الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[8] قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً} الآية 16 إلى قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} الآية 25
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 2717
مرات الإستماع: 2686

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [سورة الإسراء:16].

اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرًا قدريًا، كقوله تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [سورة يونس:24] فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قالوا: معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش، فاستحقوا العذاب، وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة، رواه ابن جريج عن ابن عباس -ا، وقاله سعيد بن جبير أيضًا.

قال علي بن طلحة عن ابن عباس -ا- قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا، يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] الآية، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا- وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا يقول: أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة، وعن مالك عن الزهري أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أكثرنا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا، أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ذكر عدة أقوال: القول الأول: بمعنى أنه أمر قدري، أي الأمر الكوني، ومعلوم أنه لا يمكن أن يقال بأن الأمر هنا الأمر الشرعي إلا إذا حمل على الأمر بالطاعة، ومعلوم أن الأمر نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي، فالأمر الكوني: بمعنى أن الله يقضي بالأمر ويقدره فيكون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة النحل:40]، فهذا أمر قدري، فـأَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي: أمرناهم أمرًا كونيًا قدريًا بالمعصية والكفر والفجور فَفَسَقُواْ، وهذا الأمر كما هو معلوم لا يقتضي المحبة، ولا ملازمة بينه وبين الرضا؛ ولهذا قال الله : إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7]، لا يرضاه لهم دينًا، وهذا القول بأنه الأمر الكوني قال به طائفة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، واختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، باعتبار لفظ الأمر، وأنه لا يتأتى في الأمر الشرعي، ومثل هذا القول لا محظور فيه، يعني من جهة المعنى وهو جارٍ على الاعتقاد الصحيح، أمرناهم أمرًا كونيًا.

ثم ذكر القول الآخر: أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة، والأمر في قوله: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فيه مقدر محذوف، أمرنا مترفيها بالطاعة فَفَسَقُواْ فِيهَا، أما على القول الأول أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فهو أقرب إلى الظاهر، أمرهم ففسقوا، فتكون الفاء مرتبة لما بعدها على ما قبلها، أمرناهم ففسقوا، تكون كالنتيجة لهذا الأمر، القول الآخر: أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويكون الأمر هو الأمر الديني الشرعي، وهذا القول أيضًا ليس بمستبعد، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وممن اختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع.

يقول: عن ابن عباس -ا- من طريق علي بن طلحة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا يقول: ”سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله“، وساق قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا [سورة الأنعام: 123]، وهذا يمكن أن يكون جاريًا على القراءة المروية عن بعض السلف كأبي عثمان النهدي وأبي رجاء وأبي العالية والربيع ومجاهد والحسن أمَّرنا مترفيها يعني: جعلناهم متأمرين أمراء، هذا معنى سلطناهم، ففسقوا فوقع العذاب، وهو معنىً رابع عن ابن عباس من طريق العوفي ولا يصح هذا الطريق، يقول: ”أكثرنا عددهم“، ونقله عن جماعة.

أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي: أكثرنا، تقول: أمر القوم إذا كثروا، وجاء في قراءة مروية عن بعض السلف -، بعض الصحابة: علي وابن عباس والحسن آمرنا مترفيها بالمد، يعني أكثرها، فَفَسَقُواْ فِيهَا، بالنسبة للقراءة المتواترة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا إما أن يحمل ذلك على الأمر الكوني، وإما أن يحمل على الأمر الشرعي، أمرناهم بالطاعة ففسقوا، ولا يبعد أن يحمل على المعنيين، أي أمرناهم أمرًا كونيًا فوقع منهم الكفر، وأمرناهم أمرًا شرعيًا فعصوا وكفروا، وبين الأمرين ملازمة بالنسبة لهذا الإنسان الكافر، إذا قلنا بأن الأمر هنا الأمر الكوني، أن الله قضى كفره.

ثم إذا قيل: أيضًا الأمر الشرعي أمره بالطاعة فوقع منه الكفر، هذا الكفر الذي وقع منه إنما وقع بقضاء الله وقدره، لكن الإرادة الشرعية، تخلفت في هذا الكافر؛ لأن الله لم يرد منه الكفر شرعًا، ومعلوم أن الإرادتين الكونية والشرعية تجتمعان في المؤمن، وتوجد الإرادة الكونية في الكافر، لكن إذا فسرت الآية هنا أمرناهم بالطاعة فكفروا، فكفرهم هذا إنما كان بقدر الله ، فلا يقع في الكون شيء إلا بإرادة الله الكونية، والله تعالى أعلم.

ووجه تخصيص المترفين يمكن أن يقال: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا باعتبار أن الناس تبعٌ لهم، ولهذا قيل: عادات الملوك ملوك العادات، تنتشر العادات بين الناس عن طريق الكبراء أولًا، فيقتدي بهم بقية الناس، فقد يكون من هذا الباب أنه خص المترفين أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فوقع الفجور من البقية والكفر بالله .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا [سورة الإسراء:17].

يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدًا ﷺ، بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى، وقوله: وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا أي: هو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية .

قوله: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ يدل على التكثير، كما قال الله : وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [سورة الفرقان:38].

مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مّدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُورًا [سورة الإسراء:18، 19].

يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات، فإنه قال: عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ أي: في الدار الآخرة يَصْلاهَا أي: يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه، مَذْمُومًا أي: في حال كونه مذمومًا على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مّدْحُورًا: مبعدًا مقصيًا ذليلًا مهانًا. وقوله: وَمَنْ أَرَادَ الآخرة أي: أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول ﷺ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: قلبه مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُورًا.

قوله -تبارك وتعالى: مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ، هذه الآية يقول الحافظ -رحمه الله: ”.. أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له“؛ لأن هذه الآية قيدها الله بقيدين، قيدها بالمشيئة فيما يتصل بالعطاء، وقيدها أيضًا بمن أراد إعطاءه لِمَن نّرِيدُ، يعني هي مقيدة في العطاء، ومقيدة في المعطَى، مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ، وهذه الآية مقيدة للآيات الأخرى كآية هود، فالله يقول فيها: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16]، وقوله: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20].

وفي قوله: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [سورة آل عمران: 145]، فهي غير مقيدة، والمعلوم أن المطلق يحمل على المقيد، فالآيات الثلاث تقيدها هذه الآية، ما كل من أراد الدنيا أعطي حسب إرادته، وإنما يكون العطاء مقيدًا بما شاءه الله ، وهكذا هؤلاء المعطَوْن: يعطي الله من يشاء ويمنع من يشاء، فهذه الآية فيها سؤال معروف عند أهل العلم وهو أن الله قال: ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مّدْحُورًا، وفي آية هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فهذا لا يكون إلا للكفار، وفي قوله: وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ، ففي هذه الآيات الثلاث وعد بالنار، أو أخبر الله أنه لا حظ له في الآخرة.

فالحاصل أن السؤال الذي يرد في هذا هو هل كل من كانت له إرادة للدنيا فإنه متوعد بالنار، أو الخلود بالنار مع أن الإنسان لا يخلو من إرادة للدنيا؟ والله قال عن أصحاب النبي ﷺ في واقعة معينة: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ [سورة آل عمران: 152] فالشاهد أن مثل هذا يستشكل من هذه الحيثية؛ ولهذا العلماء تكلموا على المراد في هذه الآيات، فبعض أهل العلم قال: هذه الآية في أهل الرياء، هذا قال به بعض الصحابة كمعاوية -، وأبي هريرة راوي حديث: ”أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة... “، وقال بعده: صدق رسول الله ﷺ، وقرأ آية هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، فحملها على أهل الرياء، وحينما تحمل الآية على أهل الرياء، يحتاج فيه إلى قيد، فإما أن يقال بأن ذلك فيمن كان مرائيًا في أصل الإيمان، من أجل أن يكون متوعدًا بالخلود بالنار، وإما أن يقال بأن جميع الأعمال التي يعملها إنما هي على سبيل الرياء، لكن من وقع له رياء في بعض الأعمال وأصل الإيمان صحيح فمثل هذا لا يكون خالدًا في النار.

ومن أهل العلم من حملها على أنها في الكفار، مع أن ظاهر الآية العموم مَن كَانَ يُرِيدُ؛ ولهذا يمكن أن يوجه هذا القول ويجمع بينه وبين قول آخر لعله الأوضح من هذه الأقوال، وهو أن يقال: من كانت الدنيا همه وغايته التي يسعى ويعمل من أجلها، وهي طلبته التي يقوم لها ويقعد، ليس له هم ولا مطلوب سوى الحياة الدنيا، فهذا متوعد بالنار، حتى الأعمال الصالحة التي قد يعملها، يعملها من أجل أمر دنيوي، فهو يزكي ماله من أجل أن ينمو ماله، ويصل الرحم من أجل أن ينسأ له في أثره مثلًا، ويصوم ليصح، ويحج للتجارة، ويجاهد للغنيمة، وهكذا، كل أعماله يبحث عن الفائدة من هذا العاجلة، فإذا رأى شيئًا عاجلًا فعله، فمن كانت الدنيا هي غايته التي يقوم من أجلها ويقعد فهو متوعد بالنار.

وأهل الرياء يدخلون في هذا؛ لأنهم أشركوا بالله ، والذين كل أعمالهم رياء، أو دخل الرياء في أصل الإيمان، هم أيضًا كذلك؛ لأنهم أرادوا أمرًا دنيويًا، أرادوا الحظوة في قلوب الناس، والثناء، وما أشبه هذا، وهذا جواب عن هذا الإشكال، فمن قال بأنها في الكفار، فمن كان بهذه المثابة في الوصفين اللذين ذكرت فهذا أصلًا إنما يكون للكفار، إما الكفار في الباطن كالمنافقين أو الكفار في الظاهر، والله المستعان.

وإذا تأملت في الآية وجدت ما يدل على هذا فيها، فالتعبير بالكون الماضي مثلًا يدل على الثبوت، مَن كَانَ، ثم ذكر فعل الإرادة بالمضارع يُرِيدُ يدل على التجدد، أن هذا ديدنه في كل عمل يتجدد له، يُرِيدُ هذه الإرادة متجددة له، يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، ثم مما يدل على أنه لا يريد إلا الدنيا أنه قابله بإرادة الآخرة، وهذه المقابلة تشعر بالحصر، بمعنى أنه ليس مجرد وجود الإرادة في قلبه للدنيا يعني أنه متوعد بهذه العقوبة، فهذا لا يخلو منه أحد، وإنما المقصود أنه ليس له مطلوب إلا الدنيا، فقابله: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ، فهذه قرائن في الآية تدل على هذا المعنى -والله أعلم.

وهي الدنيا، وقيل لها: عاجلة لسرعة تقضِّيها، سواء تقضِّي ما فيها من اللذات والشهوات، أو تقضِّي تصرم الأوقات، فهي كأحلام النائم والظل الزائل، سريعة الانقضاء، والمراد بالتعجل في قوله: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء المقصود في الدنيا؛ ولهذا قال: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا فهو تعجيل عرفي، ليس المقصود أنه بمجرد ما تطلب نفسه هذا أنه يحصل له، قد يحصل له وقد لا يحصل، فإن حصل لا يعني أنه يحصل مباشرة، و”ثم“ هذه تدل على الترتيب الرتبي، ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مّدْحُورًا.

المعنى الذي ذكره الحافظ -رحمه الله- في قوله: ”وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: قلبه مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُورًا“، واضح، ففسر الإيمان بمجرد التصديق؛ لأنه ذكر العمل بعدها فقال: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، العلماء أحيانًا يتوسعون في العبارة، فيفسرونه بما يقرب منه وإلا فإن أقرب ما يفسر به في اللغة بمعنى الإقرار والتصديق الانقيادي، فيكون التصديق مقيدًا، وليس مطلق التصديق، تصديق انقيادي.

كُلًّا نّمِدّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا ۝ انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [سورة الإسراء:20-21].

يقول تعالى: كُلًّا: أي كل واحد من الفريقين: الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نمدهم فيما فيه[1] مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ أي: هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور، فيعطي كلًّا ما يستحقه من السعادة والشقاوة، فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد؛ ولهذا قال: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا أي: لا يمنعه أحد، ولا يرده راد، قال قتادة: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا أي: منقوصًا، وقال الحسن وغيره: أي ممنوعًا، ثم قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ أي: في الدنيا، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك، والحسن والقبيح وبين ذلك، ومن يموت صغيرًا، ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا وبين ذلك، وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي: وَلَتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون في ما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الصحيحين: إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء[2]؛ ولهذا قال تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

لاّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مّخْذُولًا، يقول تعالى -والمراد المكلفون من الأمة: لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكًا، فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا أي: على إشراكك به، مّخْذُولًا؛ لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه، وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا؛ لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما أجل عاجل وإما غنى عاجل[3]. رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

قوله تبارك وتعالى: فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا قال: ”أي على إشراكك به، مّخْذُولًا؛ لأن الرب تعالى لا ينصرك“، فَتَقْعُدَ هذه اللفظة تدل على معنىً أصلي ومعنىً فرعي، يمكن أن يقال: فَتَقْعُدَ يعني تصير إلى حال وهي ما ذكر، وهي تدل على أن هذا الإنسان بفعله هذا بالإشراك بالله يتورط ولا يستطيع النهوض والخلاص من هذه البلية التي وقع فيها؛ ولهذا قال: مَذْمُومًا مّخْذُولًا، ليس له ناصر؛ ولهذا قال الله : وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة: 123]، نفى عنهم كل ما يتخلصون به من فدية ونصر، أو وساطة وشفاعة، وهذا هو الخذلان، لا يجد من يخلصه أو ما يخلصه.

وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23-24].

يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له، فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر، قال مجاهد: وَقَضَىَ يعني: وصّى، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم: ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه؛ ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين، فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: وأمر بالوالدين إحسانًا، كقوله في الآية الأخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان:14].

قوله: وَقَضَىَ أي: أمر بعبادته، هذا أحد المعاني التي تأتي لها قضى؛ لأنها تأتي بمعنى أمر وتأتي بمعنى حكم، الله يقضي بالحق، وتأتي بمعنى وصى، وتأتي بمعنى الفراغ من الشيء، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [سورة البقرة: 200] وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [سورة الجمعة:10] يعني فرغ منها، وتأتي بمعانٍ أخرى، وتفسيره لها بمعنى أمر، وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ يرِد عليه إشكال وهو أن هذه الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآيات فيها أمور منهية، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31]، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [سورة الإسراء:32]، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الإسراء:34]، وما شابه ذلك، فهذه منهيات، فإذا فسرت قَضَىَ بمعنى أمر يرد عليها هذا الإشكال؛ ولهذا أحسن ما تفسر به -والله أعلم- وهو الذي تدل عليه القراءة الأخرى غير المتواترة ووصى، والقراءة الآحادية تفسر القراءة المتواترة، فيكون قَضَىَ بمعنى وصى، وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ بمعنى وصى أن لا تبعدوا إلا إياه، وصى بعبادته، والوصية بمعنى الأمر والنهي، تجمع بينهما، فإذا جاءت النواهي بعدها فهذا داخل فيها، فهي أمر ونهي يقصد توثيقه وتأكيده، وتقريره، فتقول: أوصيك بكذا وأوصيك بكذا.

وقوله: إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ أي: ولا تُسمعهما قولًا سيئًا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، وَلاَ تَنْهَرْهُمَا أي: ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: وَلاَ تَنْهَرْهُمَا أي: لا تنفض يدك عليهما.

أصل النهر، الإغلاظ في القول، ونفض اليد يلحق به من جهة الفعل، أما ”نهره“ فمعناه أغلظ له في القول، يعني قال له قولًا فيه غلظة وشدة، وقوله: إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ، لا يختص بحالة الكبر، لكن ذكرت حالة الكبر؛ لأن الحاجة فيها أشد إلى الرعاية واللطف؛ لأسباب كثيرة.

وقوله هنا: أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فهذا إنما جيء به -والله تعالى أعلم- ليدل على أن حق كل واحد منهما ثابت على سبيل الاستقلال، حق ثابت له؛ لأن الإنسان قد يثقل عليه القيام بحقهما معًا وقد يقوم بحق أحدهما برًا بالآخر، يعني قد لا تكون علاقته على وئام بأحدهما فيقوم بحقه برًا بالآخر، أبوه يأمره ببر أمه، وهو ليس على حالة مرضية معها، فيقوم بالبر من أجل أنه يبر أباه بهذا، فهذا لا يجوز، حتى لو حصل البر، فهذا حق ثابت لكل واحد منهما على سبيل الاستقلال، أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فهذان معنيان، والله تعالى أعلم.

ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن، فقال: وَقُل لّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا أي: لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم.

لا يكفي أن يكون الإنسان لا يصدر منه تصرف سيئ، يكف عما لا يليق في التعامل مع الأبوين فقط، بل لابد من التعامل الحسن، والكلام الطيب، والفعل الجميل من برٍ بالمال، إن كانا محتاجين، أو بالتلطف بالعبارة، وحسن المعاشرة، وما أشبه ذلك، فهذا كله داخل فيه، وَقُل لّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ أي: تواضع لهما بفعلك، وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا أي: في كبرهما وعند وفاتهما، قال ابن عباس -ا: ثم أنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة: 113] الآية.

يقول ابن عباس -ا: ثم أنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْالآية، وقوله تبارك وتعالى: وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا مقيدة بالآيات الأخرى، أي ما لم يكونا على الإشراك، لكن لو أن أحدًا دعا لوالديه في حال الحياة بالرحمة، قال: رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا، وقصد بالرحمة أن الله يلطف بهما فيحصل من ذلك الدخول في الإسلام، هذا من رحمة الله بالعبد، فهذا لا محظور فيه، فقال هنا: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ.

قال الحافظ -رحمه الله: ”تواضع لهما بفعلك“، التواضع لين الجانب، والجناح مضاف إلى الذل، وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته، فيكون المعنى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ يعني: جناحك الذليل، يعنى: تواضع، الجناح يطلق على الجانب، ويطلق على يد الإنسان جناح، فإذا أراد الإنسان أن يبطش رفع يده، ويمكن أن يتصوره الإنسان بتصور الطائر حينما يرفرف بجناحيه على صغاره، مِنَ الرّحْمَةِ وهذا قيد يبيّن أن صدور هذا الفعل وهو التواضع ليس لمصلحة دنيوية ولا لخوف ولا رياء، وإنما يكون ناتجًا من الرحمة بهما، ولا يفعل ذلك خوفًا، ويدل على تأكده وتأصله وتجذره ما بعده من قوله: وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا فهو يدعو لهما، لكن من يفعل هذا رياءً أو يفعل ذلك خوفًا أو رجاء مصلحة دنيوية، لن يتحرك في قلبه مثل هذا الدعاء فيدعو لهما في الصلاة وغيرها.

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي ﷺ لما صعد المنبر ثم قال: آمين آمين آمين قيل: يا رسول الله علام أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين[4].

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: رغم أنف، ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كليهما عند الكبر ولم يدخل الجنة[5]، صحيح من هذا الوجه ولم يخرجوه، سوى مسلم.

روى الإمام أحمد عن معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال: فهل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة عند رجليها[6]، ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، ورواه النسائي[7] وابن ماجه[8].

روى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ قال: إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب[9]، وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به.

روى أحمد عن رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي ﷺ فسمعته وهو يكلم الناس يقول: يد المعطي العليا، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك[10].

رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُورًا [سورة الإسراء:25].

قال سعيد بن جبير: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه، وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به، وفي رواية: لا يريد إلا الخير بذلك، فقال: رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ، وقوله: فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُورًا قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة، وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله: فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُورًا قال: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، ويصيبون الذنب ثم يتوبون.

وقال عطاء بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير، وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الآية: هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها، ووافقه مجاهد في ذلك.

وقال ابن جرير: والأولى في ذلك قول من قال: هو التائب من الذنب، الرجاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه، وهذا الذي قاله هو الصواب؛ لأن الأواب مشتق من الأوب، وهو الرجوع، يقال: آب فلان إذا رجع، قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [سورة الغاشية:25]، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ كان إذا رجع من سفر قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون[11].

هنا في قوله: رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ يقول: ”قال سعيد بن جبير: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه“، إلى آخره، بمعنى أنه تحصل منه الإساءة دون قصد.

رامَ نفعًا فضرّ من غير قصدٍ ومن البرِّ ما يكون عقوقًا

وقد لا يوفق الإنسان، يريد البر فتحصل من جراء ذلك الإساءة إلى الوالدين فمثل هذا يغتفر، الله يغفر له لحسن قصده، أنه ما أراد الإساءة والعقوق، وهناك معنىً آخر لا ينافي هذا المعنى، والآية بعمومها تشمل ذلك كله رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ يعني: من صلاح القصد والنية والإخلاص في البر، ومن يفعل ذلك تصنعًا وتكلفًا أو رياءً، وما أشبه ذلك من المعاني الفاسدة، فتكون الآية مضمنة بهذا الاعتبار معنى الإخلاص أو الأمر بالإخلاص، إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا، ”قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة“، فالمطيع راجع إلى طاعة الله ، والمتبادر أنه الذي يتوب، يصيب الذنب فيتوب، ولما كان الإنسان لابد له من ذنوب ولابد له من تقصير في الطاعات، كان لابد له من توبة مع كل تقصير وذنب، فأتى بلفظ الأوابين على صيغة المبالغة، كثرة التوبة وكثرة الرجوع، الله أعلم.

  1. وفي بعض النسخ من الأصل (تفسير ابن كثير): " نمدهم فيما هم فيه"، (5/63) طبعة دار طيبة، تحقيق: سامي بن محمد سلامة.
  2. undefined
  3. رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف، برقم (1645)، وأحمد في المسند (6/415)، برقم (3869)، وقال محققوه: إسناده حسن، والترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الهم في الدنيا وحبها، برقم (2326)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2787)، وفي صحيح الجامع برقم (10985).
  4. رواه البخاري في الأدب المفرد، باب من ذُكر عنده النبي ﷺ فلم يصلِّ عليه، برقم (644)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1471)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: صحيح لغيره برقم (501).
  5. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنة، برقم (2551)، وأحمد في المسند (14/231)، برقم (8557)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  6. رواه أحمد في المسند برقم (15538)، وقال محققوه: إسناده حسن، وقال الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح: إسناده جيد، برقم (4939).
  7. رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، برقم (3104).
  8. لم أجده في الصحيحين بهذا اللفظ وإنما رواه أحمد في المسند (17/302)، برقم (11206)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وإنما الموجود في الصحيحين حديث عن أبي سعيد الخدري : عن النبي ﷺ قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق، أو المغرب لتفاضلِ ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3083)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2831).
  9. رواه أحمد في المسند (28/424)، برقم (17187)، وقال محققوه: إسناده حسن، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب بر الوالدين، برقم (3661)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1924).
  10. رواه النسائي، كتاب الزكاة، باب أيتهما اليد العليا، برقم (2532)، وأحمد في المسند (11/674) برقم (7105)، وقال محققوه: إسناده حسن، وقال الألباني: سنده جيد، في إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل (3/319)، وصححه في صحيح الجامع برقم (8067).
  11. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يقول إذا رجع من الغزو، برقم (2920)، ومسلم، كتاب الحج ، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، برقم (1345)، من حديث أنس بن مالك .

مواد ذات صلة