الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية 4 إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} الآية 8
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 2793
مرات الإستماع: 2606

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً ۝ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ۝ ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ۝ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ۝ عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [سورة الإسراء:4-8].

يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي تَقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علواً كبيراً، أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، كقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [سورة الحجر:66] أي: تقدمنا إليه، وأخبرناه بذلك، وأعلمناه به.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ: قوله: وَقَضَيْنَا هذه الكلمة أو الفعل، أو المادة، مادة القضاء تأتي بمعنى الإعلام، وتأتي بمعنى الإحكام للشيء، والفراغ منه، ومعانيها الفرعية متعددة، قضينا، القضاء يأتي بمعنى الحكم، تقول: قضى بين الخصوم، ويقول الله : فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [سورة البقرة: 200] يعني فرغتم منها، وتقول: قضاء الفائتة، يراد به الفعل، الصلاة خارج الوقت.

وقوله: وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بناءً على الاختلاف في المعنى اللغوي اختلف المفسرون، ما معنى وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فهنا يقول: يخبر أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب، فهنا فسر القضاء وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بمعنى الإعلام، أعلمناهم.

ومن أهل العلم -كابن جرير -رحمه الله- مَن قال: وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: فرغنا إليهم، يعني بإعلامهم، وإخبارهم -عن طريق كتابهم الذي أنزلناه على موسى ﷺ أن ما ذكر سيقع لا محالة، وكلمة ”قضى“ يمكن أن تكون مضمنة معنى الإيحاء، ولذلك عُديت بـ”إلى“، بمعنى أوحى إليه، وإذا أردت الفصل بين الخصوم تقول: قضى بين الخصوم، وهكذا كل معنىً بحسبه.

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم“ وهو التوراة، وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وبعضهم يقول: المقصود فِي الْكِتَابِ يعني: اللوح المحفوظ، أي أن الله قدر ذلك عليهم أزلاً، والأول هو الأقرب؛ لأنه يتحدث عن بني إسرائيل وحينما يذكر الكتاب في مثل هذا المقام فهو الكتاب الذي أنزل عليهم، والله أعلم.

وقوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا أي: أولى الإفسادتين، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد، أي قوة وعدة وسلطنة شديدة، فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي بينها ووسطها، فانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً، وكان وعداً مفعولاً.

وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلَّطين عليهم من هم؟

قول الله -تبارك وتعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، هذه الأرض قيل: هي أرض الشام، وقيل: بيت المقدس، وبعضهم يقول: هي مصر وهذا بعيد، والإفساد المعروف الذي حصل منهم كان في الشام أو في بيت المقدس؛ لأنه مكان وجودهم.

وقوله -تبارك وتعالى: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، ليس هناك شيء يمكن أن يعتمد عليه في هاتين الإفسادتين متى كانتا؟ ومتى كانت إدالة عدوهم عليهم؟ وكل ما يذكر في هذا الباب مرجعه إلى الأخبار الإسرائيلية، ومثل هذه الأخبار لا يعول عليها، ولذلك تجد بينها من الاختلاف والمنافاة الشيء الكثير.

وبعضهم يقول: إن الإفسادة الأولى هي بقتل أشعيا، وبعضهم يقول: حبس أرميا، وبعضهم يقول: مخالفة أحكام التوراة، وبعضهم يقول: قتل زكريا -عليه الصلاة والسلام، والثانية: بعضهم يقول: بقتل يحيى، ومحاولة قتل عيسى -عليه الصلاة والسلام، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ۝ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، يقول: ”أي سلّطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد“، ولا يوجد ما يعتمد عليه في معرفة من سُلطوا عليهم، بعضهم يقول: سلط عليهم في المرة الأولى بُخْتُنَصَّر، وبعضهم يقول: جالوت، وبعضهم يقول: جند من فارس، وبعضهم يقول: جند من بابل، -والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: الأولى جالوت، والثانية بُخْتُنَصَّر، وبعضهم يقول: في الأولى ملك يقال له: سنحريب من ملوك العراق الأقوياء، ومعرفة مثل هذا لا يترتب عليه شيء، فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ يعني أولى الإفسادتين المذكورتين اللتين قضاهما الله على بني إسرائيل، فيعاقبهم بتسليط عدوهم عليهم وإدالته عليهم، فاستباح بلادهم وقتل نفوساً كثيرة، وخرب البلاد وأخذ الأموال، كل هذا قد وقع، لكن لا يدرى على يد من كان؟ -الله أعلم.

والمفسرون يطبقون على أن هاتين الإفسادتين قد وقعتا، وأن هذه العقوبات قد نزلت، وسلط الله عليهم من سلط من جنده، أو من خلقه فعثوا بهم فساداً، وخربوا ملكهم، كل هذا قد وقع، ولا حاجة إلى ما يقوله بعض الناس اليوم: إن الإفسادة الثانية لم تقع، وأنها هي التي وقعت الآن، يعني لم تقع في القديم، والمفسرون مطبقون على أن ذلك قد وقع.

لكن الله قال بعد ذلك: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا، والمفسرون يقولون: إنهم قد عادوا في زمن النبي ﷺ بنقض العهود وبتكذيبه -عليه الصلاة والسلام، وبمحاولة قتله، فسلط الله عليهم نبيه ﷺ ومن معه من أهل الإيمان، فوقع ما وقع لقريظة والنضير وقينقاع وأهل خيبر، فهؤلاء يقولون: هذه هي المرة الثالثة، وهذا الوعد مفتوح وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا، والله حكَمٌ عدْلٌ، ويقول: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران: 165]، فما يُسلط هؤلاء الأراذل على المسلمين إلا بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في حق الله .

وقوله: فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ يقول: ”أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم أي بينها، فانصرفوا ذاهبين“، إلى آخره، هذا المعنى هو الذي عليه عامة المفسرين، والجوس يأتي بمعنى طلب الشيء باستقصاء، وفي قراءة لابن عباس فحاسوا يقال: جاسوا وحاسوا وهاسوا، كل ذلك بمعنى واحد، جاسوا خلال الديار، والمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير يشمل أقوالاً عدة، قال: تملكوا بلادكم، وسلكوا خلال بيوتكم، وانصرفوا ذاهبين، هذه معانٍ ذكرها المفسرون.

فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ بمعنى أنهم تمكنوا منها، ودخلوا فيها، حتى تمكنوا وصاروا يذهبون ويجيئون، ويتخللون البيوت والأحياء والطرقات ذاهبين وراجعين لا يخافون، بمعنى حصل لهم التمكن، وأصل المعنى: طلب الشيء باستقصاء، فإنهم بذلك كما قال بعض المفسرين: صاروا يطلبون من يخالفهم ومن يقف في وجوههم، أو يتطلبون النفوس بقتلها، يذهبون ويرجعون، يقتلون الناس وينهبون الأموال ويخربون ما وجدوه، والألفاظ القرآنية مهما وضعت من الألفاظ مكانها فإنها لا تؤدي معناها، يعني لو كانت مكان هذه اللفظة فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ، لو قال مثلاً: فجاسوا، فتغلغلوا خلال الديار، أو جعلوا يذهبون ويرجعون، أو تمكنوا لما أدت المعنى المراد، ويمكن تصور هذا المعنى بتصور المحتل حينما يتغلغل ويتمكن في البلد، وتنتشر جنوده بين البيوت وفي الطرقات، وفي كل مكان يذهبون ويجيئون، فهذا معنى فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ.

وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أرَ تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع، مِن وضْع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً، ونحن في غُنْية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غُنْية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا، سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاءً وفاقاً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة فصلت:46]، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء، وقد روى ابن جرير عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بُخْتُنَصَّر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كِبًا، فسألهم، ما هذا الدم؟

على كِبًا: يعني على كناسة.

فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر.

يعني مهما وضع عليه من الكناسة يظهر ويعلوها.

قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم، فسكن، وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ منهم خلقاً كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته، والله أعلم.

ثم قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا أي: فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.

الخطاب في قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ، يحتمل أنه متصل بما قبله، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، فيقول لهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ فيكون الخطاب موجهاً إلى أولئك الذين وقع منهم الإفساد، ويحتمل أن يكون موجهاً لأحفادهم ممن عاصر النبي ﷺ، ويحتمل أن يكون موجهاً للمخاطبين بالقرآن، وبعضهم يقول: للعرب من المشركين الكفار، ويمكن أن يحمل على العموم، وما قبله وما بعده في بني إسرائيل، والله تعالى أعلم.

وقوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: الكرّة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرّة الثانية وجاء أعداؤكم، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ أي: يهينوكم ويقهروكم، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي: بيت المقدس، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار، وَلِيُتَبِّرُوا أي: يدمروا ويخربوا، مَا عَلَوْا أي: ما ظهروا عليه، تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي: فيصرفهم عنكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا أي: متى عدتم إلى الإفساد، عُدْنَا إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً أي: مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد لهم عنه، قال ابن عباس -ا: حصيراً أي سجناً، وقال مجاهد: يحصرون فيها، وكذا قال غيره، وقال الحسن: فراشاً ومهاداً، وقال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحيَّ -محمداً ﷺ وأصحابَه، يأخذون منهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

قوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جواب ”إذا“ محذوف تقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، وقوله -تبارك وتعالى: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ يقول ابن كثير -رحمه الله: ”أي يهينوكم ويقهروكم“، هذا تفسير بالمعنى، والمعنى الأدق من هذا يمكن أن يكون هكذا لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ يعني: ليفعلوا بكم ما تحصل به المساءة لكم مما يظهر أثره في وجوهكم، فالإنسان يظهر على وجهه الأثر الذي يقع عليه، فالوجه مرآة، يعكس ما في داخل الإنسان من هم أو خوف أو ظلمة قلب، أو غير ذلك من المعاني والأحوال.

فالشاهد لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ يعني: ليفعلوا بكم ما يحصل به مساءتكم، فيظهر أثر ذلك على وجوهكم، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ، قال: ”أي يهينوكم ويقهروكم“، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ أي: يدمروا ويخربوا، مَا عَلَوْاْ أي: ما ظهروا عليه تَتْبِيرًا، قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ، وعسى من الله واجبة، أي متحققة الوقوع، فأدالهم الله على عدوهم وأظهرهم عليه، قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدالة عليكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا عامة المفسرين يقولون: إن ذلك قد وقع في زمان النبي ﷺ.

وفي قوله هنا: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ في قراءة لأبيّ {لَنسوءنْ وجوهكم} يكون من فعل الله ، وفي قراءة متواترة لحمزة وابن عامر {ليسوء}، وفي قراءة للكسائي {لنسوء} كل ذلك من فعل الله ، وبعضهم يفسر الوجوه بالأشراف والسادة، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ كما قال الله : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [سورة النمل:34] وهم وجوه الناس، وهذا المعنى بعيد؛ لأنه خلاف الظاهر المتبادر من القرآن.

وقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا، ذكر المعنيين، المعنى الأول: أنها تحصرهم، وإذا كانت تحصرهم يلزم من ذلك أن تكون سجناً لهم، فمن فسره بالسجن فهذا تفسير باللازم، فجهنم تحصرهم وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [سورة الفرقان:13].

والمعنى الثاني: هو ما نقله عن الحسن قال: ”فراشاً ومهاداً“، فسر هنا حصيرًا بالحصير الذي يُفرش ويُجلس عليه، والله قال: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، فيمكن أن يفسر الحصير هنا بهذا المعنى، فالمعنيان كلاهما تحتمله هذه اللفظة، ويمكن أن يفسر بهما فيقال: جهنم تكون سجنًا لهم، لا يستطيعون الخلاص، ولا الخروج منها، وتكون كذلك أيضًا فراشًا ومهادًا.

مواد ذات صلة