الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {الَرَ} الآية 1 إلى قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ} الآية 13.
تاريخ النشر: ٠١ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2671
مرات الإستماع: 2411

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسيره:

تفسير سورة الحجر. وهي مكية.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ ۝ رُبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ۝ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سورة الحجر:1-3].

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، وقوله تعالى: رُبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ الآية، إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين، وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله في قوله: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار، وروى ابن جرير أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ يتأولانها: يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم، فذلك حين يقول: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.

وقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا تهديد شديد لهم ووعيد أكيد، كقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سورة إبراهيم:30]. وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [سورة المرسلات:46]؛ ولهذا قال: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي: عن التوبة والإنابة، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي: عاقبة أمرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، ثم ذكر القرآن بعده وَقُرْآنٍ مّبِينٍ، بعض أهل العلم فسر الكتاب بجنس الكتب المتقدمة التي أنزلها الله كالتوراة والإنجيل وغيرها، قالوا ذلك من أجل أن لا يكون تكرارًا مع ذكر القرآن.

وقيل: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المقصود هذه السورة، وقيل: إن المراد آيَاتُ الْكِتَابِ آيات هذا القرآن، قال: وَقُرْآنٍ مّبِينٍ فالله -تبارك وتعالى- تنويهًا بشأنه وإعظامًا لذكره ذكر هذا وهذا من صفته، فإن أسماء القرآن -كما يقال في أسماء الله أسماء وأوصاف، فكل اسم يدل على صفة، فالكتاب هو المكتوب، والقرآن هو المقروء، الذي جمع الله فيه الهدى من التوحيد والأخبار والقصص والأحكام والآداب وما إلى ذلك.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الكتاب والقرآن كله شيء واحد، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ، ثم قال: رُبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ، "رُبَما" قرأ نافع وعاصم بالتخفيف، وقرأ الجمهور بالتشديد "ربَّما"، والقراءة الأولى هي لغة أهل الحجاز، والقراءة الثانية هي لغة تميم ومن وافقهم، والمعنى في القراءتين واحد.

وهذه اللفظة تأتي للتقليل، تقول: ربما يجود البخيل، وقد تأتي للتكثير؛ لذا فإن المفسرين منهم من حمل ذلك على التكثير، رُبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ أي: يكثر منهم ذلك، ومن حمله على التقليل خصّه بموطن معين.

والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الآية تحمل على الجميع، فمن السلف من قال: إن ذلك حينما قتلوا في يوم بدر، ولا شك أنهم أدركوا وعرفوا وعاينوا من الحقائق ما عرفوا به حقيقة ما جاء به رسول الله ﷺ، وقد خطبهم فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا[1]، فالكافر يندم عند المعاينة، إذا خرجت روحه، وكذلك أيضًا يندم إذا جاءه الملكان في القبر، كما يندم عند البعث والحساب، فهو في القبر يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة[2]، والله يقول: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13]، فإن أحد المعنيين المشهورين في تفسير هذه الآية يعني: كما يئس الكفار الذين قبروا من رحمة الله ، وقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ، الأمر يأتي لعدة معانٍ، وهذا الموضع هو للتهديد والوعيد كمن يقول مثلًا: افعل ما شئت فستجد جزاءك، وهكذا، والله أعلم.

وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَهَا كِتَابٌ مّعْلُومٌ ۝ مّا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [سورة الحجر:4، 5].

يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.

وَقَالُواْ يَآأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ ۝ لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ ۝ مَا نُنَزّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مّنظَرِينَ ۝ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:6-9].

يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم: يَآأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ أي: الذي تدعي ذلك، إِنّكَ لَمَجْنُونٌ أي: في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا.

قوله: وَقَالُواْ يَآأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ، قيل: هم لا يؤمنون أن النبي ﷺ نزل عليه الذكر، وإنما يخاطبونه بحسب زعمه، والخطاب في القرآن أحيانًا يأتي بحسب نظر المخاطب، وإن كان المتكلم لا يؤمن به، وإنما بحسب نظره، سواء كان حقًا أو باطلًا، فخاطبوه بقولهم: يَآأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ هم لا يؤمنون بأنه نزل عليه الذكر، وهو حقيقية نزل عليه الذكر، فهذا بحسب نظر المخاطب مع أنه حق، لكن المتكلم لا يعتقده، مثل قول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [سورة الشعراء:27]، مع أنه لا يؤمن أنه رسول.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن قوم شعيب: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [سورة هود:87]، هم على أحد القولين في الآية، فقيل: إنهم قالوا: الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ تهكمًا به، وقيل: كانوا يعتقدون فيه أنه حليم رشيد، فكيف صدر منك مثل هذا الشيء الذي يخالف ما عرف من خلقك؟

والله يقول لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] يعني: على رجائكما، وإلا فالترجي لا يقع من الله ، فهذا أحد الأقوال في توجيه دخول "لعل" في كلام الله في هذا الموضع، يعني بحسب نظركما، كما قال الله عن يونس -عليه الصلاة والسلام: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، مع أن الله يعرف كم عدد هؤلاء بدقة، ولكن بحسب نظر المخاطب إذا نظر إليهم، هذا على أحد الأقوال في تفسير الآية وتوجيهها، إذا نظر إليهم المخاطب فإنه يقول: هم مائة ألف أو يزيدون، وهكذا أمثلة وأنواع كثيرة.

لّوْ مَا أي: هلّا، تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ أي: يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين، كما قال فرعون: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [سورة الزخرف:53]، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ۝ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [سورة الفرقان:21، 22]، وكذا قال في هذه الآية: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، وقال مجاهد في قوله: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ بالرسالة والعذاب، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل.

قوله: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، يعني إِلَّا بِالْحَقِّ: إلا نزولًا متلبسًا بالحق، ومعنى النزول الذي يكون بالحق، أي ينزلون بالوحي والرسالة أو ينزلون بالعذاب، وهو الذي يختص بهم، ويتعلق بهؤلاء المقترحين؛ لأن الله قال: وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، فإذًا، نزّل الملائكة، كما قال الله : يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوّلِينَ ۝ وَمَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ۝ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ [سورة الحجر:10-13].

يقول تعالى مسليًا لرسوله ﷺ في تكذيب من كذبه من كفار قريش: إنه أرسل من قبله في الأمم الماضية وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى، قال أنس والحسن البصري: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني: الشرك.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوّلِينَ، الشِّيَع: أصل هذه اللفظة مِن شاعه إذا تبعه، فالشِّيَع: هي الأمم التي يجتمع بعضها إلى بعض، ويتبع بعضها بعضًا، جمع شيعة، وهي الطائفة التي تجتمع على أمر يتبع بعضها بعضًا فيه، فهؤلاء يقال لهم: شيعة أو من شيعته فلان، وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ [سورة الصافات:83] يعني: من أتباعه وأنصاره، والمقصود فِي شِيَعِ الأوّلِينَ يعني: في أممهم وطوائفهم، يعني في الأقوام السابقين، ثم في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ۝ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ، الضمير في قوله: نَسْلُكُهُ يرجع إلى الشرك كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "قال أنس والحسن يعني: الشرك"، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؛ لأن الله قال: وَمَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يعني: يكفرون بدينه ويسخرون منه، لحكمة أرادها الله -تبارك وتعالى، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]. 

وبعضهم قال: إن الضمير يرجع إلى الاستهزاء، كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي: الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، كلما جاءهم رسول استهزءوا به، وسخروا منه، ولا يخفى أن بين المعنيين ملازمة، فالاستهزاء لا شك أنه كفر، وهو مظهر من مظاهر كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، وعتوهم على الله -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: يعني الذكر؛ لأن الله قال قبله: إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۝ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ۝ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ۝ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني الذكر، نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ مكذَّبًا به لا يدخل قلوبهم إلا على وجه التكذيب والكفر والاستهزاء والسخرية.

وبعضهم يقول: المراد بـ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ: أن هذه سنة الله -تبارك وتعالى- بالمجرمين، يعني كما فعلنا بالمجرمين الذين استهزءوا، نسلك الضلال في قلوب المجرمين، والآية تحتمل المعنيين، وابن جرير -رحمه الله- فسر ذلك بالاستهزاء، والأقرب منهما إذا احتيج إلى الترجيح أن المقصود به الاستهزاء؛ لأن الله قال: وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ۝ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني: الاستهزاء.

والقول بأن المقصود به الذكر غير بعيد، يعني القرآن، يأخذونه مأخذ المستهزئ، ولا يأخذونه مأخذ المؤمن المصدق الذي يعظم القرآن، ويعتقد أنه كلام الله -تبارك وتعالى- ويمكن أن يجمع بين هذه المعاني لوجود الملازمة بينها، كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني: الذكر وهو القرآن، مستهزءًا به على وجه التكذيب والكفر، -والله تعالى أعلم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- جمع بين هذه المعاني، فقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الآية: "وقد وقع هذا المعنى في القرآن في موضعين هذا أحدهما، والثاني في سورة الشعراء في قوله: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ ۝ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ۝ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ۝ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة الشعراء:198-201]، قال ابن عباس -ا: "سلك الشرك في قلوب المكذبين كما سلك الخرزة في الخيط".

وقال أبو إسحاق: "أي كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا بمن تقدم من الرسل، كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين". واختلفوا في مفسر الضمير في قوله: نَسْلُكُهُ فقال ابن عباس -ا: "سلكنا الشرك". وهو قول الحسن، وقال الزجاج وغيره: "هو الضلال". وقال الربيع: "يعني الاستهزاء". وقال الفراء: "التكذيب".

وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة، وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم. وعندي في هذه الأقوال شيء، فإن الظاهر أن الضمير في قوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ هو الضمير في قوله: سَلَكْنَاهُ، فلا يصح أن يكون المعنى لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء، فلا تصح تلك الأقوال إلا باختلاف مفسر الضميرين، والظاهر اتحاده، فالذين لا يؤمنون به هو الذي سلكه في قلوبهم وهو القرآن، فإن قيل: فما معنى سلْكه إياه في قلوبهم وهم ينكرونه؟ قيل: سلَكَه في قلوبهم بهذه الحال، أي سلكناه غير مؤمنين به فدخل في قلوبهم مكذَّبًا به، كما دخل في قلوب المؤمنين مصدَّقًا به.

وهذا مراد من قال: إن الذي سلكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال، ولكن فسر الآية بالمعنى، فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم، فإن قيل: فما معنى إدخاله في قلوبهم وهم لا يؤمنون به؟ قيل: لتقوم عليهم بذلك حجة الله، فدخل في قلوبهم وعلموا أنه حق وكذبوا به، فلم يدخل في قلوبهم دخول مصدَّق به مؤمَن به مرضيّ به، وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرًا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم، فإن المكذب بالحق بعد معرفته له شر من المكذب به ولم يعرفه، فتأمله فإنه من فقه التفسير، والله الموفق للصواب"[3].

  1. رواه النسائي برقم (2074)، كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، وأحمد في المسند (20/237)، برقم (12873)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والحاكم في المستدرك (3/249)، برقم (4995)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، باب ذكر مناقب أبي حذيفة، وصححه الألباني في صحيح فقه السيرة (250).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند (30/503)، برقم (18534)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
  3. انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل للإمام ابن القيم الجوزية (61-62)، تحقيق: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي، دار الفكر - بيروت، سنة النشر: 1398هـ - 1978م.

مواد ذات صلة