بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال المفسر في تفسير قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ [سورة البقرة:189]، أولاً هذا السؤال، هل كان عن فائدة هذه الأهلة والمنافع المنوطة بها، ومن ثم جاء الجواب مطابقاً للسؤال فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189]؟ أم أن السؤال إنما كان: لماذا يبدو الهلال في أول الشهر دقيقاً ثم يكبر حتى ينير، ثم بعد ذلك يكتمل فيكون قمراً ثم بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود هلالاً في آخر الشهر، ثم يختفي؟
كثير من البلاغيين والمفسرين قالوا: إن السؤال إنما كان عن الثاني: لماذا يبدوا الهلال دقيقاً ثم بعد ذلك لا يزال يزداد حتى يصير بدراً..؟
ومن ثَمَّ يقولون: إن الجواب جاء على طريقة الأسلوب الحكيم، والمراد بالأسلوب الحكيم عندهم: أن يأتي الجواب على سؤال بغير ما سأل به السائل، وإنما بما هو أجدر أن يسأل عنه، أي أنه يجيبه بما هو أحوج إليه وأنفع له دون ما سأل عنه؛ لأن ذلك لا ينتفع به أو لا يعنيه.
هكذا يقولون إلا أن هذه المسألة ليست محل اتفاق بين أهل العلم، أعني عن ماذا كان السؤال، وبالتالي هل طابقه الجواب أو لا، فمن أهل العلم من يقول: إن السؤال إنما كان عن فائدة الأهلة، وبالتالي جاء الجواب مطابقاً له، وممن قال بهذا جماعة من المحققين، ويمكن الرجوع إلى كلام الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات.
لماذا سمي الهلال هلالاً:
يمكن أن يقال: لأن الناس حينما يرونه يرفعون أصواتهم إخباراً به، فرفع الأصوات هذا هو إهلال، كما تقول: أهل بالإحرام، وكقوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ [سورة البقرة:173] وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند ذكر أصنامهم وآلهتهم على الذبيحة فقيل له: إهلال، ولو لم يحصل فيه ذلك كما يقال لليمين: حلف باعتبار أن كل واحد منهما يأخذ بيد صاحبه توثيقاً، فاليمين قول يصاحبه فعل، ثم صارت تطلق اليمين على كل حلف، وعلى كل حال ربما يكون سمي الهلال بهذا؛ لأنهم يرفعون أصواتهم عادة إخباراً به عند رؤيته.
وبعض أهل العلم يقول عن الهلال: إنه لا يزال هلالاً حتى يستدير وإذا استدار صار بدراً، وبعضهم يقول: لا، إنما يكون ذلك حتى ينير، وذلك ليلة السابع، ومن ثم يكون قمراً ثم بدراً.
في قوله:قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:189] يجيبهم عن فوائد الأهلة، فيقول: هِيَ مَوَاقِيتُ أي: مواقيت لعِدَد النساء؛ فالمتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشراً، والمطلقات الصغيرات والآيسات يتربصن ثلاثة أشهر وذلك يعرف بالأهلة.
وبالهلال كذلك يعرفون وقت الصوم والفطر، والكفارات حينما يصوم شهرين متتابعين، كما أنه يعرف بذلك أيضاً مواقيت الديون والآجال، إلى غير ذلك مما يحتاجون إلى معرفة ميقاته من العهود والعقود والمواثيق المؤقتة بوقت وما إلى ذلك.
ثم ذكر بعدها الحج فقال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189] فالحج من جملة المواقيت -ولكن يمكن أن يكون سبب هذا الإفراد له أن الحج هو أعظمها-وذلك أن الناس إنما يقفون في عرفة بناءً على معرفة الوقت، فكل الناس يكون وقوفهم بناءً على هذه الرؤية، بل في الدنيا جميعاً إنما يعرفون ذلك اليوم ويوم النحر وأيام التشريق بناءً على رؤية الهلال فيكونون تبعاً فيه لأهل مكة، ولذلك لا يختلفون في عيد الأضحى فهم تبع لأهل مكة، والمقصود أنه ذكر الحج بعد العموم؛ لأهميته بالنسبة للأمور الأخرى من العِدَد وما إلى ذلك، فهي قضايا تتعلق بالإنسان نفسه، لكن الحج هو أعظمها، فهو ركن من أركان الإسلام، ويتعلق به حكم المكلَّفين جميعاً.
وروى عبد الرزاق عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً[1] ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189].
يُلاحظ أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت، ولم يجعل الشمس كذلك، وبالتالي فإن ضبط المواقيت إنما يكون بالأهلة لا بالشمس، وهذه هي الطريقة الشرعية، وقد تكلم ابن القيم -رحمه الله- في مواضع من كتبه على أن ذلك أثبت وأدق، وبيّن وجه هذا، خلافاً لما يتداوله الناس اليوم جهلاً أو تقليداً للكفار من التوقيت بغير ذلك، وذكر أن التوقيت الذي كان عليه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إنما كان بالأهلة ولم يكن بالشمس، واستدل على هذا بأمور منها: حديث عاشوراء الذي فيه أن النبي ﷺ جاء في اليوم العاشر فرآهم يصومون ذلك اليوم فصامه النبي -عليه الصلاة والسلام- وأمر بصيامه.
عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189].
هذه الآية هي مثال على ما قد يخفى معناه إلا بمعرفة سبب النزول، ومن المعلوم أن سبب النزول في الأهمية ليس على مرتبة واحدة، فأحياناً يتوقف عليه فهم المعنى، وأحياناً يزول به بعض الإشكال أو الغموض، وأحياناً يكون من باب زيادة الإيضاح، وأحياناً لا يؤثر في المعنى، فهذا مما قد يتوقف عليه فهم المراد، يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا [سورة البقرة:189] المراد بهذا الكلام بيّنه سبب النزول وهو أن بعض العرب من الأنصار أو من غير الأنصار كانوا يرون أن دخول البيوت من الأبواب أو الاستظلال تحت السقوف من محظورات الإحرام، فإذا جاء أحدهم لحاجة فإنه يأتي البيت من ظهره لا من بابه؛ لأنه يرى أنه ممنوع من هذا، فبيّن الله أن البر ليس له تعلق بإتيانكم البيوت بهذه الصفة وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، هذا هو سبب نزول الآية.
مسألة:
من الناس من يعتمد على التفسير بما تحتمله اللغة العربية من غير نظر إلى أسباب النزول، ومن أمثلة ذلك قول أبي عبيدة معمر بن المثنى من المعتزلة فيقول -تبارك وتعالى- في سورة الأنفال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11]: "المقصود الربط على القلوب بحيث تثبت القدم في المعركة فلا يفر" وهذا المعنى تحتمله اللغة لكنه ليس المراد، فأسباب النزول وملابسات النزول تدل على أنه نزل مطر فلبّد الأرض وكانت تسوف فيها الأقدام، فحصل ما حصل.
وهذا مثال آخر: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189] بعضهم قال: هذا مثل ضربه الله ، وهو أن تؤتى البيوت من أبوابها بمعنى أن الإنسان إذا أراد شيئاً فإنما يأتيه من وجهه الذي يحصَّل به وذلك بتعاطي الأسباب الصحيحة والطرق الموصلة إلى المطالب، وهذا الكلام وإن كانت تحتمله اللغة، لكنه ليس مراداً هنا، فالمقصود أنه إذا عرف المراد وفسرت الآية به، فلا مانع عندئذ أن يقال: إن هذا العموم في اللفظ يمكن أن يعتبر في المعنى الآخر، بل هو يستعمل استعمال المثل بمعنى أنهإذا كانت للإنسان حاجة فينبغي أن يعرف السبيل الموصل إليها، وإلا فإن ذلك قد يضيع عليه حاجته، ويفوت مطلوبه، والله أعلم.
يُلاحظ في هذه الروايات أن صياغاتها صريحة حيث يقولون: فنزلت، وأما الاختلافات فهي في ألفاظ هذه الروايات وهي يسيرة، ففي بعضها يقال: إنهم كانوا يرون ذلك من محظورات الإحرام، وفي بعضها أنهم كانوا إذا قدموا من سفر، وعلى كل حال يمكن أن تحمل هذه الألفاظ المختلفة على أنهم كانوا يفعلون ذلك في هذا وفي هذا، أو أن بعض العرب يفعله في هذه الحال، والبعض الآخر يفعله في حال أخرى، فقد كانت لهم من العقائد والعادات أمور في عداد العجائب.
ومن أراد أن يطلع على شيء من طقوسهم الدينية -لا سيما ما يتعلق بالإحرام والحج والمناسك- فليقرأ في مثل كتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، فهذا كتاب كبير، يبلغ نحو تسعة مجلدات أو أكثر، وفيه كل ما يتعلق بالعرب، ومن ذلك ما يتعلق بالمناسك والحج، وكيف يصنعون، وقبائل العرب ماذا تصنع كل قبيلة إذا أحرمت، وتلبية كل قبيلة، ومحظورات الإحرام، والعادات المتبعة عندهم، وأمور غريبة عجيبة جداً، وتجد أن منهم من يذهب قبل حجه لزوماً إلى بعض المحال التي تعظم فيها الأوثان؛ لأنه يرى أن ذلك من تمام النسك، ومنهم من يكون منصرفه إليها بعد قضائه لحجه، وتجد كيف هي طريقة التلبية التي يرددونها، فقبيلة عك مثلاً يتقدم غلامان أسودان عاريان أمام الموكب ويصيحان بأعلى صوتهما، نحن غرابا عك، فيصيح الجمع خلفهم، ويقولون: عك إليك عانية، عبادك اليمانية، وكلام فارغ كثير مما يضحك منه العاقل يوجدفي تلك الكتب.
وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فقال الله تعالى:وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا الآية [سورة البقرة:189].
المقصود أن هذه الاختلافات في هذه الروايات لا تؤثر في فهم المعنى، وإنما الذي يفهم به المعنى أن نعرف أنه كانت لبعضهم عادات في بعض الأحوال، فبعضهم كان يتسور داره، والآخر يأتي البيت من ظهره دون الدخول من بابه، وسواء كان ذلك إذا أنشأ سفراً، أو كان قد أحرم، فكل هذا لا يؤثر ما دام المقصود واضحاً.
وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189] أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه لعلكم تفلحون غداً إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.
وقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:190-193].
قال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة.
بعض أهل العلم يرى أن أول آية نزلت في القتال هي قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [سورة الحـج:39]، فكان إذناً مطلقاًَ، ثم بعد ذلك جاء الأمر به مقيداً: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، فلم يكن الأمر بالقتال في أول الأمر على سبيل العموم والإطلاق، فيرى هؤلاء العلماء أن هذه ثاني آية نزلت في القتال.
ومنهم من يرى أن هذه هي الآية الأولى التي نزلت بالأمر بالقتال: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، ومن ثم فإن طائفة من هؤلاء يقولون: إنها قد نسختها الآية الخامسة من سورة براءة، وهي قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5]، ويقولون: إن هذه الآية نسخت مائة وأربعا وعشرين آية، أي: آيات العفو والصفح، ومثل هذه الآيات في القتال كقوله: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، ومثل ذلك قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، فلم يقيد ذلك بقتال الذين يقاتلون، وهذا قول معروف لطائفة من السلف والخلف.
وذهب آخرون إلى أن الآية ليست منسوخة، وليس هذا هو معناها أصلاً وإنما جيء بهذه الصيغة: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190] من أجل التحضيض والتحريض على قتالهم، كما قال لهم في سورة براءة: أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ... [سورة التوبة:15] أي أن ذلك على سبيل التحريض على القتال، فبعض أهل العلم يقول: هذه على هذا الباب: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، أي: أن الله أمر بالقتال مقروناً بهذا ليكون ذلك حاثاً لهم على مقاتلة الأعداء، أي كأنه يقول: هم يقاتلونكم فكيف تقعدون عن قتالهم؟ وبالتالي ليس المقصود بالأمر بالقتال هنا على هذا القول قتال من قاتلهم فقط.
ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية ليست منسوخة وليست على ما فهمه أولئك من أن القتال يختص بمن يقاتلهم من طوائف الكفار، وإنما تكون في من يقدر على حمل السلاح دون النساء والشيوخ والرهبان ممن لا يشارك في القتال، ولا رأي ولا تدبير له فيه، فالمقصود قاتلوا الرجال المقاتلة.
وهكذا اجتمع لنا في هذه الآية ثلاثة أقوال مشهورة: الأول على النسخ، والثاني والثالث على أنها لا نسخ فيها، وكل هذه الأقوال ترجع إلى أن هذه الآية ليس المراد بها الاقتصار في القتال على من قاتل المسلمين فقط من طوائف الكفار، إلا أن يكون باعتبار أن هذا هو المعنى ثم نسخ، وإما أن المراد التحضيض والتحريض بذكر أمر تتحرك معه النفوس، وإما بأن المراد مقاتلة من يقدر على القتال ومَن مِن شأنه القتال من الرجال، وبالتالي لا نسخ.
وعلى كل هذه التقديرات ندرك أن ما يروجه بعض المفتونين والذين يكذبون على الله في مثل هذه الأيام، ويتنصلون من شرائع الإسلام، ويقولون للمسلمين ولغير المسلمين: الإسلام عندنا يقول: قاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم فقط، بل حتى الذين يقاتلون المسلمين صارت مقاتلتهم إرهاباً إذا دافع المسلمون عن عرضهم وبلدهم وحريمهم، فلا بد من الاستكانة والخضوع ودفن الرءوس في التراب، ومن قاتل هؤلاء الكفار دهموا بلده وانتهكوا عرضه وقتلوا نساءه؛ لأنه من الخوارج بزعمهم، أما الذي يهدم القرى والمدن على بيوت الناس بأنواع الأسلحة الفتاكة فهذا حامل الحضارة والمدنية ورسولها، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى كل حال هذا هو معنى الآية على كل التقديرات التي قال بها أهل العلم، ومن أراد أن يكذب على الله ويبدل شرائع الإسلام فهذا شأن آخر، فالإنسان يمكن أن يسكت؛ لأنه يرى أنه لا مصلحة في بعض الكلام أحياناً، لكن لا يجوز له أن يكذب على الله في كل حال، وعلى كلٍ نحن مطمئنون والحمد لله بأن الجهاد باق إلى يوم القيامة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال، فهذا وعد صادق لا يمكن أن يتخلف.
ولذلك فهؤلاء مشكلتهم مع القرآن وليست مع شيء آخر، ولذلك أخرجوا قرآناً آخر وطلبوا من المسلمين أن يتبعوه، وبالتالي فليست القضية إلا في من جاء من المفتونين المنسلخين، الذين قالوا: إن الصحابة فهموا القرآن بناءً على معطيات عندهم، ونحن بشر مثلهم وهم بشر، ونحن رجال وهم رجال، ولهم فهم ولنا فهم، وكل عصر يفهم القرآن على ضوئه، وقالوا: لا بد من قراءة جديدة للقرآن، ويقصدون بالقراءة الجديدة أنه يفسر بنفس آخر مثل ما يقول فهمي هويدي الذي يفسر الجهاد في الإسلام فيقول: هو أن يوجد حلف ضد دولة معتدية على دولة أخرى، فتطالب بدايةً بالسبل الدبلوماسية، فإن تعذر ذلك فإن هذا الحلف يكسر هذا العدوان، كما قادت أمريكا حلف الأطلسي أو الناتو في محاربة صربيا عندما اعتدت على البوسنة.
وهذا داعية إسلامي في بلاد الغرب يدافع عن الإسلام على حد زعمه فيقول في بعض القنوات الفضائية عن الحور العين: هؤلاء يجاهدون من أجل الحور العين ولا يوجد شيء اسمه حور عين أصلاً، وهذا تكذيب للقرآن، والله المستعان.
قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله ويكف عمن كفَّ عنه، حتى نزلت سورة براءة.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال: هذه منسوخة بقوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] وفي هذا نظر؛ لأن قوله: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين هِمَّتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال: ِوَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ولهذا قال في الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [سورة البقرة:191] أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً.
قوله تعالى: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [سورة البقرة:191] ليس معنى ثقفتموهم وجدتموهم فقط، وإنما لفظة "ثقف" تدل على حذق في الشيء، فالرجل الثقف في القتال هو الحاذق الحذر البصير، وبالتالي فإن معنى قوله: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث أدركتموهم وتمكنتم من أخذهم، فهي حذق ومهارة في إدراكهم وأخذهم، وحيث: تدل على الزمان أو على المكان.
إلا إذا كان له رأي فيقتل، مثل ما قتل النبي ﷺ دريد بن الصمة لما كانت وقعة حنين حيث جيء به شيخ كبير، قد عمي بصره، وكان له رأي وتجربة في الحروب، وقد وقع حوار بينه وبين مالك ابن عوف النصري قائد هوازن، ومعلوم كلامه الذي قاله:
ليتني فيها جذع | أخب فيها وأضع |
إلى آخر ما قال، ثم أُخذ وقُتل بالسيف بعد المعركة مع أنه شيخ كبير أعمى قد فني ولا قدرة له، لكن كان له رأي فاستحق القتل.
لا تفعل هذه الأمور لغير مصلحة، أما إذا كان ذلك فيه مصلحة كإغاظة العدو أو كسر شوكته فيجوز ذلك كما فعل النبي ﷺ في حصار بني النضير، فقال الله : مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [سورة الحشر:5] هذا إذن قدري وإذن شرعي، والقرآن يعبِّر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالله أذن لهم بهذا في حصار عدوهم إذا احتاجوا إليه لكسر العدو، فإذا كان ذلك لا يتأتى إلا بإحراق هذه الأشجار فإنها تحرق؛ لما فيه من إغاظة الأعداء عندما يرون مالهم يصير إلى الحرق.
قوله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ [سورة الحشر:5] يعني: من نخلة، سواء كان نوعاًخاصاًمن النخل، كما قال بعضهم: العجوة، أو أنواع النخيل ما عدا العجوة، أو ما عدا العجوة والبرني، أو غير ذلك من الأقوال.
المُثلة معروفة، وهي لا تجوز ابتداء، واختلف العلماء فيها هل تجوز على سبيل المقاصة أم لا؟ فمن أهل العلم من يرى أن ذلك يجوز؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، وكذلك ما فعله النبي ﷺ حيث سمل أعين العرنيين، وقطع أيديهم وأرجلهم وألقاهم في الحرة، فكانوا يستغيثون ويطلبون الماء، ولم يعطوا ماءً حتى ماتوا؛ لأنهم فعلوا بالراعي مثل ذلك، وعلى كل حال فالمسألة معروفة وهي ليست محل اتفاق.
وكذلك من أعطى الجزية وصاحب العهد والمستأمن لا يجوز قتلهم، فيكون على هذا القول قوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة البقرة:190] أي: لا تعتدوا بقتل من أعطى الجزية، والمعاهد، والمستأمن، والشيخ الكبير، والمرأة، والطفل، والرهبان في الصوامع، وما أشبه ذلك، وعلى القول بأنها منسوخة، يكون العدوان بقتال الطوائف التي لم يحصل منها قتال، والنبي ﷺ وجد امرأة مقتولة في بعض المغازي، فأنكر قتل النساء والصبيان[3]، وفي رواية قال: ما كانت هذه تقاتِل فيمن يقاتل[4]، يعني أنه أنكر قتلها.
وهذا القول الأخير أي: لا تعتدوا بقتل من لا يستحق القتل من صاحب جزية أو مستأمن أو شيخ كبير أو نحو ذلك، هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وبهذا الاعتبار تكون الآية ليست منسوخة.
هذا جواب كبير لسؤال أو لشبهة تطرح في قضية الجهاد، وهي: أن فيه إزهاقاً للنفوس فالله يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]، ويقول في موضع آخر: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:217]، أي: ما هم فيه من الكفر أو فتن الناس عن دينهم وصدهم عن سبيل الله حتى يصيروا إلى الكفر هذا أعظم من القتل، ولذلك ينبغي أن نستفيد من أجوبة القرآن في الرد على دعايات الكفار ضد المسلمين، وتشويه صورة الإسلام.
هذا معنى ما ذكر في الرواية السابقة من أن الفتنة هي الشرك، ومن أهل العلم من يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191] أي: صد الناس عن الدين وامتحانهم حتى يتحول الرجل من الإيمان إلى الكفر بالله أشد وأعظم من سفك دمه، وهذا الذي اختاره ابن جرير في معنى الآية.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه(ج 3 / ص 201) والحاكم (ج 1 / ص 584) والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 331) والدارقطني (ج 2 / ص 163) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3093).
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير - باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة (1731) (ج 3 / ص 1356).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب قتل النساء في الحرب (2852) (ج 3 / ص 1098) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب (1744) (ج 3 / ص 1364).
- صحيح ابن ماجه في كتاب الجهاد - باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان (2842) (ج 2 / ص 948).