الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
[83] قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية 194
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4072
مرات الإستماع: 3407

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة: 191]، كما جاء في الصحيحين: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم[1] يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- قتاله أهلها يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقد آمنهم بقوله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن[2].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191]: هذه الآية صريحة في تحريم القتال في الحرم، والمراد بالمسجد الحرام الحرم بأجمعه، وليس المقصود به مسجد الكعبة المعروف فقط، وإنما الحرم كله.

قال بعض أهل العلم في هذه الآية كابن جرير -رحمه الله: إنها منسوخة بقوله -تبارك وتعالى- في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وبقوله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193]، على أن قوله تعالى: حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ عام، يدخل فيه الحرم وغيره، وقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ بمعنى حتى لا يكون كفر، فحيث وجد الكفر وجد القتال.

وهذا القول فيه نظر؛ لأن تلك الآيات وإن كانت عامة فإنها مخصصة بهذه الآية: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191]، أي: قاتلوا الكفار ولكن المسجد الحرام لا يحل لأحد أن يقاتل فيه، وإنما أحل للنبي ﷺ ساعة من نهار.

والذي يدل على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة هو أن النبي ﷺ صرَّح بعد فتح مكة بأن القتال لا يحل لأحد بعده، فقال: وإنما أحلت لي ساعة من نهار[3].

وغزوة تبوك نزلت فيها أو بعدها بقليل كثير من آيات سورة براءة، وذلك قبل حجة الوداع كما هو معلوم، وحجة الوداع كانت في آخر حياته حيث لم يعش بعدها النبي ﷺ إلا قريباً من ثمانين يوماً، وقد قال ﷺ لأصحابه في ذلك الجمع العظيم في خطبته: أي يوم هذا، أي شهر هذا، أي بلد هذا، ثم قال لهم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا[4]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، فهو يرسخ هذا المفهوم ويؤكد مدلول الآية بأن الحرم لا يجوز لأحد أن يقاتل فيه، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً. 

ولكن العلماء اختلفوا في بعض التفصيلات، كما لو التجأ إلى الحرم أحد ممن عليه دم، فبعضهم يقول: يضيق عليه حتى يخرج منه ثم يؤخذ، وبعضهم قال: إن الحرم لا يعصم دم من عليه دم أو جناية، وقتاله لا يكون مخالفاً لمدلول هذه الآية، وهذا هو الأرجح، وهو أن من كان عليه جناية من الجنايات فإن وجوده في حرم الله لا يمنع من أن يقتص منه، ويدل على هذا أيضاً أمور منها:

أن النبي ﷺ أمر بقتل ابن خطل وغيره ممن أهدر دمه ﷺ حينما فتح مكة، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وقد وجدوا ابن خطل متعلقاً بأستار الكعبة فقُتل، وهذه هي خلاصة مسألة القتال في المسجد الحرام بإيجاز شديد، وستأتي مسألة أخرى إن شاء الله في موضعها في سورة براءة، في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [سورة التوبة:36]

فعندنا القتال في الحرم: فهو يختص بالبقعة ولا يتوقت بوقت، وعندنا القتال في الأشهر الحرم: فهو لا يختص ببقعة ولكنه مؤقت بوقت في أرجاء الدنيا، وهذا الوقت هي الأشهر الحرم -ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب- فهذه لا علاقة لها بالبقعة، والخلاف فيها أكثر من الخلاف في المسألة الأولى وهي مسألة القتال في الحرم، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذا.

قال المؤلف: يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- قتاله أهلها يوم فتح مكة، يلاحظ أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وهنا يقول: إن مكة فتحت بالقوة عام الفتح، وهذه مسألة فيها خلاف كثير جداً بين أهل العلم وتترتب عليها مسائل من قضية القتال في مكة، ومسائل تتعلق ببيوت مكة وأرضها، وهل دخلها النبي ﷺ صلحاً أو فتحها بالقوة والقهر، وهذه المسائل مبسوطة في كتب الفقه، والقول بأنها فتحت بالقوة أو فتحت صلحاً يترتب عليه أحكام، والأقرب من كلام أهل العلم أنها فتحت بالقوة، وحصل يوم الفتح قتال بعض النواحي مع بعض فلول المشركين ولكنه قليل، وقتل منهم من قتل، وفر من فرَّ.

يقول: وقتلت رجال منهم عند الخندمة، الخندمة تطلق على محال واسعة، ويمكن أن يراد بها جبال مكة الشرقية إلى ناحية الشمال قليلاً ابتداء من جبل أبي قبيس إلى جبل ثبير، وجبل ثبير كان يقول المشركون فيه وهم في منى: أشرق ثبير كي ما نغير، أي لأجل أن يذهبوا إلى عرفة. 

فالمقصود أن الخندمة تدخل فيها هذه المناطق كلها، ومنها المناطق التي لم يكن الناس يأتونها في السابق مثل: محبس الجن، وتدخل فيها منطقة الملاوي والروضة والعزيزية، ومن جهة الشمال قليلاً يدخل فيها شعب عامر، وفيها الأبيات المعروفة لحماس ابن قيس لما كان يعد امرأته دائما ويقول لها: سأُخدِمُك بنات محمد، فلما حصل الفتح جاءها فارًّا يطرق بابه، ويطلب منها أن تفتح مع أنه كان يقول لها: لا تفتحي لي الباب إذا انهزمت، فجاء فاراً ذلك اليوم، فقالت: أين ما كنت؟ وكان يبحث عن مكان يختبئ فيه، فقال لها:

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة
لهم نهيت خلفنا وغمغمة لم تنطقي باللوم أدنى كلمة
وقوله تعالى: حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:191] يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي ﷺ أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ.

من هم الأحابيش؟

لما يتكلم أهل السير عن غزوة أحد يقولون: جاءت قريش، وجاء أهل تهامة ومن معهم من الأحابيش، وتهامة معروفة وأما الأحابيش فهم بطون من العرب أو قبائل حول مكة ليسوا من قريش مثل: بني الهون وبني المصطلق من خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناة وأمثال هؤلاء يقال لهم: الأحابيش، وقيل لهم ذلك بناء على حلف حصل بين هذه القبائل -قبائل من كنانة ومن خزاعة أو بطون من كنانة وخزاعة- يقال: إنهم تحالفوا عند وادٍ من الأودية يقال له الأحبش فنسبوا إليه، ويقال: إنهم تحالفوا عند جبل قريب من عرنة بجوار عرفة، يقال له: حُبْشِي فنسبوا إليه.

ثم كفَّ الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [سورة الفتح:24]، وقال: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الفتح:25]، وقوله: فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:192] أي فإن تركوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه.

لَوْ تَزَيَّلُوا [سورة الفتح:25] يعني لو تميز المسلمون من الكفار في مكة لسلط الله على أهل مكة أصحاب الحديبية فهم جيش متكامل، لكن لما كان يوجد في أهل مكة مسلمون حبس الله نبيه ﷺ عن دخول مكة لئلا يحصل ضرر على هؤلاء المسلمين المستضعفين بين أهل مكة فقد يحصل فيهم جراح أو قتل، فأين هذا من فعل بعض الجهلة الذين يقتلون من لم يخوَّلوا بقتلهم أصلاً بل وفيهم من فيهم من المسلمين؟! فالله حبس رسوله ﷺ ومن معه وهم خيار أهل الأرض، من أجل عدد قليل في مكة كانوا على الإسلام مع أن أهل مكة كانوا محاربين، ، فأين هذا من قول من يقول: إن هؤلاء يقتلون تبعاً؟!

ثم أمر الله بقتال الكفار: حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193]، أي شرك، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم.

وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ [سورة البقرة:193]: أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[5]، وفي الصحيحين: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله[6].

وقوله تعالى: فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193] يقول تعالى: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: ألا يقاتل إلا من قاتل، أو يكون تقديره فإن انتهوا فقد تخلصوا من الظلم، وهو: الشرك، فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة.

ذكر ههنا معنيين في قوله: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193]: الأول: فَإِنِ انتَهَواْ يعني إن انتهوا عما أوجب قتالهم فإن قتالهم في هذه الحالة ظلم؛ حيث قال: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193]: يعني قاتلوهم إلى هذه الغاية حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193]، فإن حصل منهم كف عن الشرك فلا يجوز لأحد أن يقاتلهم، فمن قاتلهم فهو ظالم معتدٍ.

والمعنى الثاني: فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193​​​​​​​]: يعني أنكم مأمورون بالكف عنهم إلا من تعدى وظلم منهم، من حصل منه عدوان وظلم فإنه يكف ظلمه وعدوانه، وربما كان هذا هو الأقرب والمتبادر، والمناسب للسياق، والله أعلم.

والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194​​​​​​​]، وقوله: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، وقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126].

قوله: فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ: هؤلاء المسلمون يقاتلون المشركين بحق ومع ذلك سمى هذا الفعل عدواناً، فكيف سماه عدواناً؟ بعض أهل العلم يقول: هذا من قبيل المشاكلة، وهي نوع من المجاز عند كثير من أهل اللغة، فقوله: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  [سورة البقرة:193​​​​​​​]، قال: لأنهم اعتدوا سمي القصاص منهم بالاسم الذي استوجبوا به هذا القصاص، ومثل ذلك قوله تعالى: فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194​​​​​​​]، مع أن فعل هذا الإنسان الذي يكف الشر والعدوان لا يكون معتديًّا بالمعنى المعروف، أي أن صاحبه متعدّ ظالم، وإنما هو يقوم بالعدل، لكن سماه عدواناً في مقابل فعلهم، كما قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، فهذا المقتص فعله ليس سيئة.

وعلى كل حال بغض النظر عن نوع هذه التسمية هل هي من قبيل المشاكلة أو لا، فإننا إذا أردنا أن نفحص هذه الألفاظ في مثل قوله: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193​​​​​​​]، نجد أن هذا الإنسان له حق وله حد وله حرمة، فإن حصل منه تجاوز فإن ذلك الحق يسقط، وحرمة دمه إن كان قد أصاب دماً حراماً ترتفع، فيجوز أن ينال منه بقدر ما فعل، فبهذا الاعتبار يمكن أن يقال له: عدوان، لكنه عدوان بحق.

قوله: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [سورة الشورى:40]، السيئة إنما سميت سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها، هي مما يُستاء منه، فمن أساء لقي ما يسوءه، وليس معنى ذلك أن من صدر منه عقوبة للمسيءفإن ذلك يكون سيئة في حظه وميزانه عند الله ، فليس هذا هو المراد، ولكن المراد أن هذا الفعل الذي صدر منه بالنسبة إلى ذلك المعاقب يعتبر سيئة، أي أنه يسوء ذلك المعتدي، والله أعلم.

ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، وروى البخاري تحت قوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ الآية [سورة البقرة:193​​​​​​​].

هذا يمكن أن يكون وجهاً ثالثاً، فالأول: لا عدوان إلا على من اعتدى على هؤلاء الذين كفوا عن الكفر، والثاني: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193​​​​​​​] أي: لا عدوان إلا على من حصل تجاوز منهم وظلم، والثالث: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:193​​​​​​​] أي إلا على الكافرين، فهؤلاء قد تركوا الكفر فإذن قتالهم ليس عدواناً عليهم؛ لأن النبي ﷺ يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام[7].

عن نافع عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: ..

بعض العلماء يسمونها فتنة ابن الزبير، ونجد هذا أيضاً في كلام ابن كثير وجماعة، وهم يقولون: فتنة ابن الزبير مع أن ابن الزبير صارت له الحجاز والعراق وخراسان ومصر، ولم يبق لبني أمية إلا الشام فقط، حتى إنه لما مات يزيد جاء قائد الجيش الذي كان يحاصر ابن الزبير في مكة من أهل الشام واسمه إبراهيم وذلك قبل الحجاج، جاء وطلب ابن الزبير وجلس معه، وقال له: معي وجوه الناس وأشرافهم، لا يختلف عليك رجل واحد منهم وأنت أحق بهذا الأمر، لكنه طلب منه أمراً وهو أن يعاهدهم على العفو ولا يحصل قتل لأحد ولا أخذ لأحد منهم، وإن كانوا قد حاصروا الكعبة ووضعوا المنجنيق على جبل أبي قبيس، وتخرقت الكعبة. 

فالمقصود أنه طلب منه أن يكف عنهم على أن يبايع له أهل الشام الذين بقوا فقط، فأبى ابن الزبير أن يعطيه شيئاً، فغضب الرجل وتكلم بكلام لا يليق في حق ابن الزبير وذهب، ثم إن مروان أيضاً كان يرى أن ابن الزبير أحق منه بمسافة، فليس هناك مقارنة بين مروان وبين ابن الزبير، وأراد أن يخرج من دمشق ويترك الأمر لابن الزبير فهو أحق منه بهذا، فجاء بعض من كلمه وأغراه أن يأخذ الخلافة فرجع، ولم يمكث طويلاً حتى مات، ثم جاء عبد الملك وحصل ما حصل.

عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي ﷺ."

هم يسمونها فتنة ابن الزبير؛ لأن الأمر لم يستقر له.

فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: أولم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193​​​​​​​]، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.

أي أنه كان يقول له: يا ابن عمر إن الناس يتقاتلون وتوجد مفاسد عظيمة حيث إن الأمة تفرقت وكذا، وكذا وأنت أحق الناس بالخلافة ممن جعلهم عمر بعده، وهو فعلاً كان بمنزلة يستحق معها الخلافة بعد أبيه، فهو في مقياس عمر، ومع ذلك لما تأخر الزمان وحصل ما حصل كانوا يقولون له: هذا وقتك، أنت أحق بهذا الأمر، والله يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193​​​​​​​]، والآن الأمة تعيش في فتنة تمزق، ولا يوجد أحد يدانيك فأبى ذلك.

وزاد عثمان بن صالح: أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: "يا ابن أخي بني الإسلام على خمس الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت"، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [سورة الحجرات:9]، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193]، قال: فعلنا على عهد رسول الله ﷺ وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن يعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله ﷺ وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون.

قوله: أما عثمان فكان الله عفا عنه، أي عفا عنه الله حيث يقول النبي ﷺ عنه: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[8]، يعني بعدما جهز جيش العسرة.

وقوله: وأما علي فابن عم رسول الله ﷺ وختنه، يعني زوج ابنته.

وهذا الجواب الذي أجاب به ابن عمر جواب في غاية الاعتدال والصواب، فهؤلاء دخلوا في هذه المشكلات، فهم يريدون من الآخرين إما أن يكونوا معنا أو ضدنا، فكانوا يمتحنون الناس بهؤلاء الأشخاص، فابن عمر قال: هؤلاء كلهم من أهل الفضل والصلاح والخير والإمامة في الدين، ولا نقول فيهم إلا خيراً، أي أنه لا يلزمنا إذا أحببنا هذا أن نعادي الآخر، ولكن النفوس إذا تصحرت واعتلجت الفتنة في قلوب الكثيرين لا يحتملون هذا ولا يفهمونه، فتجد الواحد منهم إما أن يحب هذا حباً غالياً ويبغض الآخر بغضاً متناهياً أو العكس. 

ولذلك تجد أن مثل هؤلاء يقع منهم السب والشتم واللعن، بل ربما وصل الأمر إلى حد الرمي بالكفر، فالخوارج كفروا عليًّا وكفروا أهل الشام، وكثير من أهل الشام كانوا يلعنون علياً ومن معه من جيش أهل العراق ويدعون عليهم في القنوت، وأهل الشام وأهل العراق كانوا أيضاً يقنتون على الطائفة الأخرى، ووجدت فرقة جديدة أيضاً غير الخوارج والشيعة، وهذه الفرقة هي أقرب ما تكون بالفرقة السياسية وهي الناصبة، وهذه الفرقة انتهت بذهاب دولة بني أمية.

فالمقصود أن مثل هذه الردود والأجوبة كجواب ابن عمر هي التي تكون لأهل الدين والتجرد من الهوى ممن لم ينغمس في فتنة.

وقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194]، قال عكرمة عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم لما سار رسول الله ﷺ معتمراً في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194].

معناها بهذا الاعتبار أنهم منعوا النبي ﷺ من دخولها في ذي القعدة، وهو شهر حرام، فدخلها النبي ﷺ في ذي القعدة من السنة التي بعدها معتمراً -عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]، الحرمات: جمع حرمة، وهي كل ما حرم الشارع انتهاكه.

وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: "لم يكن رسول الله ﷺ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وتغزوا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ". هذا إسناد صحيح.

يعني أنه لم يكن يبدأ بالغزو، فإذا دخل الشهر الحرام مكث في المدينة، لكنه إذا غزي فإنه لا يبقى متفرجاً، ومن المعلوم أن النبي ﷺ لما فتح مكة عام الفتح في رمضان، تجمعت هوازن ومن معها، حتى جاءوا إلى وادي حنين بين مكة والطائف فخرج إليهم النبي ﷺ في شوال، ووقع القتال والحصار لأهل الطائف في ذي القعدة، أي أن قتالهم كان في الشهر الحرام، ولكن من الذي بدأ ومن الذي جهز ومن الذي جيش الجيوش؟ الذين بدءوا هم أهل الطائف.

ولهذا لما بلغ النبي ﷺ وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين، بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة.

وهذا كان في شهر ذي القعدة، حيث إنه لما بعثه ﷺ ليتفاوض مع المشركين جاءت إشاعة أن عثمان قد قتل، فبايع أصحابه، فبعضهم يقول: بايع على القتال وألا يفروا، وهذا عليه كثير من المحققين، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [سورة الفتح:18]، فهم عزموا على قتال المشركين، رداً على هذا الإجرام والاعتداء وهو قتل السفراء، فالسفراء ما كانوا يقتلون لا في جاهلية ولا في إسلام، ولهذا قال النبي ﷺ لوفد مسيلمة الكذاب: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما[9]، حيث قال وفد مسيلمة للنبي ﷺ: إن مسيلمة يقول: أنا نبي وأنت نبي، والله خلق الأرض وجعلها نصفين، فجعل نصفها لك ونصفها لي، فغضب النبي ﷺ من هؤلاء وقال لهم هذا القول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.

وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.

وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلُّهم بالطائف عدل إليها فحاصرها، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق، استمر عليها إلى كمال أربعين يوماً، كما ثبت في الصحيحين عن أنس فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها، ولم تفتح، ثم كرَّ راجعاً إلى مكة، واعتمر من الجعرَّانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان -صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، أمرٌ بالعدل حتى في المشركين كما قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126].

وقوله: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] أمرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.

قال أهل العلم في قوله تعالى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ: لما صدَّ المشركون نبي الله ﷺ عن البيت كان القصاص منهم وفق المعاهدة أن يدخلها في نفس الوقت بعد عام.

إلا أن ظاهر الآية أعم من ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في أبواب الجوية - باب إثم الغادر للبر والفاجر (3017) (ج 3 / ص 1164) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) (ج 2 / ص 986).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة (1780) (ج 3 / ص 1405).
  3. سبق تخريجه.
  4. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب حجة الوادع (4144) (ج 4 / ص 1599) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد – باب: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:171] (7020) (ج 6 / ص 2714) ومسلم في كتاب الإمارة - باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1904) (ج 3 / ص 1512).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي ﷺ إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله (2786) (ج 3 / ص 1077) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي ﷺ وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها ووكلت سريرته إلى الله تعالى وقتالِ من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام واهتمام الإمام بشعائر الإسلام (21) (ج 1 / ص 52).
  7. سبق تخريجه. 
  8. أخرجه الترمذي في كتاب المناقب - باب في مناقب عثمان بن عفان (3701) (ج 5 / ص 626) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2920).
  9. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في الرسل (2761) (ج 2 / ص 92) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2399).

مواد ذات صلة