بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [سورة البقرة:196] أي صُددتم عن الوصول إلى البيت، ومُنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: بلغنا أن عمر قال في قول الله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]: من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197].
وقال السدي في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]: أي أقيموا الحج والعمرة، وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس -، أنه قال: الحج عرفة والعمرة الطواف.
وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، قال: قراءة عبد الله، وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت، قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة: أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وكذا روى الثوري أيضاً عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسبق الكلام على أول هذه الآية، وأن أرجح الأقوال في المراد بالإتمام: هو أن يكمل أعمال الحج والعمرة إذا دخل في واحد منهما؛ وذلك أن الإنسان لا يسعه بحال من الأحوال أن يرفض الإحرام، إلا إذا أحصر فقد جعل الله له مخرجاً، ولهذا قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، فذلك قاطع للإتمام الذي أمر الله به.
وعبارة من قال: إن الحج عرفة وبإتمامه يتم الحج، وإن العمرة لله والعمرة الطواف بالبيت، فذلك باعتبار أن العمرة لا يجاوز بها البيت، بحيث إنه لا يطلب أن يأتي الجمار إلى منى أو إلى مزدلفة أو إلى عرفة أو نحو ذلك، وأما الحج فإن ركنه الأكبر هو الوقوف بعرفة، هذا هو معنى قول من قال: إن الحج عرفة والعمرة الطواف، وليس معنى ذلك أنه إذا طاف فإنه قد أتى بما طلب منه وأتم العمرة، ولكن الطواف هو أصل في العمرة، والعلماء يختلفون في السعي كما هو معروف ما لا يختلفون في الطواف، فإذا جاء البيت وطاف به فإن ذلك قد حصل به معنى الزيارة التي أخذ منها اسم العمرة التي هي الزيارة لبيت الله على وجه القربة والنسك على وجه مخصوص، ثم عليه أن يطوف وأن يقصر أو يحلق.
وكذلك في الحج فإنه إذا وقف بعرفة فليس معنى ذلك أن هذا منتهاه، بل بقي عليه المزدلفة والجمار والبقاء في منى، إلى غير ذلك من طواف الإفاضة الذي هو ركن من أركان الحج، وكذلك السعي إن كان لم يسعَ سعي الحج.
الذين تأخروا وتباطئوا في الحلق لم يكن تباطؤهم ذلك اعتراضاً منهم على حكم رسول الله ﷺ وإنما كما ذكر المؤلف هنا حيث قال: انتظاراً للنسخ، وإلا فهؤلاء هم خيار الناس، وهم أعظم مبادرة إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله ﷺ لكن المراد أنهم كانوا يؤمّلون بهذه المراجعة والتأخر أن يحصل نسخ، كما حصل في قصة المجادلة حيث إن النبي ﷺ كان يقول لها: ما أراك إلا قد بنتِ منه، وهي لا تزال تراجع النبي ﷺ وهو يرد عليها هذا الكلام مرة بعد مرة حتى أنزل الله حكمه في ذلك، فليس معنى ذلك أنها معترضة على حكم الله وإنما كانت تؤمِّل أن ينزل الله في أمرها شيئاً فيكون فيه مخرج، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة المجادلة:1] الآيات، وإلا فإن الصحابة الكرام يعلمون أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36]، ويعرفون قوله : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، ويقول: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النــور:51]، فليس معنى ذلك أنها أبطأت، أو أن هؤلاء الصحابة أبطئوا اعتراضاً على حكم الشارع، وإنما المقصود: أنهم كانوا يرجون أن ينزل الله غير ذلك.
وقوله ﷺ: رحم الله المحلقين ثلاثاً فهذا القول قاله مرتين، فحمل مرة على إطلاقه وعمومه وذلك في مكة عام الفتح، ومرة في عام الحديبية لما أمرهم بالحلق وكان معناه أنه لن يكون هناك عمرة هذه المرة، فحلق من حلق، وقصر بعضهم أملاً أنه سيكون هناك شيء آخر، فيستطيع حلق ما بقي من شعره في النسك إذا وصل البيت، والله أعلم.
الحديبية منطقة معروفة، جزء منها في الحل وجزء منها في الحرم، وهم كانوا في الناحية التي تلي الحرم من الحل، وكلام أهل العلم في هذا معروف، وهو هل النبي ﷺ قدم هديه إلى منطقة الحرم فنحر فيه، أو أنه نحر في الحل؟، فهذه مسألة معروفة.
مسألة الإحصار مسألة مشهورة، وأشهر ما استدل به من يرى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدوّ لا بالمرض والكسر ونحوه قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... [سورة البقرة:196] الآية، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه قال: أُحْصِرْتُمْفمن أهل العلم من قال: إن هذه الصيغة ليس معناها حبستم أنفسكم، وإنما المقصود وقع الإحصار من غيركم أي: بالعدوّ، فهؤلاء فرَّقوا في الصيغة بين (أحصرتم) وبين (حصرتم)، فيقولون: إن أحصرتم معناه وقع عليكم الإحصار من غيركم.
الثاني: قالوا: إن هذا وقع للنبي ﷺ بحصر العدوّ، وإن هذه الآية لا تنفصل عن سبب وملابسات النزول.
الثالث: أن الله قال بعده: فَإِذَا أَمِنتُمْ [سورة البقرة:196].
هذه ثلاثة أمور هي أشهر ما ذكروا في الاستدلال على أن الحصر يكون بالعدوّ، والأقرب أن الإحصار لا يختص بذلك، وأن هذه المناسبة وإن كان الإحصار فيها بسبب العدوّ إلا أن ذلك لا ينحصر فيه، بل كل ما عاق الإنسان عن الوصول إلى البيت، أو إتمام النسك فإن ذلك يكون من قبيل الإحصار، وللإنسان أن يتحلل بعد أن ينحر هديه أو يذبحه.
قال بعض أهل العلم: إن ذلك ليس بحصر العدوّ فقط، وإنما المقصود حبستم أنفسكم بسبب المرض أو أقمتم بسبب حصر العدوّ لكم، أو نحو ذلك، وممن قال ذلك ابن جرير الطبري -رحمه الله- حيث يرى أن أُحصر، إنما يكون بحبس الإنسان نفسه، كما في قول الله تعالى في الآية الأخرى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] حيث إنك إذا نظرت في كلام ابن جرير في تفسيره لهذه الآية تجده يرد على هؤلاء بقوة، ويقول: ليس ذلك بحصر العدوّ، .. إلى أن قال: ولو كان ذلك بسبب حصر العدوّ ل قال: للفقراء الذين حصروا في سبيل الله.
ومن أهل العلم من يقول: (أُحصر) تأتي لهذا وتأتي لهذا، أي ما يحصل بسبب العدوّ وما يحصل بحبس الإنسان نفسه وإن لم يحبسه غيره، وعلى كل حال فالإحصار يكون بسبب العدوّ وبسبب المرض والكسر وما أشبه ذلك مما إذا وقع للإنسان أعاقه عن الوصول إلى البيت.
مسألة هل يلزم المحصر أن يأتي بنسك آخر بدلاً من الذي أحصر فيه فيها قولان، فالذين يقولون: يجب ذلك يحتجون بأن النبي ﷺ اعتمر من قابل، والذين يقولون: لا يجب ذلك، يقولون: إن الله لم يأمر بذلك وإنما قال سبحانه: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، ويقولون: إن ما وقع للنبي ﷺ لا يعني أنه يجب ذلك، ولم ينقل عن النبي ﷺ أنه أمر كل من خرج معه ممن تحلل أن يعتمروا، وإنما كان ذلك على سبيل المقاصة والاستيفاء، كما قال الله : وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]، فهؤلاء صدوهم عن البيت فكان من عهدهم أن يعتمر المسلمون من قابل، والمسألة على كل حال محلها كتب الفقه.
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة، وفي رواية لأبي داود وابن ماجه من عرج أو كُسر أو مرض[4] فذكر معناه، ورواه ابن أبي حاتم.
ثم قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر، وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني[5] ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله، فصح الاشتراط في الحج لهذا الحديث.
إذا حصل الاشتراط عند الإحرام ولا بد، فله أن يتحلل من غير أن يذبح ولا شيء عليه، لكن المسألة السابقة فيما إذا لم يشترط.
التقدير: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [سورة البقرة:196] فالواجب ما استيسر من الهدي، أو فعليكم ما استيسر من الهدي، وهذا باعتبار أن "ما" في محل رفع، أي فالواجب عليكم ما استيسر من الهدي، ويمكن أن تكون في محل نصب، فيكون التقدير فاذبحوا أو فانحروا ما استيسر من الهدي.
وهذا قول الجمهور؛ لأن الله قال: فَمَا اسْتَيْسَرَ، يعني ما تيسر لك مما يصح أن يقال له: هدي، وأدنى ذلك الشاة، وأعلاه البدنة.
قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ على التفسير الثاني نظر القائل به إلى معنى اللفظة ودلالتها؛ فالمعنى الأول لقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَتدل على ما تهيأ له، وما تيسر له، وما حصل له، فيكون أدنى ذلك شاة.
والقائل بالتفسير الثاني نظر إلى معنى اللفظة ودلالتها؛ فإن اليسار فيه معنى السعة والغنى، وعلى هذا فإن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني أن ذلك لا يكون بأدنى شيء، وإنما بشيء فيه يسار، فإن كان غنياً فبدنة، وإن كان دونه فبقرة، وإن كان دونه فشاة، أي بحسب حاله من الغنى والفقر.
صاحب هذا القول لم ينظر إلى الأنواع باعتبارها بدنة وبقرة وشاة، وإنما نظر إلى الثمن والقيمة، فقال: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي لا يكون ذلك بأدنى ما يصدق عليه هدي بحيث يشتري شاة بثمن بخس؛ لضعفها أو لنوعها أو نحو ذلك وإنما يكون ذلك بالمتوسط.
وعلى كل حال فإن السبب في تعدد هذه الأقوال -والله تعالى أعلم- أنهم نظروا إلى بعض دلالات لفظة "استيسر" مع أن دلالتها الظاهرة المتبادرة هي: ما تيسر وتهيأ له، وأدنى ذلك شاة، ولا شك أن الأفضل والأكمل في الهدي هي البدنة.
الهدي في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي من بهيمة الأنعام، وكذلك الأمر في قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، أي من هذه الأنواع التي ذكرها الله في سورة الأنعام، وكذلك حينما ي قال: المتمتع والقارن عليهما الهدي، فهذا هو المقصود به.
وإذا قيل: الجزاء فإنه يخير فيه أيضاً بين الأمور الثلاثة، فالدم يكون بالبدنة أو بالبقرة أو بالشاة إما وجوباً مثل من جامع في الحج، وإما أن يكون ذلك استحباباً ويجزيه دونه، ومثل ذلك من جامع في العمرة مثلاً فعليه شاة ولو أنه نحر بدنة فإن ذلك أكمل.
ومن قص أظافره أو حلق شعره أو نحو هذا وهو محرِم فإنه يخير بين ثلاثة أمور، إما ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام.
وكذلك من ترك شيئاً من نسكه الواجب كما لو لم يحرم من الميقات مثلاً فإنه ي قال: عليه دم، فإذا ذبح شاة أجزأ، وإذا نحر بدنة فهذا أكمل، وكذلك إذا اشترك بسُبع بدنة في منزلة الشاة، فهو أفضل من الشاة.
نعم، يمكن أن يهدى إلى البيت كسوة للكعبة، ويمكن أن يهدي طعاماً للحجاج، كما أنه يمكن أن يقدم هدياً من الغنم أو الإبل أو البقر وهو في بلده لم يحج كما فعل النبي ﷺ، ويمكن أن يقدم إلى البيت مالاً دراهم أو ذهباً، أو يقدم شراباً للحجاج أو نحو هذا، فكل ما يقدم إلى البيت فإنه يقال له هدي، والله تعالى أعلم.
قولها: أهدى مرة غنماً، هذا قبل حجته حيث بعث بها وهو في المدينة، وهذا يدل على أنه يمكن للإنسان فعل ذلك ولا يلزمه شيء من الإحرام.
وقول بعض السلف: إنه يكون كالمحرم حتى ينحر هديه أو يذبح، فهذا كلام لا دليل عليه، وحديث عائشة في هذا المعنى معروف.
والهدي: جمع هدية، وربما قيل له ذلك؛ لأن مُهديه يتقرب فيه إلى المُهدَى إليه، والإنسان لما يأتي ويهدي لإنسان هدية فإنما يفعل ذلك من أجل استمالته، فالهدية تذهب وَحَرَ الصدر وتفعل في النفوس ما لا يخفى من تحبيب هذا الإنسان، ولذلك جاء في الأثر: تهادوا تحابوا[7].
قوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُتحتمل أن تكون معطوفة على قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ أي كما هي هكذا: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، فإذا قلنا: إنها عائدة إلى قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ، فالمعنى أن من أنشأ حجاً وعمرة فإنه يلتزم محظورات الإحرام، ومن ذلك حلق الشعر، فلا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله.
والعلماء مختلفون في هذه المسألة إلا أن أقرب ذلك وأرجحه هو أن الحلق يكون يوم النحر سواء قدم ذبح هديه أولاً ثم حلق، أو حلق رأسه قبل النحر؛ وذلك أن رجلاً من أصحاب النبي ﷺ سأله عن تقديم وتأخير حصل منهم، فكان في كل مرة يقول –عليه الصلاة والسلام: افعل ولا حرج[8]، فبلوغ الهدي محله يوم النحر، ومن أهل العلم من يقول غير هذا.
وإذا قلنا: إن قوله: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] عائد إلى قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فالمعنى يتغير تماماً، حيث يكون المعنى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، فإن حال دونه حائل فلا يحل لكم أن تحلقوا رءوسكم وتتحللوا حتى يبلغ الهدي محله.
وعلى هذا فقوله: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] قيل: إن دم الإحصار يجب أن يكون في الحرم وبالتالي يجب على المحصر أن ينتظر حتى يُذبح أو ينحر في الحرم فهو محله ولا يجزئ خارج الحرم، وهذا على القول بأن النبي ﷺ قدم هديه فنحر في الحرم من الحديبية.
ومن أهل العلم من يقول: إنه ﷺ نحر هديه خارج الحرم، وبالتالي يقدم المحصر هديه حيث أحصر، فلا يلزمه أن يقدمه في الحرم.
والأقرب أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر، ويفرق على من حضره من الفقراء في المحل الذي نحره فيه، ولا يلزم أن ينقل إلى فقراء الحرم، والله أعلم.
فالمقصود أن ابن جرير -رحمه الله- لا ينازع في أن قوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، عائد إلى قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، فهو يوافق الجمهور في هذا، ومنهم ابن كثير، وإنما يخالف ابن جرير في قضيتين هما:
الأولى: أنه يجب عليه أن يحج من قابل قضاء لهذه الحجة، وإن كان معتمراً فيجب عليه قضاء هذه العمرة، وأن مجرد نحر الهدي أو ذبحه لا يعفيه من حجة أخرى، وإنما ذلك رخص له التحلل من الإحرام فقط، وهذا كلام معروف قال به أئمة، فهي مسألة لم ينفرد بها ابن جرير، وإنما قال بها كثير من أهل العلم.
والمسألة الثانية وهي مسألة خالف فيها عامة أهل العلم: أن ابن جرير في قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] يقول: هذه تتعلق بالمحصر الذي تحلل من إحرامه بالحج، فعليه أن يأتي بعمرة في أشهر الحج القادمة؛ لأنه تحلل ولم يصل إلى البيت حينما أحصر، فيكون بهذه العمرة قد طاف بالبيت وسعى، ثم بعدُ يأتي متى ما تيسر له بحجة يقضي بها حجته الأولى.
فابن جرير يرى أن الدم الذي أهداه ليس دم التمتع المعروف في الأنساك الثلاثة، وإنما هو شيء آخر خاص بالمحصر، مع أن المعروف عند أهل العلم والذي عليه عامتهم أن قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [سورة البقرة:196] يعني التمتع المعروف الذي هو جمع بين الحج والعمرة في سفرة واحدة.
الفراغ ليس المقصود به الفراغ من كل شيء، وإنما إذا جاء من عرفة، ففي يوم النحر يكون الهدي قد بلغ محله، ولا زال عليه طواف الإفاضة، وسعْي الحج إن كان لم يسعَ، وبقى عليه رمي الجمار.
قوله: لبدت رأسي، أي أنهم كانوا يضعون صمغة على الشعر؛ لأن شعورهم كثيرة، وفي السفر يحتاج مدة طويلة في إحرامه، فالشعر ينتفش ويصيبه ما يصيبه من الغبار والأتربة ونحو ذلك، فهو يلبد رأسه بأن يضع عليه صبغة تجعله ثابتاًً مستقراً، وبالتالي فإن من ساق الهدي لا يحل إلى يوم النحر، فلذلك لم يتحلل النبي ﷺ كما تحلل أصحابه بعمرة، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة[10].
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الحلق والتقصير عند الإحلال (1640) (ج 2 / ص 616) ومسلم في كتاب الحج - باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير (1301) (ج 2 / ص 945).
- ذكره الإمام الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار.
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك – باب الإحصار (1862) (ج 1 / ص 575) والترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في الذي يهلُّ بالحج فيكسر أو يعرج (940) (ج 3 / ص 277) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن أحصر بعدو (2860) (ج 5 / ص 198) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب الحصر (3077) (ج 2 / ص 1028) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2497).
- صحيح ابن ماجه في كتاب المناسك - باب الحصر (3078) (ج 2 / ص 1028).
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح – باب الأكفاء في الدين (4801) (ج 5 / ص 1957) ومسلم في كتاب الحج - باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه (1207) (ج 2 / ص 867).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج – باب تقليد الغنم (1614) (ج 2 / ص 609).
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ج 1 / ص 532) وأبو يعلى (ج 11 / ص 9) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3004).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الفتيا على الدابة عند الجمرة (1650) (ج 2 / ص 619) ومسلم في كتاب الحج - باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي (1306) (ج 2 / ص 948).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1491) (ج 2 / ص 568) ومسلم في كتاب الحج - باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد (1229) (ج 2 / ص 902).
- أخرجه أبو داود في كتاب الحج – باب حجة النبي ﷺ (1218) (ج 21 / ص 886).