الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[86] تتمة قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} الآية 196
تاريخ النشر: ٠٧ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4115
مرات الإستماع: 3231

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]: روى البخاري عن عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت عبد الله بن مَعقل، قال: قعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة- فسألته عن فِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ، فقال: حملتُ إلى النبي ﷺ والقملُ يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صُمْ ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة[1].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: أَوْ نُسُكٍ: المقصود بالنسك الذبيحة.

وقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، قد يفهم من ظاهر هذا الحديث أنه يُبدأ أولاً بما ذكر هنا، وأن الثلاثة ليست على التخيير بإطلاق، وإنما فيها ترتيب بين ذبح شاة، فإن لم يجد فعندئذ يخير بين الإطعام والصيام، كما في كفارة اليمين، عتق رقبة، فإن لم يجد فإنه يخير بين الإطعام أو الكسوة، فإن لم يجد فعندئذ يصوم ثلاثة أيام.

فالمقصود أن هذا في فدية الأذى ليس مراداً والله تعالى أعلم، وإنما رتب ذلك النبي ﷺ باعتبار أنه الأفضل مثلاً، ويمكن أن يقال: إنه قدم الصوم باعتبار أنه الأسهل من جهة الكلفة المادية، وذلك أنه يستطيعه الغني والفقير بخلاف الذبح مثلاً أو الصدقة، ويدل على أن هذا على التخيير الروايات الأخرى الواردة في حديث كعب بن عجرة وهي حادثة واحدة لم تتكرر معه، وذلك أن النبي ﷺ خيره، كما في بعض الروايات أنه قال: فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة[2] فإذا جمعت هذا وهذا مع الآية، تبين لك المراد، والله تعالى أعلم.

والخلاصة أنه لا يقال لمن عليه فدية أذى كحلق الشعر أو نحو ذلك: إن عليك أولاً أن تذبح، فإن لم تستطع خيرت بين الإطعام والصيام، بل هو مخير بإطلاق، ولهذا فإنه ينبغي جمع الروايات والنصوص في المعنى الواحد دون أن يعجل الإنسان ويأخذ برواية ويقول: هذا على الترتيب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمره أولاً بالذبح.

وروى الإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: أتى عليّ النبي ﷺ وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -أو قال: حاجبي- فقال: يؤذيك هوام رأسك؟قلت: نعم. قال: فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة، قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ [3].

ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل: فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196] ولما أمَرَ النبي ﷺ كعبَ بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل، فالأفضل، فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام، فكلٌّ حسن في مقامه، ولله الحمد والمنة.

وقوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعاً بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص.

يقول تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يمكن أن تكون "ما" في محل رفع أو تكون في محل نصب، فإن كانت في محل رفع يكون التقدير فعليكم ما استيسر من الهدي، وإن كانت في محل نصب يكون التقدير: فاذبحوا ما استيسر أو نحو ذلك مما يقدر بحيث تكون في محل نصب.

ومن قال بأن "ما" هنا في محل رفع قال: هذا له نظائر في كتاب الله كقوله تعالى في كفارة اليمين: فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة:89] أي فعليه صيام ثلاثة أيام.

وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج.

هذا هو التمتع الخاص، والمقصود به أن يجمع بين الحج والعمرة في سفرة واحدة، وهذا الذي فسر به عامة أهل العلم قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، إلا أن ابن جرير -رحمه الله- يفسرها بغير هذا، فهو يقول: إن قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ هذه في المحصر وليست في التمتع الخاص المعروف الذي هو أحد الأنساك الثلاثة، ويقول: فإنه إذا اعتمر في أشهر الحج التي تأتي فإنه يستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج فعليه ما استيسر من الهدي، هذه عمرة يأتي بها المحصر الذي لم يستطع الوصول إلى البيت إذا أمن.

وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقول: تمتع رسول الله ﷺ، وآخر يقول: قرن، ولا خلاف أنّه ساق الهدي.

نعم فالقارن يجب عليه الهدي؛ لأنه جمع بين الحج والعمرة بسفرة واحدة مع أنه لم يحصل له إحلال ولا تمتع، والآية تقول: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] وذلك أنه يتمتع بإحلاله فيفعل كل ما كان محظوراً عليه فعْله، فالقارن أيضاً عليه هدي باعتبار أنه جاء بالعمرة مع الحج، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم خلافاً للظاهرية الذين قالوا: إن هذا لم يرد عليه دليل وهو قياس على التمتع، والقياس أصلاً لا يصح عندهم.

وقال تعالى: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله ﷺ ذبح عن نسائه البقر.

على كلام ابن كثير هنا تكون "ما" في محل نصب، أي: فليذبح ما استيسر من الهدي.

وقال الأوزاعي: "عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذبح بقرة عن نسائه وكنَّ متمتعات" رواه أبو بكر بن مَرْدويه.

وجاء في بعض الروايات: "ضحى عن نسائه بالبقر"[4] ففهم منه بعض أهل العلم أن الحاج يضحي أيضاً إضافة إلى الهدي، ولكن الروايات يفسر بعضها بعضاً، فالمقصود بأنه ضحى عن نسائه في الرواية المشهورة أن ذلك كان في الحج، فهو من قبيل الهدي لا الأضحية، وبالتالي فإن الحاج حقه الهدي وليس عليه أضحية، لكن لو أنه ترك أهله في البلد وترك عندهم أضحية فهذا لا إشكال فيه، لكن الكلام فيه هو هل يضحي أم أنه ليس مطالباً بذلك وإنما يكتفي بالهدي؟

وفي هذا دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين -ا- قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله ﷺ ولم ينزل قرآن يُحَرّمها، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات، قال رجل بِرَأيه ما شاء، قال البخاري: يقال: إنه عُمَر -.

سبق الكلام في الدرس الماضي لماذا عمر نهى عن التمتع، وأن ذلك كان من قبيل السياسة الشرعية رعاية لمصلحة تتصل بالبيت، وذلك أنه كره أن يهجر البيت سائر العام، أي حتى لا يأتي الناس بالعمرة والحج في سفرة واحدة أيام الحج فقط ويخلو البيت من المعتمرين في سائر السنة، فهو طالبهم أن يأتوا أثناء العام بالعمرة.

وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول: "إن نأخذ بكتاب الله يأمر بالتمام، يعني قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196] وفي نفس الأمر لم يكن عمر ينهى عنها محرِّماً لها، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين، كما قد صرح به -.

وقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196] يقول تعالى: فمن لم يجد هدياً فَلْيصُمْ ثلاثة أيام في الحج، أي: في أيام المناسك.

وقال العوفي: عن ابن عباس -ا: إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة.

لم يجده بمعنى أنه لم يجد الثمن، أو أنه لم يجد الهدي إذا عدم مثلاً بحيث لم يقف على شيء منه، هذا هو المراد بقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196].

إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.

قوله: صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، بمعنى أنه لا يبدأ بها يوم عرفة، وليس المقصود أن يوم عرفة غير داخل فيها، وإنما يبتدئ هذه الأيام الثلاثة قبل عرفة.

والعلماء لهم كلام كثير في مسألة متى يبتدئ هذه الأيام الثلاثة، وهل له أن يصوم هذه الأيام الثلاثة بمجرد الإحرام الأول الذي وقع منه، كأن يكون أحرم بالتمتع مثلاً في اليوم الأول من ذي الحجة ثم لما تحلل من العمرة له أن يصوم بإحلاله هذا؟ أم أنه يجب أن يصوم إذا لبى بالحج؟ وهذا الكلام بخلاف ما إذا كان قد جاء مفرداً أو قارناً فهو محرم بالحج لم يتحلل من الإحرام، فله أن يصوم حتى وإن جاء يوم الخامس عشر من ذي القعدة؛ لأنه محرم بالحج، لكن الإشكال فيما إذا جاء متمتعاً فتحلل، متى يصوم؟

يقول: يحرم بالحج ويصوم قبل يوم عرفة، فإذا أحرم يوم الرابع من ذي الحجة فله أن يصوم مثلاً يوم خمسة وستة وسبعة، أو يصوم يوم سبعة وثمانية وتسعة، ومن المعلوم أنه يحرم بالاتفاق صيام يوم النحر، وأما ما يتعلق بأيام التشريق فالراجح أنه يحرم صيامها إلا لمن لم يجد الهدي، لكنه لا يؤخر الصوم على الأرجح إلى أيام التشريق إلا إن اضطر لذلك، كأن يكون هذا الإنسان مثلاً مرض ولم يستطع الصوم إلا في أيام التشريق فإنه يصومها، أو أن يكون هذا الحاج لم يفقد ماله إلا يوم العيد، فهذا ليس أمامه إلا أن يصوم أيام التشريق، فيرخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم هذه الأيام الثلاثة، والمقصود أن صيام هذه الأيام لمن لم يجد الهدي مأمور بها على التفريق، فلا يصوم الأيام العشرة سرداً في الحج.

والعلماء لهم كلام في هذه الصورة الثانية وهي فيمن لم يتمكن من صيامها إلا في أيام التشريق، هل يصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؟ وهل له أن يصوم الباقي معها على أن المراد بقوله: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى رحالكم، أم أن المقصود إذا رجعتم إلى بلادكم؟

فمن قال من العلماء: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ أي رجعتم إلى رحالكم يعني من منى، يقول: يصح له أن يسرد الصوم عشرة أيام؛ لأنه رجع من منى، ومن فسره بأن المراد إذا رجعتم يعني إلى أهلكم -وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم- فإنه لا يسردها، وإنما يصوم السبعة الباقية إذا رجع إلى أهله، وهذا أيضاً على خلاف بينهم في رجوعه هذا ما المراد به؟ أي هل يكون الرجوع بمجرد الشروع فيه بحيث يصوم في الطريق إذا استراح ببلد مدة أسبوع أو أكثر، أم لا بد من الوصول إلى بلده؟ فمن أهل العلم من قال: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ يصدق عليه القول بشروعكم في الرجوع، وعلى هذا له أن يصوم إن شاء ولو لم يصل إلى موطنه، والمشهور من كلام أهل العلم أن ذلك إنما يكون برجوعه إلى بلده.

وكذا روى أبو إسحاق عن وبرة عن ابن عمر -ا- قال: "يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة"، وكذا روى عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي أيضًا.

قوله: يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، هذا يفسر الكلام السابق من أنه قبل يوم عرفة، يعني الابتداء، وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضًا.

ومثْل ابن جرير الطبري -رحمه الله- لا يفرق في ذلك، فهو لا يقول: إنه يصوم أيام التشريق إذا اضطر إلى هذا، كأن لم يجد قدرة إلا في أيام التشريق أو نحو ذلك، وإنما يقول: هو مخير، إن شاء صام قبل عرفة، وإن شاء صام في أيام التشريق، فكل ذلك يكون فيه ممتثلاً؛ لأن الله قال: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فهو لازال في الحج.

والذي عليه عامة أهل العلم أنه يصومها قبل عرفة، وإن اختلفوا في التفصيلات، مثل متى يبتدئ الصيام؟ ولكن أيام التشريق لا تصام؛ لأن النبي ﷺ قال عنها: أيام أكل وشرب وذكر الله [5] وعدَّها من أيام العيد، فقال: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام[6] ونهى عن صيامها ﷺ.

فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد يجوز أن يصومها في أيام التشريق؛ لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري: "لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لا يجد الهَدي"[7].

وروى سفيان، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.

وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:196​​​​​​​].

وأما ما رواه مسلم عن قتيبة الهذلي قال: قال رسول الله ﷺ: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله [8] فهذا عام، ورواية عائشة وابن عمر مخصوصة منه.

الآن صار النظر في هذه النصوص على ثلاثة مناحٍ هي:

الأول: أنه يمنع مطلقاً صيام أيام التشريق؛ باعتبار أنها أيام أكل وشرب.

الثاني: الجواز والإباحة بإطلاق لمن لم يجد الهدي، أي أن له أن يتخير صيامها ابتداءً فيقول مثلاً: أنا لا أريد أن أصوم يوم ثمانية ولا يوم سبعة، أنا أريد أن أصوم أيام التشريق، وهذا قول ابن جرير –رحمه الله.

الثالث: وهذا أعدل هذه الأقوال- أن يصوم قبل يوم عرفة فإن لم يتمكن فإنه يؤخر ذلك إلى أيام التشريق.

وقوله: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196​​​​​​​] فيه قولان: أحدهما: إذا رجعتم إلى رحالكم، الثاني: إذا رجعتم إلى أوطانكم.

روى عبد الرزاق عن سالم، سمعت ابن عمر -ا- قال: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196​​​​​​​] قال: إذا رَجَع إلى أهله، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس.

طبعاً هذا ليس محل اتفاق كما سبق بيانه آنفاً من أن بعض أهل العلم يقول: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ يصدق عليه الشروع في الرجوع ولو لم يصل إلى موطنه، والقول بأن الرجوع في الآية يقصد به رجوعه إلى رحله في مكة أو نحوها هو قول الإمام مالك.

وبعضهم بالغ في هذا غاية المبالغة فقال: قوله: يقول: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ هذا ليس على الوجوب، وإنما هو من أجل التخفيف والرفق بالمكلفين فقط، وإلا فإنه إذا شاء أن يصوم في أيام الحج فإنه يصوم، وهذا قال به ابن جرير، ويقولون: إن هذا مثل قوله: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184]، فالمريض والمسافر إذا صام في مرضه وسفره فإنه يجزئه، وإنما قال له: أفطر وصم أياماً تقضِ فيها ما أفطرت على سبيل الرفق به فقط، فإذا قال: أنا أريد أن أتجشم الصوم فإن هذا يصح ولا إشكال فيه، وكذلك في الحج يقال: إنما هو من باب الإرفاق بالمكلفين فقط.

وهذا خلاف ما عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً، بل إن الكثير منهم قالوا: لا يجزئه الصوم إلا بالتفريق؛ لأن الأمر بالصيام جاء على ثلاثة أنواع: تارة يأمر بها بإطلاق كما في كفارة اليمين على القراءة المتواترة، فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة:89].

وتارة جاء الأمر به مقيداً بالتتابع كما في كفارة القتل، وكفارة الظهار، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92]، [سورة المجادلة:4] وتارة جاء مقيداً بالتفريق كما هنا في عدم إمكانية الهدي قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196​​​​​​​]، وكما جاء في كفارة اليمين في قراءة ابن مسعود غير المتواترة، وهي: (صيام ثلاثة أيام متتابعات).

وعلى كل حال فإن الله فرق بينها بهذه الطريقة فيمتثل العبد ذلك بأن يصوم أياماً متفرقة، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، والله أعلم.

وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر -ا- قال: تمتع رسول الله ﷺ في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة، وبدأ رسول الله ﷺ فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتع الناس مع النبي ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النبي ﷺ مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل من شيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ ثم ليُهِلّ بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وذكر تمام الحديث، والحديث مخرج في الصحيحين[9].

وجاء أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس –ا: وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم[10].

والحديث جاء فيه الأمر بالصوم مفرقاً ولم يفصل لهم فيه، أي: أنه لم يقل لهم النبي ﷺ: وذلك ليس بعزيمة مثلاً، أو نحو ذلك، ثم إن الأصل أن الأمر للوجوب ما لم يصرف عن ذلك صارف، إلا أن مثل ابن جرير -رحمه الله- يرى أن الصيغة والصورة خبرية لكنها بمعنى الأمر، وهذا خلاف المشهور في تفسير الآية.

وقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196​​​​​​​] قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي.

في قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ يقول ابن كثير: هذا تأكيد، والمعنى أنه خبر محض، فهو يخبر أن صيام سبعة أيام وثلاثة نتيجته عشرة أيام، لكن ابن جرير يقول: لا، ليس المعنى هنا هو التأكيد، وإنما المقصود أن هذا خبر مضمن معنى الإنشاء الذي هو الأمر، أي: عليكم أن تكملوا صيام هذه الأيام العشرة من غير نقص.

وقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196​​​​​​​] قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي، وقال الله تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، وقال: وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [سورة العنكبوت:48]، وقال: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف:142]، وقيل: معنى كَامِلَةٌ الأمر بإكمالها وإتمامها.

قوله: وقيل: معنى كَامِلَةٌ الأمر بإكمالها وإتمامها، هذا قول ابن جرير –رحمه الله، وأما ابن كثير فإنه يقول: إن قوله: كَامِلَةٌ جاءت للتأكيد كقوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، فالطائر لا يطير برجليه، وكقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] ومعلوم أن الإنسان لا يتكلم بأذنه، وكقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، والإنسان لا يكتب برجله، وهذا أسلوب عربي معروف، وله دلالة في كل موضع بحسبه.

ومن العلماء من يذكر وجوهاً أخرى في التفسير، ففي قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] يقولون: لئلا يتوهم أن المقصود الإسراع؛ لأن العرب تعبر بالطائر أحياناً لتكني به عن السرعة، وإنما المقصود هنا الطائر المعروف.

وقال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]: أي ليسجل عليهم هذا الجرم من باب الإدانة، وفي قوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، أي: أنه لم يكتبه غيره أو عزاه إلى غيره بكتابته وإنما قاله بفيه، والمقصود أن هذا أسلوب عربي معروف.

فالمقصود أن بعض أهل العلم لا يخرج ذلك عن قول من قال: إنه للتوكيد كما قال ابن كثير؛ أو للاحتراز من أن يفهم غير المراد، فالله تعالى قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196​​​​​​​]؛ لئلا يتوهم أنه بقي منه شيء بعد ذكر السبعة والثلاثة لما قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196​​​​​​​]، إذ يمكن أن ينتظر السامع زيادة أيام أخرى يطالب بها، فهو أغلق هذا الاحتمال فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196​​​​​]، يعني من غير زيادة.

كما أنه يمكن أن يقال: إنه قال ذلك لئلا يرد وهم آخر حيث قد يظن السامع أنه مخير بين صيام ثلاثة أيام في الحج أو يصوم سبعة إذا رجع، فيكون ذلك لا على سبيل الجمع وإنما يكون ذلك على سبيل البدل، إما هذا أو هذا، فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196​​​​​​​]، والله أعلم.

وقوله: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196​​​​​​​] حاضروه هم أهل الحرم، فلا متعة لهم، وروى عبد الرزاق عن طاوس قال: المتعة للناس لا لأهل مكة.

هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهو أن أهل مكة ليس عليهم متعة، والعلماء مختلفون في أهل مكة هل تشرع لهم العمرة أم لا؟ وذلك باعتبار أن العمرة هي الزيارة، وأهل مكة هم قاطنو البيت، وعلى قول من قال: إن العمرة تشرع لهم فإنهم يخرجون إلى الحل ليجمعوا بين الحل والحرم، فيكون قاصداً للبيت من خارج الحرم.

وابن جرير -رحمه الله- يحمل قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196​​​​​​​] على من لم يكن بينه وبين مكة مسافة قصر، أي: حتى لو كان من غير أهل الحرم، فالتنعيم مثلاً هو حي من أحياء مكة حيث إن بعضه في الحل وبعضه في الحرم، وعرفة من الحل، وكذلك القرى القريبة من عرفة ونحو ذلك، فهل أهل هذه المناطق يشرع لهم التمتع أم لا؟ ابن جرير –رحمه الله- يقول: من ليس بينه وبين مكة مسافة قصر فهو من حاضري المسجد الحرام.

عن طاوس قال: المتعةُ للناس لا لأهل مكة مَنْ لم يكن أهله من الحرم، وكذا قول الله : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قال: وبلغني عن ابن عباس -ا- مثلُ قول طاوس.

يقول: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، اسم الإشارة ذَلِكَ يعود إلى التمتع، والمعنى أن التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فمفهوم المخالفة أن من كان أهله من أهل المسجد الحرام فإنه لا متعة لهم.

وبعض أهل العلم يحمل اسم الإشارة على أنه يرجع إلى وجوب الهدي والصيام المذكور في قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196​​​​​​​]، أي أن صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إذ إنه إذا كان من أهل الحرم فكيف سيرجع إلى المصر الذي جاء منه ليصوم الأيام السبعة.

والقائلون بهذا يقولون: إن أهل مكة يتمتعون كما يتمتع غيرهم، بل إن بعضهم يقول: حتى من ساق الهدي يمكن أن يتمتع لكنه لا يحل من إحرامه لوجود المانع، وأما النسك فإنه يقع تمتعاً، وهذا القول قال به قليل من أهل العلم، لكن المعنى المشهور هو أن اسم الإشارة ذَلِكَ يعود إلى التمتع، أي أن التمتع إنما يكون لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وبالتالي فأهل مكة لا متعة لهم، إلا أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن المسألة ليست محل اتفاق.

وقوله: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي: فيما أمركم وما نهاكم، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196​​​​​​​]  أي: لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب قول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (4245) (ج 4 / ص 1642) ومسلم في كتاب الحج - باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها (1201) (ج 2 / ص 859) واللفظ للبخاري.
  2. سيأتي تخريجه.
  3. أخرجه أحمد (ج 4 / ص 241) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من ذبح ضحية غيره (5239) (ج 5 / 2113) ومسلم في كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران وجواز إدخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه (1211) (ج 2 / ص 870).
  5. أخرجه أحمد (ج 5 / ص 76) وقال شعيب الأرنؤوط:  إسناده صحيح على شرط مسلم.
  6. أخرجه أبو داود في كتاب الصوم – باب صيام أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (1894) (ج 2 / ص 703).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الصيام - باب تحريم صوم أيام التشريق (1141) (ج 2 / ص 800) دون قوله: وذكر الله  ورواه أحمد واللفظ له (ج 5 / ص 75).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب من ساق البدن معه (1606) (ج 2 / ص 607) ومسلم في كتاب الحج – باب وجوب الدم على المتمتع وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله (1227) (ج 2 / ص 901).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الحج – باب قول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196] (1497) (ج 2 / ص 570).

مواد ذات صلة