الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[6] من قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 27 إلى قوله تعالى: {يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} الآية 31.
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2428
مرات الإستماع: 2176

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تتمة سياقه لحديث البراء بن عازب -ا:

قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتَفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدَعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له -ثم قرأ رسول الله ﷺ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40]- فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً -ثم قرأ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [سورة الحـج:31]- فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة[1]. ورواه أبو داود وابن ماجه.

وروى الإمام عبد بن حميد -رحمه الله تعالى- في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي ﷺ: فيراهما جميعاً[2]، قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خَضِراً إلى يوم القيامة. رواه مسلم عن عبد بن حميد به، وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب.

وروى الحافظ أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إِذا قبر الميت ـ أو قال: أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، وينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك[3] ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [سورة إبراهيم:27]، ذلك إِذا قيل له في القبر: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات من عند الله، فآمنت به وصدقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث[4].

وروى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده، إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قِبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبلي مدخل، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، فيؤتى عند رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك، فيقول: دعني حتى أصلي، فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعم تسألوني؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد؟ فيقال له: نعم، فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حَييتَ وعلى ذلك مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم تجعل نسمته في النسم الطيب، وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة، ويعاد الجسد إلى ما بدىء من التراب[5]، وذلك قول الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، رواه ابن حبان فذكر جواب الكافر وعذابه.

وروى عبد الرزاق عن ابن طاوس يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال: لا إله إلا الله، وَفِي الْآخِرَةِ المسألة في القبر.

وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وَفِي الْآخِرَةِ في القبر، وكذا روي عن غير واحد من السلف.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالتثبيت الذي يكون في الحياة الدنيا يمكن أن يحمل -والله تعالى أعلم- على التثبيت على الأعمال الصالحة، وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإيمان في الحياة وعند الممات، حتى يختم للإنسان بالسعادة في الآخرة، وهي تبدأ منذ موت الإنسان، فالقبر أول منازل الآخرة، فإذا جاءه الملكان فسألاه فثبته الله فهذا من هذا التثبيت، والله تعالى أعلم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ۝ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سورة إبراهيم:28-30].

قال البخاري: قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ألم تعلم، كقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ [سورة إبراهيم:24] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ [سورة البقرة:243]، البوار الهلاك، بار يبور بوراً، وقَوْماً بُوراً هالكين. حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء، سمع ابن عباس -ا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قال: هم كفار أهل مكة.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [سورة إبراهيم:28] قال: هم كفار قريش يوم بدر، وقال: مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار، والمعنى يعم جميع الكفار فإن الله تعالى بعث محمداً ﷺ رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار.

اختلف المفسرون في معنى قوله –تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً فقيل: المراد بهم كفار قريش، وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ يعني في الدنيا، بما وقع لهم في يوم بدر حيث قُتل رءوسهم وسادتهم وكبراؤهم، وأُسر من أسر.

وقيل في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً هذه الآية تعم جميع الكفار وهذا هو الذي ذكره ابن كثير –رحمه الله- فيكون وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ يعني في النار، ويمكن أن تحمل الآية على عمومها فيدخل فيها القولان، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ [سورة إبراهيم:30] أي: جعلوا له شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى ذلك، ثم قال تعالى مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيه ﷺ: قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سورة إبراهيم:30] أي: مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا، فمهما يكن من شيء فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أي: مرجعكم وموئلكم إلينا كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24]، وقال تعالى: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:70].

قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ [سورة إبراهيم:30] أي: ليضلوا الناس عن دين الله -تبارك وتعالى- وعن الإيمان، وفي قراءة أبي عمرو وابن كثير ليَضلوا عن سبيله بفتح الياء، وعلى هذه القراءة تكون اللام للعاقبة، كقوله –تبارك وتعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [سورة القصص:8].

قوله: قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سورة إبراهيم:30] كقوله -تبارك وتعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49] فليس الأمر يدل على وجوب أو استحباب أو إباحة، وإنما يقال ذلك لهم وعيداً وتهديداً.

قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31].

يقول تعالى آمراً عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية، والعلانية: وهي الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو يوم القيامة لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ أي: ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد:15].

وقوله: وَلاَ خِلاَلٌ قال ابن جرير: يقول: ليس هناك مُخالّة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة، عن العقاب لمُخالتّه، بل هناك العدل والقسط، والخِلال مصدر من قول القائل: خاللتُ فلاناً فأنا أُخالّه مُخالّة وخلالاً.

وقال قتادة: إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعاً وخِلالاً يتخالّون بها في الدنيا، فينظر الرجل من يخالل وعلام يصاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فسيقطع عنه، قلت: والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيعٌ ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً، قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254].

قوله: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31] اختلف العلماء في ”مِن“ هل المراد بها التبعيض أو غير ذلك؟ فمن حملها على التبعيض قال: لا يجب على الإنسان أن ينفق كل ماله.

وقد تكلم أهل العلم في إنفاق كل المال، فمنعه بعضهم، وفصل فيه آخرون -وهو الأقرب- وقالوا: إن ذلك يختلف باختلاف الناس، فأبو بكر  تصدق بكل ماله، وعمر تصدق بشطر ماله، ولم يقبل النبي ﷺ من رجل تصدق بقطعة من ذهب.

قوله: سِرًّا وَعَلانِيَةً، قال بعض السلف سِرًّا أي: الصدقة، وَعَلانِيَةً أي الزكاة، والأقرب -والله أعلم- أن هذه الآية لا تختص بالصدقة أو الزكاة، فالزكاة لا تقيّد دائمًا بالعلانية، والصدقة لا تقيد دائمًا بالسر، وإنما يكون ذلك بحسب الحال والمصلحة، فالرجل الذي يكون في بلد لا تُخرج فيها الزكاة مثلًا، أو يقصر الناس فيها كثيرًا فإظهارها من أجل إحياء هذه الشعيرة أمر مطلوب، ومن خشي التهمة فإنه يخرجها علانية.

فإذا قال قائل: أنا لا أستطيع أن أخلص في هذه العبادة إلا إذا أخرجتها سرًا، أما إذا أعلنت بها دخل في قلبي الرياء، فنقول: الواجب عليك أن تخرجها سرًا، وكذلك بالنسبة للصدقات.

فإذا كانت المصلحة إخراج الصدقات أو إنفاق الأموال سرًا أنفقوها سرًا، وإذا كانت المصلحة تقتضي إخراجها علانية أخرجت علانية، وقد كان النبي ﷺ يدعو إلى الصدقة فيأتي أصحابُه أمام الناس، فهذا يأتي بصرّة قد عجزت عنها كفه، وهذا يأتي بشيء يسير، وآخر يأتي بشيء كثير، فكان أهل النفاق يلمزون من جاء بمال قليل بقولهم: الله غني عن هذا وصدقته، ويقولون فيمن جاء بمال كثير: هذا مُراءٍ، فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة التوبة:79].

  1. رواه أحمد (30 / 499- 501)، برقم (18534).
  2. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (1 / 462)، برقم (1308)، ومسلم، كتاب التوبة، باب عرض مقعد الميت من الجنة (4 / 2200)، برقم (2870).
  3. رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (3 / 383)، برقم (1071).
  4. تفسير الطبري (16 / 598).
  5. رواه ابن حبان، كتاب الجنائز، باب المريض وما يتعلق به (7 / 380)، برقم (3113)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3 / 56)، برقم (12062).

مواد ذات صلة