرجل إذا قتل المرأة وحكم بالقصاص فإنه تكمل له دية الرجل، فإذا كانت دية الرجل مائة ألف، ودية المرأة خمسين ألفا، فيدفع إليه أولياء المقتول خمسين ألفا نصف الدية الباقي ويقتل، وهذه المسألة محل خلاف والله أعلم بالصواب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري في كتاب الزكاة –باب أي الصدقة أفضل، والصدقة وأنت صحيح شحيح (1353) (2/515)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032) (2/716).
  2. رواه الترمذي (658) (3/46)، ورواه النسائي (2582) (5/92)، ورواه ابن ماجه (1844) (1/591)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (892).
  3. رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7/5)، والصغير (2/158)، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن جابر بن عبد الله (7/464).
  4. رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب قول الله تعالى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273] (1409) (2/538)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة - باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يتفطن له فيتصدق عليه (1039) (2/719).
  5. رواه البخاري في كتاب الأدب – باب: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [سورة التوبة:119] (5744) (5/2262)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان – باب: بيان خصال المنافق (59) (1/78).
  6. رواه البخاري في كتاب الإيمان - باب علامة المنافق (34) (1/21)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان خصال المنافق (58) (1/78).

مواد ذات صلة